عيون موراتينوس

خاص-ثقافات

*محمود شقير

هذه المرّة، سيأتي موراتينوس إلى الناس، للتعرّف على قضاياهم، دون وسيط.

هذا ما تناقلته ألسنة الكثيرين من غير أن يعرفوا مصدر الخبر، الخبر انتشر في القرية وصدّقه عدد غير قليل من أهلها. رئيس المجلس القروي لم يعلم بالخبر إلا من أفواه بعض المقرّبين منه، لام نفسه على تقصيره بحق نفسه، لأن المفروض فيه أن يكون أول من يعرف بكل صغيرة وكبيرة. اتصل بأحد أصدقائه في المدينة، وهو من العاملين في الحقل السياسي، لكي يسأله عن حقيقة الأمر، فلم يؤكّد صديقه الخبر ولم يبادر إلى نفيه. رئيس المجلس فكّر ثم قدّر ثم قرّر أن يستفيد من الخبر سواء أكان صحيحاً أم كاذباً، سيدعو مراسلي محطات التلفزة والإذاعات، وسيدلي بتصريحات مناسبة تسعفه في معركته الانتخابية القادمة، بحيث يفوز مرة أخرى برئاسة المجلس القروي، وبذلك يدحر منافسه على الرئاسة، مصحّح الجريدة الذي باشر الدعاية لنفسه منذ الآن، تمهيداً لخوض الانتخابات.

مصحح الجريدة لم يفاجأ بالخبر، (قيل فيما بعد إنه هو الذي أشاعه بين الناس بطريقة غايةً في المكر والدهاء) فهو متعوّد على مثل هذه الأخبار. عمله في الجريدة يجعله مستعداً لتوقّع كل شيء، وعليه أن يستثمر قدوم موراتينوس لغاياته الخاصة، ولن يتمكن أحد من منافسته في هذا المجال، فهو عريف الحفل المكرّس في كل المناسبات التي تشبه هذه المناسبة. أهل القرية يحسبون له ألف حساب، وينظرون إليه بحسد وإعجاب، حينما يعود إليهم قبيل منتصف الليل قادماً من عمله في الجريدة، يجدهم ما زالوا ساهرين في مقهى القرية الوحيد، ينقل إليهم بعض الأخبار التي ستظهر في الجريدة صباح اليوم التالي. يتباهى بتميّزه عليهم، ولا يجرؤ أحد منهم أن ينكر عليه هذا التميز، فهو على الأقل، يعرف ما تكتبه الجريدة قبل أن يقرأه الناس، وذلك أمر ليس بالقليل في قرية صغيرة غافلة. ولا يقف تميزه عند هذا الحد، فمنذ أن روى للناس تلك المفاجأة الخاصة بأحد إعلانات الوفاة، وهم يهابونه ويخشون من مخاصمته: فقد حدث أن جاء شخص إلى الجريدة لكي ينشر إعلان وفاة لوالده الذي مات، كان الوقت متأخراً وصفحات الجريدة على وشك أن تكتمل، ما جعل الشخص يلجأ مباشرة إلى رئيس تحرير الجريدة، رئيس التحرير فكّر قليلاً ثم كتب بالحبر الأحمر عند آخر سطر في الإعلان: يُنشر إن كان له مكان. طمأن صاحب الإعلان وطلب منه أن يأخذ إعلانه إلى موظّف الإعلانات. الموظف عرف ما يعنيه رئيس التحرير، ففي مثل هذه الحالات، وهي كثيرة، يجري شطب فقرة أو فقرتين من مقالة أحد الكتاب، لكي يأخذ الإعلان ما يليق به من حيّز، فالإعلان على أية حال، هو عصب الجريدة الحسّاس.تمّ الأمر بسهولة ودون تعقيدات، وبات من المؤكد أن الإعلان سينشر غداً في الجريدة. موظف الكمبيوتر كان شارد الذهن وهو يطبع الكلمات التي أمام ناظريه، أو ربما كان ساخطاً على أحد ما، فتصرف عن عمد، تصرّفاً فاجأ الجميع في الصباح. أسقط الكلمة الأولى من جملة رئيس التحرير، فظهرت الجريدة وفيها الإعلان الذي جاء في سطره الأخير: أسكنه الله فسيح جناته إن كان له مكان.

الناس ضجّوا بالضحك لدى سماعهم هذه المفاجأة، ومصحح الجريدة انتظر حتى تهدأ التعليقات، أخبرهم بنوع من الزهو، بأن هذا الخطأ، لم يفته، وهو يدقّق كلمات الإعلان، (الصحيح أنه لم يدقق الإعلان ولم ينتبه إلى الخطأ) إلا أنّ حالة شيطانية ركبته، فقرّر أن يترك الإعلان كما جاءه من قسم الطباعة، فكانت المفاجأة! (لم يقل للناس إنه وموظف الكمبيوتر قد عوقبا بتوجيه إنذار لهما.)

