خاص- ثقافات
حوار : مع آسلي اردوغان/ حاورها : ايركوت توكمان/ ترجمة : خضير اللامي
بعد حصولها على درجة الماجستير في الفيزياء ، وكتابة اطروحتها في موضوع ما يُسّمى ” جُسَيْمات هيغز بوسن Boson Particle Higgs ، اشتغلت الكاتبة التركية ، آسلي أردوغان المولودة في اسطنبول العام 1967 ، على هذه الجسيمات، ثم انتقلت إلى ريو دي جانيرو ، Rio De Janeiro . بعد طبع روايتها الأولى ، “ الرجل القوقعة ، 1994، “The Shell Man ، تخّلت عن سيرتها العلمية ، وكرّست نفسها للكتابة الأدبية حسب . وكانت روايتها الأولى ، المدينة ذات العباءة القرمزية .. ” The City in Crimson Cloak , 2001 ، التي جلبتْ لها اهتمام العالم بها . ومع هذه الرواية ، التي وُصفت أحيانا ، بالكلاسيكية الحديثة، أختيرت اردوغان بوصفها واحدة من بين ” خمسين كاتب وكاتبة مستقبلية .” قامت مجلة لير Lire الفرنسية بتنظيم إعداده ، وعند العودة إلى تركيا ، شرعت اردوغان بكتابة العمود ، في الصحف المعارضة . وبعد فشل محاولة الانقلاب التركي ، العام 2016 ، اُعتقلت اردوغان بذريعة أنها كانت مستشارة أدبية لصحيفة كردية . لكن اطلق سراحها بعد حملة عالمية واسعة لحقوق الانسان ، بيد أنّ جلسات محاكمتها استمرت . وفي تموز July ، 2017، قلدتها الحكومة الفرنسية وسام شرف ، بيد أنًّ عدم الموافقة على سفرها لتسّلُم الجائزة بعد مكالمة هاتفية من الجهات التركية حال دون ذلك . وقد التقيناها في احدى جزر (الأمراء ) قرب اسطنبول للاستمرار في حوارنا معها ..
إيركوت توكمان : إنكِ قلتِ أنًّ كتبكِ ، تبدأ من روايتك الأولى ، ” الرجل القوقعة ، The Shell Man.” التي جاءت بصيغة روايات وقصص قصيرة ؛ ولكنْ من الصعوبة بمكان وضعها في فصيلة جنس محدد ، وقد ذكرتِ أيضا أنك تسردين نفسكِ بوصفها سيرة ذاتية . كيف تعللين هذه المفاضلات ؟
آسلي اردوغان : انا لستُ “روائية ” ولستُ كاتبة قصة بالمعنى التقليدي لهذا التعريف ؛ فالعنصر الأساس ، والمهم في أدبي هو اللغة ذاتها . فأنا استخدم اسلوب السرد الذي يعتمد على الصور ، والإستعارات ، وبطريقة مكثًّفة ومُختَرِقة ، وقد وصفها ناقد بأنها : )وابل من النيران المتقاطعة .( فهي قريبة من الشعر ، وحتى من الموسيقى إنْ صح التعبير ، فالكلمات تؤثر ، وتُحفِّز ، ” ويتصادى بعضها في بعض ؛ وتضفي ظلالات غامضة في زواياها ، والصوت معبأ بالايحاءات ، كلما ترادفت العبارات ، بينما يكون الغموض والفراغ ، دليلان ينيران كما ضوء .”
