*روجيه عوطة
يصعب على قارئ الكتاب الجديد للفيلسوف أوليفييه ريمو، بعنوان “الوحدة بالإرادة” (دار ألبان ميشال)، ألا تخطر في باله، وطوال تنقله من صفحة إلى أخرى، فئة معينة من الأفراد تعيش على نحوين رئيسيين: نحو الـin، ونحو الـon. إذ إنهم، وما أن تروج ظواهر، أياً كان نوعها، من ثلة أشخاص إلى مكان ترفيهي، حتى يسعوا إلى الإنخراط “فيها” بمجملها، كما أنهم، وفي الوقت نفسه، لا يمكنهم سوى أن يكونوا “في” مواقع التواصل الإنترنتية. فهم يلاحقون كل شائع، أو بالأحرى ضارب، لكي يكونوا جزءاً من مشهده، وخلال ذلك، يرسلون علامات اندراجهم فيه “أونلاينياً”.
وهؤلاء “الموصولون” بالعنكبوتية المجتمعية والإفتراضية، وفي ليالي مدننا الدائخة، يعودون إلى منازلهم بشعورين رئيسيين أيضاً: الشعور بالوحدة، أو الشعور بالحاجة إليها. فمن المعلوم أن إحدى البوستات المتكررة بنبرة النفور والمرارة في “فايسبوك” هي طلب الإختفاء، والإستفهام “إلى أين أذهب؟”. ودائماً، الشعور بالحاجة إلى الوحدة يسبقه شعوراً بها، وذلك، على الرغم من إحاطة الأغيار وكثرتهم، لكنهما، سرعان ما يتلاشيان عند عائشي الـ”in” والـ”on” في صباح اليوم التالي، لا سيما أنهم، في الأساس، يخافون من الوحدة.
قد يصح القول أن ريمو يبني كل كتابه حول الوحدة، إنطلاقاً من هذين الشعورين، ومن أجل أصحابهما. ذلك، أنه، ولكي يسكن خوفهم من الوحدة، يؤكد أنها غير الوحشة. ثم، ولاحقاً، يذهب إلى التشديد على أن تلافي الوحدة، وتجنب إرادتها، هو الذي يؤدي إلى الوحشة بوصفها انقطاعاً عن المجتمع، وعن ناسه. فالوحدة، وإن جرى إثباتها، خوضها، تقي من الوحشة، بحيث أنها رجاء لحفظ صحة الروح، ولإكتشاف السريرة، ولتعلمالإنسلاخ، ولتوطيد الحضور الحميم، والأهم، أنها السبيل إلى الحلول في المجتمع بطريقة حسنة، لا يشوبها تعلق إتكالي بالأغيار، ولا امتصاص تعيس لدمائهم، ولا تطفل عليهم، مثلما لا يشوبها التذنب حيالهم، ولا الهجوم المباغت ضدهم.
لكن الوحدة لا تكفي، فإذا لم تقترن ببرنامج خاص بها. لا تنتج سوى البلادة. أما إذا كان محورها، فقد يحوي محصولها الكثير، وأول هذا المحصول ربما هو صياغة جواب على استفهام “لماذا أشعر بالوحدة في مجتمعي؟”، عدا عن صقل القلب والعيون، والشروع في تكسير العادات، واستبدالها بأخرى، لتكون ملائمة. هنا، يعود ريمو إلى هنري ديفد ثورو، الذي كان في العام 1845 قد ترك مدينته كونكورد إلى أرض مجانبة لبحيرة والدن (وضعها صديقه إيمرسون في عهدته)، حيث شيد تخشيبة، عاش فيها على مدى سنتين، منظماً لإقتصاده الذاتي، ومدبجاً لكتابه الشهير “والدن أو العيش في الغابات”. من تجربة ثورو، يستنتج ريمو أن الوحدة جعلته ثاقب التطلع، وأنها جعلته مسافراً بلا أدنى تحرك، كما جعلته سياسياً شرساً أيضاً، إذ أنها دفعته في ما بعد إلى لعب دور في إلغاء نظام العبودية في كندا.
يجهد ريمو في وضع الوحدة بين الإنقطاع والإنخراط، بين اللامبالاة والإغتراب، بين الـon والـoff، إذ أنها طريق لبناء اجتماع تكافلي نشيط. وبنبرة رومانسية، لا يخفيها، وبمنحى شبه تحفيزي، لا يتوقف عن تقريظ هذه الوحدة، ملماً بأمثلتها عن أناسها، التي من الممكن الإضافة الكثيرين إليهم، وفي مقدمتهم الراحل العظيم ديفيد بوي، الذي، وفي إحدى مقابلاته، تحدث عن عيشه وحيداً في الثمانينات: “قلت بأنني ما عليّ أنزل أكثر، الإنتحار يترصدني دائماً، لا أجد علة نافذة للحياة. إذاً، يجب الإقدام على فعلٍ ما، على الصعود، وعلى الذهاب للتفتيش عن الهواء حيث يوجد… منذ ذلك اليوم، قلت لنفسي أن التصالح مع المجتمع يجب أن يكون همي الأساس، وأن يكون تحديَّ الهائل”.
__________
*المدن