مقدمة :(السماء رحيمةٌ جداً /لأنها تسمح للشهداء /برؤية اطفالهم يتسولون) كاهن الخذلان ص63
تظل الفضاءات الشعرية مفتوحة وقابلة لتحليق الشعراء وسماع غواية بناءات رؤاهم الفنية للنص وانتاجها وفق لزوميات تحقيق الجمال الشعري،ومنها نهجهم في الخروج لمخالفة ومشاكسة وتخطأت المألوف والثابت ايضاً ،حتى صناعة المفارقة في التجاوز على المتفق والعبور للممنوعات ،والذي يظل باعثا لنقش هجسهم شعراً كما يرون في تحقيق جمالية الإيصال الشعري للنص،ومنها استفزاز المتلقي، بعد ان فقدت القصيدةُ حرارتها لدى الشاعر المحاصر والباحث من مللٍ عن الاسئلة ،مثلما هو باعث عن الصرخة الرافضة لكل مسوغات القبح،ليحقق الشاعر قناعته في حرارة الخطاب الموازي والمعادل لمحنة الإنسان، ليحمل الشاعر مغامراته لمحاكات اليومي والهامشي والمخذول منه، وهذا ما جعل فعل التحوّل الشعري هنا قريبا من لعبة الإزاحات الكبرى، بدءا من إزاحة الثابت المستهلك و التحرش بالقناعات، ومن الخروج من اغواءات الأدلجة والكشف عن واقع الانسان الحالم واسباب انكساراته و رهاب اعتراضاته من الاعتقال والتعذيب والاحتلال والحرب و الموت،لتجرفه لنائحة المراثي والفجائع، والسخريات الفادحة، والمنافي .
وهذا ما نهجه الشاعر “علي الشيال” في بناءات اصداره الشعري الاخير “كاهن الخذلان” وهو أمام وعي أكثر تجاوزا للممنوع ،و لا بد هنا من التأكيد على ضرورة قراءة النصوص هنا، من منطلق التداعيات المابعد خاصية اللغة في تعبيرها وتصويرها الشعري، ومن أثر طبيعة فوراتها وانفعالها، لنستشف عقلانية اللغة الانفعالية التي اشتغل عليها الشاعر في تجاوزاته للمعتبرات ذات الشأن في ايمان المجتمع و ظنونه.
و قد تشكل المكون الشعري في “كائن الخذلان” بنصوص قصيرة ومقاطع ،وبعضها بمثول ومضات شعرية ،تعددت وفق تعدد وتنوع و توزع طبيعة الثيمة المتضمنة، ومن الصور المنتقاة التي رصدتها عدسة الشاعر من واقع المحنة العراقية،والتي تعبرعن حالات الاستلاب التي امتدت طولا وعرضا على حياة الانسان ومن قبل تغير 2004 وبعده،وقد تمحور الخطاب الشعري على وصفها ومن حالات الحروب الصانعة والمنتجة للقتل والجوع،الحروب التي لايملك الشعب فيها لا وطأ له ولا قدم غير ان يسير ابناءه للموت المجاني والفقراء اولهم،لتضع الشاعر “علي الشيال” عند الحافة المستنفرة منه والمستفزة له،لترعب الهجس الشعري الذي ظل يدفعه كثيرا ليُفعل مرارة إحساسه بالتسائلات ،والتي شكلت له عقدة ألم ، ألمٌ لا ينفع معه الترياق الطبيعي للتعبير البارد للنص والمهدء بمفهوم روحية الشعر.
وكان لقسوة وألام الاحداث ومأساتها أثراً واضحا في خلق وتوسم المناخ الشعري ،والأخر المحدد للغة النص في التعبير عن الادانه والرفض واللعنة لكل اسباب الاستلاب حتى شتم لأولائك الحكام الصناع لها ،لتكون هذهِ اللغة الاكثر ملائمة لتضمينها الحزين لها.وكما في وصفه لها0 (السياسةُ عاهرة /والحربُ نغلتها /وأنا المقتول / بين عاهرتين)ص40.
وهي الحرب الرخيصة باسبابها والخاسرةِ بنتائجها الفاقدة لحقوق محاربيها والناكرة لشهداءها ،كما في وصفه الساخر المثير للتساؤل الحزين ايضاً والباعث للاحساس المنكسر بمقتها،كما في تضمنه الذاكر للسماء كجهة عليا في تقرير مصير البشر في الحياة..
(السماء رحيمةٌ جداً /لأنها تسمح للشهداء /برؤية اطفالهم يتسولون )ص23
هذهِ الحروب االمتعددة الحقب،التي أَحسها الشاعر وقَيَّسها في الوصف الغرائبي والمفارق،والظاهر لقسوتها في قوله
(الحرب السابقة جميلة / فلم اخسر فيها/غير ساق واربعة اصدقاء )مق39.