وأكثر من ذلك ، أنني سبقتُ تقاليد السرد القصصي الرئيسية ، فنا ، ومسرحة ، وشخصنة ، وهوية . ففي كتابي الأخير، البناء الحجري ومكانات أخرى، The Stone Building and Other Places ، فإنَّ الساردين لم يكونوا شخصيات نموذجية لتلك القصص التي تكون مواضيعها أو حتى شخصياتها ، تملك حدودا محددة ؛ فإنّها تظهر ثم تختفي أكثر ، كما اعضاء فرقة كورس تراجيدية ، يقومون بخطوات قصة موحدة . أو أنهم إلى حد ما ، كما قواقع جوفاء، يُصدرون أصواتا مختلفة تمر من خلال تلك القواقع . وأحيانا كما صرخة ، أو ضحكات مدويَّة في نفق …
حين سُئلت قبل سنين مضت ، ” هل أنك تكتبين عن نفسك في كتبك ؟ ” واجهت حيرة كبيرة في كتاباتي نصف الساخرة : ” نعم ، كل ما وجدت فرصة لذلك ؟ ” فالذات غير موجودة ، لكن ينبغي أن نخلقها . ينبغي أن نبدع ، نبني ونبدع ونعيد البناء. وانطلقتُ من قولي :” أنا ساردة ذاتي او أناي ” ولسنوات طويلة كنت يائسة تماما وأدور بين ما قيل وما لم يقل ، بين ما قد فُقد الان ، وما لم يُولد حتى الآن . ولكن على كل حال ، تتغير المدارات حسب . وشرعتُ بالكتابة ذات مرة ، وخلالها جعلتني أشعر بشيء شبيه ربما بسعادة عابرة : إذ رحت أجرّب شعورا ممتلئا ، عندما انتهيت من كتابة ” المدينة ذات العباءة القرمزية،” الطبعة الانجليزية ، شعرت كما لو أنني عشت حياتي كلها لذلك الموضوع ، لأكتب هذا الكتاب الوحيد – كان كما لو أنَّ كل شيء اكتشف معناه التام . ولمرة واحدة وللأبد ، قد وُجد في قصتي هذي . ولكي أكون متأكدة تماما من ذلك كانت حياة قصيرة ” عابرة ” لكنها كانت حقيقية لا تُقارن .
توكمان ” إنَّ المدن تحتل مكانة خاصة في دواخلك ؛ أنها تسحبك إلى دوامة وتربطك بآلام ، وأنها بالطبع ، تدفعك في نهاية الأمر للكتابة ، والحصيلة الأكثر وضوحا لذلك هي روايتك المدينة ذات العباءة القرمزية . ومن خلال لوحة ، فإنك تقارنين علاقتك بمدينة ريو دي جانيرو، مع ذلك المحبوب : أي أنك مرتبطة بآلام الحب ، أنك ذلك الجريح الذي لا يغادرك . ألم تقولي ذلك ، ألم تفكري أبدا بكتابة رواية عن اسطنبول ، المدينة التي ترعرعتِ فيها ؟
اردوغان : البطل الرئيس لـ ” المدينة ذات العباءة القرمزية .” هو : مدينة ريو دي جانيرو، و” نهر جانوس ” الإله ذو الوجه المزدوج ؛ وجه ينظر للماضي وآخر ينظر للمستقبل . وتبدو المدينة كما متاهة ، تنطلق إلى اكثر من بعديْن ، وتتوزع في الفضاء ، كما في زمن، حافلة بنهايات ميتة ، وبقع عمياء ، واصداء مرعبة ، ونبوءات خارقة للطبيعة ، ومدينة ريو دي جانيرو بوضوح ، هي استعارة للواقع الخارجي ؛ وعالم داخلي ينعكس بظلاله عليها . وفي الحقيقة ، أنَّ الاشتباك المستمر لعوالم الداخل والخارج ، يُضبٍب مفهومنا عن الواقعية ، اذ إنها استعارة حياة ، كما هي استعارة موت .