ويذهب الشاعر “علي الشيال”كذات فاقدة للأشياء الجميلة من حلم وحقوق حياتية، لتأكيد فقدان الحروب لاسبابها الوطنية العادلة،وفق معادلة المواطن المقاتل المغلوب على امره تحت القوة ، وكما في الكشف لخسارات الحرب، وهي خسارات متعددة وراهبة للانسان المجلوب فيها كمقاتل ،وتصبح خسارات معجزة له منها النفسية والجسدية ،وما صار عليها لتسخر منه اكذوبة الحرب وريائها كما في قراءة اللغة الوصفية (الميتالغة) لها…
(ذات رجولة فاشلة/قالت لي : سابصقُ على خرقتك المتدلية/كانت الحرب تحت السرير/تراقبني وتضحك لانتصارها) مقطع39
ويمكن اتضاح سببية التقطيع الشعري وتعدده وتنوعه الى تعدد حالات الاستلاب وكثرة حصولها لتزدحم في ذاكرة الشاعر وتطبع مخياله ،لهذا نهج الشاعر “علي الشيال ” للتعبير الدلالي المختزل المفتوح على سعة المعنى،لتتشكل بعض المقاطع بروح الومضة الشعرية وبناءها الاكثر اختزال كما في …
(انتَ يامن في السماء، هل كانت الحرب ابنتك المدللة …لتجعلها تنتصر علينا في كل حين)
وايضاً في ومضته الاخرى في محكيها عن الحبيبة التي لاتمر إلا ممتزجة في ألم الحرب (حينما سالوني عنكِ ،اكتفيت بدمعة).
و حرص الشاعر على تكوين لغوي خاص وملائم لثيمة الخطاب وموضوعه الفاجع، وبما اثار الشاعر وهو يقلب الواقع ،حيث رائحة الموتى ونواح الجياع لتصنع منه ذلك الكائن المنفعل المستشاط الباحت عن تفريغ لعناته على رجالات الفعل الظالم والكسوف الانساني،وهي لغة مؤهلة للتعبير عن حجم المفارقة المخالفة والغرابة الصانعة لتحريك المتلقي في قرائته…ليلفظها الشاعر شتم لكل الوقائع ومسببيها ، بدءاً من إزاحة مفهوم الثابت و التحرش بالقناعات وكل الكاهنات التي قدسها الانسان و صيرها مقررة لوجوده حتى قدم لها الشعب القرابين واكباش الفداء ومن خلال حروبهم المقدسة منهم ،حروبهم التي سخر منها الشاعر في وصف احد أبطالها المتوسمين بالشجاعة فيها في الصورة الشعرية ذات التراجيديا الكوميدية Tragicomedyالغرائبية المتسمة بالسخرية …
(باع أنواط الشجاعة / وأوسمة النصر /ليرتق حذاءه الممزقة)ص30
حرص الشاعر “علي شيال”على شد وايصال التوتر النفسي والعاطفي للقارئ،وفق تصوير شعري صادم، وبما أثار للمتلقي الرفض التام للحروب واسبابها ورجالاتها الصانعين لها وتجارها، ولما للفعل الشعري من تركيس لمنتج الحرب،ومن حالات مفصلها اللاخلاقي،كما في اختياره للدالة الرفيعة للعلم ،ولما صارت عليه في تصويره للحالة المختلة للسلوكـ ،وهو تصوير شعري يحمل دالتين في تضمين صورته الشعرية وبما يخل بالموقف الاخلاقي الغائر في السفلية الساقطة ،ومن دلالات ذات العلاقة العليا لقادة رجالات الحرب، والمتمثلة بالعلم العراقي والرئيس وما في زوجته وهذا ما تضمنه القول …
(العَلمْ الذي استشهد/من اجله نصف الشعب/كانت زوجة الرئيس /تستخدمه لأغراض خاصة / في سرير/ السائق الشخصي)ص58.
ولشمولية مأساة الحرب وقسوتها جميع مفاصل الحياة حتى راحت لتحاصر الانسان في رؤية حبيبته وتلزمه عبر ثقب الرصاصة المرعب والصغير الذي لايسع شوق الانسان ولايلبي لهفة ذلك الجندي المبتلى في الحروب…
(انا العاشق/الوحيد في هذا العالم /الذي ينظر لحبيبته /من ثقب رصاصة)ص47.