واوزكار بطل رئيسي في قصة أخرى، في رواية ” المدينة ذات العباءة القرمزية .” رواية غير كاملة داخل رواية ، هي أوهما رواية إعادة تفسير لإسطورة أورفيوس التي كتبتها هيروديت نفسها . وكلمة أوزكار تعني ” الحرية ” في اللغة التركية ، وقد قطعتُ منتصف المنعطف للرواية حين وجدتُ إسما لها وادركتُ تأكيد المعضلة . والحرية قد تكون ضد القدر . وإنَّ اوزكار وريو هما وجهان كما لو أنهما مرآتان تعكسان احداهما الأخرى . ولكنهما ايضا متنافستان خطيرتان في لعبة شطرنج قدرية ، وكتابة أوزكار هي الموسيقى التي تفتح بوابات أرض الموت ، والتي تحمل الموت ايضا باستمرار إلى الحياة ، والحياة تحمل الموت في اليوم الذي وصلتُ فيه إلى ريو دي جانيرو . واذا ادركت أنَّ هذه المدينة تحمل في داخلها اسطورة فربما اكون فيها انا فقط ، اورفيوس .
لكن اسطنبول ، المدينة التي ولدتُ وترعرعتُ فيها ، هي من الصعوبة بمكان أنْ تبني مثل لعبة تلك المرآة ؛ لأنها تتطلب مواجهة عميقة جدا. وحين كتبت الرواية كنت في الثلاثين من عمري ، وبعد عقدين من السنين ؛ شعرت أنه ينبغي عليَّ أن اقطع الطريق الذي كنت أسير فيه نحو الموت ، والآن عدت إلى الحياة ، وربما ولدتُ من جديد . كنت اشتغل على رواية عن اسطنبول لسنين عدَّة . وفي ذلك الوقت ، فإنَّ كل ما استطيع قوله ، هو بناء صخرة جرداء ، حجيراتها وانفاقها هما اللتان ندخل من خلالهما إلى رواية البناء الحجري )ترجمة : سيفنتش توركان ، التي من المؤمل ان تصدر في نوفمبر 2017 عن دار ستي لايت ) و تتضمن استعارات عن اسطنبول .
توكمان : اتهمتِ بالإرهاب العام 2016، وسُجنتِ لأربعة اشهر ونصف ، واُطلق سراحك بشروط الآن. لكن منعك من السفر بقي ساري المفعول . وخلال هذا الوقت ؛ تدفق التضامن معك عالميا ، وفي تركيا نفسها ايضا للدفاع عن حريتك . باختصار ، مالذي ربحت فيه وما الذي خسرت فيه في السجن ؟
إردوغان : بكل بساطة ، أُدرج اسمي على قائمة الإرهاب بطريقة رمزية تماما من قبل ” لجنة استشارية .” بذريعة دعم صحيفة ، اوزغورغونديم ، özgur Gundem الكردية ؛ في هذه الاثناء قصفت الشرطة منزلي ، ووضعتني قيد الإعتقال لمدة 136 يوما ، وطالبت النيابة العامة بعقوبة السجن المشدد مدى الحياة ، وعلى مدى خمس سنوات كان اسمي قيد قائمة “المستشارين “. وعلى كل حال ، لم يلتفت احد لمئات القضايا المدرجة في ادراج المحكمة ضد الصحيفة التي تحركت لمؤازرتي او مستشاري قضيتي من امثال اللغوي نيكمي البي Necmiye Alpay . ومؤسس حزب عالم البيئة وحزب الخضر بيلغي كونتيب Bilge Contepe ، ورجب زاراكولي ناشر وحاصل على جائزة نوبل للسلام . ناهيك عن قانون الصحافة الواضح تماما ، أذ يقر أن المستشارين ليس لديهم صفة شرعية للصحيفة . وباختصار ، أن هذه القضية سياسية بامتياز ، فضلا عن أنها اعتباطية ، وبالتالي أن أمر الاعتقال غير قانوني من الجهات العليا . ويعتقد كثير من الناس أن المقصود به الحاق الضرر بجميع الكتّاب والمفكرين . والهدف كله من ذلك التدخل ؛ هو القضية الكردية .
دعنا نواجه ذلك الأمر : ففي تركيا اليوم ؛ من الممكن أنْ نتصور إعتقال إمرأة على أرضية ارهاب لأنها تكتب روايات وتنظم قصائد نثرية وجودية ، وتُرجمت اعمالها الأدبية إلى عشرين لغة تقريبا، وحاصلة على عديد من الجوائز المحلية والعالمية – كل هذا ، بذريعة هي مستشارة ادبية لصحيفة معارضة ، رغم إنها صحيفة شرعية أصلا . فضلا عن ذلك كله، نشرتُ العديد من الأعمدة والأعمال الأدبية التي بدأت مع صحيفة فكرية يسارية Radical ، قبل ثمانية عشرعاما ، واستمر صدورها مع ثماني صحف متنوعة فضلا عن مجلة ، لم يُفتح ضدها أيِّ ملف مخالفة ؛ ولا أيّ من مقالاتي المنشورة فيها بما فيها تلك المنشورة في صحيفة اوزغور مندم ، بما فيها ايضا ملفاتي الأدبية كما يحدث اليوم ! إنني أدرك أنني قد أزعجت الحكومة ، لأحباطي التابوات ، مثل التعذيب ، والإغتصاب ، والإعتقالات ، واختراقات حقوق الانسان ، وحقوق المرأة ، والقضية الكردية ، والإبادة الجماعية للأرمن الخ ..
ولا يفوتني هنا ، أن اذكر أنني تعرضت إلى اطلاق رصاص ، ناهيك عن مكالمات التهديد الهاتفية لسنين عدة . وصموني فيها بكلمات شائنة ومهينة ، فضلا عن اتهمامي بالتعاون مع الإرهاب ، بخاصة اذا وضعنا في الإعتبار ؛ أنني لست ميّالة للعنف اصلا ! وفي الواقع ، وبوصفي كاتبة مقالات ، فإنني حاولت أنْ ابني نظرية اللاعنف ، في نظام يفرِّخ بإستمرار العنف ، بيد أنني أوضحات ما أملاه عليّ الإستنكاف الضميري قبل ثلاث سنوات ؛ ومن هنا ، رفضت أن حمل السلاح ! فما هي جريمتي الفعلية التي لا تُنسى ؟! هل لأنني رفعتُ صوتي من اجل الضحايا … كل الضحايا … نعم ، فأنا كتبت ليس عن السجن والنساء والاكراد حسب ؛ بل عن المهاجرين الأفارقة والعنصرية والحرب والعسكرة والأرمن ، والأطفال المتشردين والمثليين والأرمن والرومانيين والبوسنيين والفلسطينيين الخ ؛ محاولة بذلك مدّ الجسور ” بيننا ” و ” الآخر ” في مساهماتي المحدودة وشعوري بمسؤوليتي ، بوصفي كاتبة تناضل من أجل تشكيل ضمير فردي وجمعي في آن ..
وبعد أن زجتني السلطات الأمنية في السجن ؛ وجدتني فجأة بين جدران، بطريقة غيرمتوقعة ، وغير مهيأة لها ، جدران ، أسلاك شائكة ، واقفال ، واصفاد … ولم امتلك الشجاعة حتى الآن ، لأتساءل مع نفسي كيف أواجه مثل هذه الصدمة المرعبة ؟! ليس ثمة مِنْ عزاء أو تعويض أوامكانية لأقلب هذه المعادلة . دعني اقول لك : قبلتُ وقيّمتُ مكافآت التأييد بوصفها من مبادرات التضامن ، ليس معي حسب ، لكن مع الكتّاب الآخرين والصحفيين المضطًهدين بسبب مواقفهم . أنا منزعجة من حقيقة تلك الشهرة ، التي حاولتُ تجنبها لزمن طويل ، والتي هبطت عليَّ من السماء. إنني اشعر بمرارة السخرية في عمودي الادبي ، لكنني اعرف تماما ، أنني لم استطع البقاء على قيد الحياة دون هذا التضامن . وإنني احتفي جدا لهذه الحياة .