لقد كانت الة الحرب وكما في وصفية نصوص “كاهن الخذلان ” ألة حادة لاتعرف الرحمة والتوقف ،لذا راحت تبتلع ماتراه بل وتطلب المزيد ومن عد القتيل الاول لتتسارع لترقيم الالاف من القتلى ،كما يراها الشاعر …
(الكأس الاولى/في صحة الجندي الاول / الكأس الثاني / في صحة الجندي الثاني/ الكأس الالف في في صحة الجندي الثالث/ الكأس ال…في صحة الجندي/نفذ النبيذ في العالم/ولم ينتهي الثمل /من عد أسماء القتلى ) وفي المطع 97
ومن كثرة الاموات في الحروب والتغيب المميت ايضاً في المعتقلات السرية ،يذهب الشاعر في رفضة الجازم لموته وفق اوامر (الرئيس) واعوانه، وصناعتهم لموته وهو مسروق الفعل والقرار ،كما في تضمينه وهو يكره موته مقاتل في حروبهم ،بل راح في تمني موته خارج قراراتهم ، بل لموت وهو مسترخي تحيطه أشياءه الجميلة من موسيقى ولفافة تبغ عند شفتيه وباقي اشتهاءاته …
(أنا المقتول سلفاً / اريد ان اموت/بطريقتي /هادئاً وفي يدي سجارة/ وعلى شفتي أثار قبلة/ …وانا اسمع بتهوفن/مرتدياً اجمل ثيابي…)ويحصرها في ختم ( أريدُ ان أموت على طريقتي /لأنني أكره موتكم) ص133
هذا الموت او القتل الذي حاصر ايامه والدخان والصراخ حتى ذهب لمنادات ما في السماء في انشاد وجودي في عتابه الاليم …
(انتَ يامن في السماء، هل كانت الحرب ابنتك المدللة …لتجعلها تنتصر علينا في كل حين) ص126
هنا لابد من القراءة الثانية وهي راءة مابعد السطع و مسموعه ،أي القراءة المتأملة للمكون الشعري هذا وامتيازه المخالف في عبوره للمنطقة الممنوعة المحرمة، و مراجعة صدمتها لغرض العبور من شكلانية التعبير الى وضوح اسبابه،ومنح السلامة الفكرية لتعبيرات اللغة ونوعها الشعري في صنع الخطاب الشعري الموقن بقراءة وسماع هذه الدرجة من لعنة النصوص لاسباب الدمار،الدمار الباقي لدمار بقايا وجودات الانسان و وطنه،ونحن نرى الضحايا المتوسدين بقايا حبهم البعيد ومن تذكر واشتهاء الحبيبة من خلال دخان المعارك او التفجيرات التي اجتاحت وجوديات الانسان،هذه الوجوديات التي شغلت وامتدت على جميع شعرية هذا المكون الرافض لتقبيح الحياة وقتلها.
ونبقى في قراءة “كاهن الخذلان”، ومن منطلق تداعيات مضامينها من أثر طبيعة فوراتها اللغوية في التعبير والتصوير الشعري. كما في قراءة (شتم الاب الشهيد) والبصق على ضريح الجندي المجهول) وهي تمثل عبور الشاعر “علي الشيًّال” للمناطق المحرمة على الشاعر بعبورها شعرياً وبمعناها المناطق الخطرة في تلقيها،وهذا ما نراه في المشهد الشعري المصور (المعلمة: ما تريد ان تكون في المستقبل؟/ التلميذ: جندي/ المعلمة: ولماذا؟/ التلميذ: كي استشهد/ المعلمة: ولماذا؟/ التلميذ: كي ارى ابي في الجنة/ وابصقُ عليه)ص62.
والى عبور اخر في قوله ( في ليلة ولادتي قتل ابي/ في حرب ما /ولذلك كلما زرت /نصب الجندي المجهول / بصقتُ عليه)ص72 وهي مرورات شعرية تصدم القاريء كثيرا،كما اشرنا لها ومن تحرش الشاعر بالقناعات الاجتماعية الثابته والتقاليد الموروثة كما في دالة الاب والاب الذي قتل شهيداً في الحرب والحرب كتجارة يشعلها الحكام،وفي الصورة الاخرى المتمثلة في البصق على نصب (الجندي المجهول) ذو القدر والقيمة الاجتماعية العالية،ومنه وكما ذكرنا بضرورة الفهم المابعد القرائي لتداعيات هذا العبور المحرم الممنوع في التعبير الشعري، والكشف عن لماذوية هذا النهج الصانع لسخونة النص وفوران مناخه ،والكامن لدى الشاعر ،من عدم تلبيت الضماد والشريط الشعري المألوف لايقاف النزيف ومعالجته حتى تحقيق الحلم في جمالية الحياة البعيدة عن الاستلاب من الحرب القاتله للانسان والمغربة للحبيبة في وصفه …( وحدي و وحدي/والليل طويل/ وأنا وحدي/ أهمسُ لصورتك ِ/ في وميض الرصاص/ أينك ِ فالحرب تمضغتي)ص118.
لقد بصم الشاعر “علي الشيَّال” تفرد مكونه الشعري هذا، و بتوصيفة…البصمة الصعبة المؤهلة لتلبية الخطاب وايصاله الصعب.