ليس هذا حسب ؛ بيد أنَّ ثمة حكاية قصيرة : تحت عنوان ) دولة الطواريء )OHAL ، تتضمن منع أغطية النوم ، والوسائد ، واللوحات الزيتية ، ونباتات الأصص في الزنزانة ، أما المزهريات ، والنباتات التي ازدهرت عبر عقد من السنين ، فقد أُهملت وتعفنت خارج باحة السجن . واختفى نبات الريحان والحبق تدريجيا داخل دورات المياه ، بعد أن أُكتشف خلال احدى دورات التفتيش الروتينية. وبهذا ، فإنك لن تجد أية تربة في السجن ، ولا اشجار ، ولا خضرة ، ولا لون ؛ إنما تجد يباس الحياة وجدبها حسب.. ولكن ، حاولنا انتاج ما يشبه التربة من خلال تجفيف أوراق الشاي لعدة اسابيع ، واضفنا اليها قشور البيض لتكتسب قليلا من السماد . لكن ، يا للعجب ، تبرعم أخيرا نبات قبيح جدا، ومع هذا ، قد انتفضنا وغمرنا شعور بالإرتياح ، ورحنا نسقيه بمياه الأمطار . وترعرع كصولجان أمير صغير . لكن ، واحسرتاه ! فقد قُطع هو الآخر ، وحكم عليه بالموت !. وقبل ايام قليلة من موعد المحاكمة ، اعتذرت لأصدقائي في الزنزانة . كما أدركت ماذا فعلت بحديثي عن الانتحار في بداية ايام سجني ، إذ كنت مستغرقة بذكرياتي عن الموت ؛ بينما كنت اتصارع في كل هذا الوقت بقوة لأحافظ على نبتة حية صغيرة.. “
توكمان : بوصفكِ كاتبة ، مَن الذي حاول أن يكون مدافعا صارما ، وصوتا لأولئك الذين كانوا مغتربين . كيف تفكرين أنّ العنف والصدمات ستشكل ثيمات لكتاباتك من الآ ن فصاعدا ؟
اردوغان : منذ كتابي الأول” معجزة شجرة الماندرين . ” Miraculous Mandarin ، قصة المرأة ذات العين الواحدة ، شرعتْ كتاباتي تتمحور مليّا حول مواضيع كما الرياح ، غياب ، فراغ ؛ أو وعي بفناء الجنس البشري ؛ ضياع ، عنف ، تفسخ ؛ تعذيب ، وخيانات . وكان بحثي الأساس هو أن أسرد ما لا يمكن سرده . وأنّى لي أن اذهب اقصى ما يمكن أنْ تحمله التجربة الإنسانية . وفي كتاباتي ، خاصة ، المقدس والمحرم منها، يقفان جنبا إلى جنب ، واحيانا يأتيان في جملة واحدة ، ويتداخلان بطريقة عفوية . يأتي هذا حتى في مقالاتي التي احاول أن ابقى فيها ، في حدود الادب، واحاول حسب ، ضمن مقاييس الادب في سرد غير المسرود كما قلت ، وقصص الضحايا غير المسموعة . واعتقد أن ًّهذا بدون صوت ، او صرخة ضحايا سيذهب في مهب الريح ، فإنًّ كلمتنا هنا ينبغي أنْ تكون، هي العالم ، وستكون ايضا اكثر تكريسا للمعنى . ) ولكني الآن ، واحسرتاه ! أنا الضحية .. (
وحين كنت مودعة في زنزانة ، مساحتها لا تتجاوز ثمانية امتارمربعة ، كان معي ثلاث نساء أخريات ، كنت احيانا ، أعيد إلى ذاكرتي ، جُملي ، واستعاراتي . هل انا غرّيرة إلى حد اتخيل ذلك الملاك الذي انشطر وجهه إلى نصفين غير متساويين عن طريق ندبة . ) بناية الحجر ؟(. فإنه أي الملاك قد اجتاز ليلة انسانية من نهاية إلى اخرى ، وصولا إلى البناء الحجري ، مركز الأمن، ويداه مليئتان بالهدايا . جالبا هدية لكل سجين . من شخص ما ، ذكريات الطفولة ، طفولة أخرى ، مِن رائحة البحر، صوت البحر ، او الريح إلى شخص آخر . في ليلة مظلمة كنت أفكر فيها كثيرا ؟ في أي كلمة تجري إلى كلمات أخرى ؟ هل كان بإمكاني أن اشخص ندبته على وجهي ؟
توكمان : هل تعتقدين أنَّ بلاغة الأنثى كانت تشكل خلفية لكتاباتك ؟ أم أنها هي نزعة مؤلفة حسب ؟
اردوغان : اعترف بذلك تماما ، إلى أنْ قرأت التحليل المدهش للكاتب الاسترالي روث غلوكير Ruth Kluger – لرواية المدينة ذات الرداء القرمزي ؛ الذي كان هو الآخر رهينا في معسكرات الإعتقال الجماعي سابقا ، وقد ناقشته بأنني اخترت بقصد ثيمة الشذوذ الجنسي ، واللغة الديونيسية Dionysian ، في هذه الرواية . وعلى كل حال ، وفضلا عنْ موسيقى أورفيوس ، فإنًّ كلوغير قد سمع ايضا اغنية بيرسيفون Persephone ، الملكة والسجين في العالم السفلي حيث قال : ” اسلي اردوغان تصور الخطر، أنه السقوط العظيم ، الدمار التام ، الذي هو حتى الان ثيمة الادب ؛ إذ الرجال وحدهم يستطيعون العيش حتى النهاية ، دون مشاركة إحساس المؤنث وصوته . ” وبهذه المادة المترفة ، استيقظتُ في ليلتي تلك ، وادركتُ كم كنت أنا صماء لصوت الانثى في داخلى . وكتابي الآخر ، صمت الحياة ، In The Silence of Life ، قد وُلد بعد اكتشاف متأخر . والمواجهة كانت مؤلمة مع هذا الصوت ، والبحث عن لغة الأنثى . فثمة فصل شاسع بين الصور، وواقعية ظروف النساء . فقصة ” أنثانا “تتشكل من فراغ هذه الهاوية . إنه جهد أنثوي بذاته في محاولة لإيجاد مرآة أو صوت لهذه الإساءة . ورغم ذلك ، وحتى في كتاباتي الادبية القليلة ، فضلا عن مقالاتي ، بقيتُ واضحة قي الايديولوجيا ، او المقتربات الآيديولوجية باعطاء دروس ، ووعظ . والكتابة لديّ إما أنْ تكون تكوينا أو صرخة . بل اؤكد ، أنها الصرخة التي تدين العنف للابد .
توكمان : وعلى حدِّ علمي ، أنكِ شرعت بكتابة الرواية قبل دخولك السجن ، وجزء مِنْ هذه الرواية تصف سجنا ، لكنك لم تكتبِ ذلك القسم من الرواية . والان وانتِ في الخارج ، ما هو مضمون هذه الرواية ، ومتى ستنتهي ؟ هل أنتِ قلقة من الرقابة الذاتية ؟
اردوغان : كنت اشتغل على رواية اسطنبول لسنوات عديدة ، ويقع قسم من احداثها في السجن ، أنها تزامن غريب ، وربما لم يكن غريبا جدا ، ذلك مشهد التعذيب الذي هو شبيه بالمشهد الذي تخيلته حقا قد حدث لي في الزنزانة ، وحتى هذا اليوم ، كتبتُ فصلا واحدا حسب ، تحت مراقبتي الذاتية . ولا اتذكر أني طبعت قصة قد كتبتها كان صوتها الشخص الأول مُغتَصَبا ، وهو في الوقت ذاته ضحية التعذيب . وخشية إساءة ضحايا الإغتصاب ، وباختصار ، أنني ضحيتُ بقصتي لتصحيحات سياسية . بيد أنني حتى الآن ، تعلمت ذلك من الكتابة أنًّ ثمة ثيمات أكيدة لا يمكنكَ إدخالها ، وإن فعلتَ ذلك، فهنا ، ليس ثمة مساومة . ويأتي ذات يوم ستَعبْر فيه منعطفا لا عودة منه ، وستواجه في نهايته العنف حتما، وهذه هي النقطة التي يجب أنْ تتجاوزها ، فليس ثمة متسع أمامك للتردد، فإمّا النفاق على الذات أو الإشفاق عليها . وعليك أنْ تدفع بنفسك والقاريء معك ، وبالطبع تصاحبك اللغة عبر جميع الحدود والنهايات .
توكمان : في رواية ” في صمت الحياة، In The Silence of Life “،أنك تتحدثين عن معركة مع الكلمات ، ووصلت الكتابة التي تتحدثين عنها إلى لا شيء ، حين كنتِ تهدفين أنْ تكتبي كل شيء ، الدماء التي تنبجس مِن جسدكِ ، وتفيض عبر لغتك . يبدو مِن هذا كله أنَّ هدفكِ ، هو البحث عن السلام عن اشياء تثقل كاهل حياتكِ ، وتبعث في داخلك الحزن .إلى أين يمتد نزف جراحك أو استلاب حريتكِ ؟ هل من الممكن إعادة رسم الحدود بين الحياة والكتابة اللتان يتداخلان بعضهما في بعض ؟
اردوغان : العذابات المبرحة تبحث عن صوت ، صوت يبحث عن صورة … نزف ، دم يشخب مِن الجلد ، يبحث عن لغة ، كما أعراض ، ونزف آخر ، مخفيا في الأعماق … الجمل تتفتت ، في وقت تبحث عن بناء نسيج عارٍ للحياة ، ورسالة تصل إلى لا شيء ، في وقت تهدف أن تتحول إلى كل شيء . وبعد ذلك تحاول وبنفاد صبر ، أنْ ترمم الأجزاء ، مرة ، ومرة أخرى ، ” وإلى الابد .” وبنفاد صبر أيضا ، تحاول أنْ تجمع معا الليل مع الظلام ، ثم تملأهما وبصبر تنتظر الظلال ، والبرودة ، والرطوبة ، وضوء القمر الذهبي . في هذا الكتاب ، وصفتُ الكتابة بهذه الطريقة . انتظار مهجور ، وحدة تامة ، بانتظار قرع اجراس الحياة ، تكون فيه الحياة ، كما جرس ، تكون فيه كما رجع صدى . لكن عنوان الكتاب يشير حاليا إلى عبثية ، إلى حياة لا يمكن الإمساك بها بالكلمات ، وصمت لا يستجيب لمناديه أبدا . وكما جاء في ” المدينة ذات العباءة القرمزية .”الكتابة والحياة شبيهتان كما شيئ يتكلم من بطنه ، يواجه أحدهما الآخر ، ويتحدثان من بطنيهما ، ولم اكن متأكدة طويلا ، كلاما من هذا الذي أسمعه ؟ !
الكتابة عمل لا متناهٍ ، مناجاة فردية متواصلة ، أو صوت حوار منفرد ، بين الذات والعالم ؟ إنها شاهد ؟ أوحصن نحتمي به للمراقبة ، أو مبارزة مع الواقع ، أو ببساطة هوامش مخطوطة ، أو خربشات نملأ فيها نصف صفحات حياتنا ” أكاذيب تلعق جراحاتنا . ) المدينة ذات العباءة القرمزية .( هي جوهر فعل الحياة، محاولة عبثية ” لخلود .” القرون بعد فأس الموت الجماعي الذي هشم ضمائرنا ؟ إنه تحرير لتطهير العواطف من سجننا الطبقي . الانسانية هي ليست سجنا ابديا ، أو ابداعاتها ، أو قصصها ، أو اساطيرها ؟ ! وهذه اشارة إلى الرواية نفسها مرة أخرى . فالكاتبة قبضت على دمارها بجملة كما يلقى القبض على طائر حيّ كهرماني اللون ، وتحويله إلى قطع فنية استعدادا لعرضه والإعجاب به . أو أنَّ الكتابة هي ولادة جديدة ، أو اعادة بعث طريقه متقاطع بثبات ، وتحويلة إلى موتات عدة . وأنا اعتقد أنَّ هذا كله ، ولكن في الوقت ذاته لم يكن أي شيء من هذا كله. والادب يحتاج دائما إلى قناع حين يكون مع الموت وجها لوجه ، ولكن إن حافظ على تنفسه بعد تكسر اقنعته واحدا بعد الآخر – وهذا ما نطلق عليه الأدب .
توكمان : اعرف تماما أنك تحبين الرقص . ونسمع كلماتك ايضا تمر من اذن إلى اخرى . وسمعتُ انكِ راقصة باليه في فترة السجن . أي نوع من الروابط بين الآلآم، والتأليف ، والرقص ؟
يستمتع معظم القراء بحقيقة ، أنني كنت متخصصة بما يُطلق عليها “جُسَيْمات فيزيائية “، ثم اكملت اطروحة ماجستير عما تسمى جسيمات هيغز- بوسن ، Higgs-Boson، لكنهم ، أي القراء متحيرون جميعا ، حين اكتشفوا أنني كنت أرقص في الغالب طيلة حياتي ، إلى أن أجريتُ جراحة في العمود الفقري ، صاحبَتها عذابات لا تتزعزع ، نتيجة رقص الباليه الكلاسيكي . واللغة في نصوصي التي اعرفها جيدا ، هي لغة ديونيسية Dionysian ، وقد عرّفها آخرون بأنها لغة كوربورالية جسدية ، حسية ، انفجارية ؛ أو موسيقية بالأحرى ، أنا مدينة كثيرا للرقص . ومن خلال هذا الرقص الذي يتطلب العناصر الاساسية للغتي : مثل الايقاعات . والموسيقى الكلاسيكية ، التي علمتني قواعد الطِباق أو فن مزج الالحان counterpoint ، هذه الايقاعات ، طبّقتها في وقت كنت اكتب فيه” بناية الحجر ” The Stone Building.
وجسدي هذا ، يشعرني حين أصل إلى اقصى حدٍ من الرقص. كما سبرتُ اقصى ما يمكنني من مفردات . وفي هذه الثيمة بالذات ، تركت قلمي وشرعت بالرقص والبكاء ! وكنت في كل مرة انجز فيها كتابا ، يفرز جسدي تفاعلات كيميائية عنيفة . مما اضطرني إلى اجراء عمليتين بعد انجاز آخر كتابين ، وهنا ، بدأت أتشافى تماما ، من مرض خطير دام سنتين تامتين ، بعد أنْ اكملت المدينة ذات العباءة القرمزية . وكان من المستحيل عليّ أن أعبِّر بالكلمات عن الحكمة المختفية في اعماقي لطقوس candomble، وبذا ، تعلمت من ذلك أنَّ هنالك ،” شيء ما !” في الافق البعيد، شيء ما فائقا امامي وخلفي ، ومن خلال الطقوس حسب ، ربما يُظهر نفسه لي . أنا اشعر أنني قوقعة جوفاء من الكلمات المتدفقة ، هذه هي . نعم ، في لحظات الطقوس حسب ، بينما الكتابة ؛ فأنا أتأمل الحياة فيها ، تتدفق من خلال تلك القوقعة الجوفاء .