لذلك، صار أهل القرية ينظرون إليه كما لو أنه ساحر قادر على إنـزال العقوبات بهم لأي سبب يرتئيه، خصوصاً إذا جاءته تلك الحالة الشيطانية التي ركبته ليلة ذاك الإعلان. رئيس المجلس القروي كان أكثر المتخوّفين منه، وإن لم يقل ذلك في العلن. فهو محتاج للصحافة أكثر من أي شخص آخر في القرية، فحينما يلقي كلمة في حفل أو مناسبة ما، لا يندر أن تقتطع الصحف شيئاً من كلامه وتنشره على الملأ، فكيف يكون حاله لو وقع موظف الكمبيوتر في أخطاء فاضحة أثناء طباعته لكلامه، ومن ثم لا يقوم ابن الحرام، مصحّح الجريدة، بضبط الأخطاء وتصحيحها!

مصحح الجريدة راح يتهيأ لاستقبال موراتينوس الذي صادف قدومه إلى القرية، يوم الإجازة الذي يتحرّر فيه مصحح الجريدة من العمل، (قيل فيما بعد إن وقوع مثل هذا الأمر لم يكن مصادفة) مصحح الجريدة لا يحتاج إلى بذل جهد كبير، لكي يبهر الناس بكلماته وبالأشعار التي يلقيها في المناسبات. مصحح الجريدة ليس شاعراً، مع أنه يحاول إيهام الناس بطريقة ما، بأن ما يلقيه من أشعار إنما هو من نظمه الخالص، هو لا يقول ذلك صراحة، لكنه يجيب السائلين بكلام غامض يترك الباب مفتوحاً لكل الاحتمالات. مصحح الجريدة، في العادة، يستعين ببعض دواوين الشعر القديم، يقتطف منها ما يشاء، دون التدقيق في بعض الأحيان، إن كان ما اقتطفه منها مناسباً لواقع الحال أم غير مناسب، المهم عنده أن يطلق العنان لصوته كي يهدر مجلجلاً أمام الناس، وأمام مراسلي الصحف ومحطّات التلفزة والإذاعات.

مراسلو الصحف ومحطات التلفزة والإذاعات، وصلوا القرية في ساعات ما بعد الظهر لتغطية الزيارة، زيارة موراتينوس للقرية بطبيعة الحال. جمع كبير من أهل القرية احتشد في ساحة القرية، الساحة المحاذية للشارع العام، والنساء تجمّعن فوق سطح بناية مجاورة مطلّة على الساحة وعلى الشارع العام. وجد الناس وقتاً كافياً للثرثرة ولتبادل الأخبار:

_ سمعت ان موراتينوس جاي، ومعه شحنة مؤن: أرز وسكر وسمنة ومعلبات.

_بس المهم دم الشهداء ما يروح بلاش.

_ أنا سمعت ان بنته متزوجة من شاب فلسطيني، إللي شافوها قالوا يا سبحان الخلاق، تقول للقمر قم حتى أقعد مطرحك.

_ وحياة العذراء، سمعت ان أصله فلسطيني من بيت لحم، واسمه الحقيقي: مار طانيوس.

_ يا ترى صحيح هذا الكلام!

_ هذا اللي أنا سمعته.

_ أنا داري هدمها شارون، وأولادي الثلاثة في الحبس، تشوف موراتينوس شو بده يقول.

_ أي والله هذا شيء عمره ما صار: حصار وقتل وخراب ودمار.

رئيس المجلس القروي لبس أجدّ ما لديه من ثياب، جاء إلى الساحة في رهط من أبناء عشيرته. تلقفته على الفور مراسلة إحدى محطات التلفزة الفضائية، نفخ صدره أمام الكاميرا، راح يتحدث باستفاضة، وأنهى كلامه قائلاً:

_ وليسمع إخواننا العرب: مال ما بدنا، مؤن ما بدنا، بس ابعثوا لنا سلاح.

مصحح الجريدة لام نفسه لأنه تأخر قليلاً عن انتهاز الفرصة، ولأن رئيس المجلس القروي ظفر بمقابلة تلفزيونية، ونجح في اختطاف الكاميرات، علا صوته مالئاً الفضاء:

  أحُلْماً نرى أم زماناً جديدا  أم الخلقُ في شخصِ حيٍّ أُعيدا

   تجلّى لنــا فأضَأنا به       كأنّا نجــومٌ لقينَ سُعُودا

مصحح الجريدة اغتاظ حينما رأى رئيس المجلس القروي يظفر بمقابلة أخرى يجريها مراسل محطة تلفزة، رئيس المجلس ابتسم ابتسامة الواثق من نفسه ومن أقواله، أمام الكاميرا، ارتجل كلاماً كثيراً أنهاه بقوله:

_ وأنا أعلنها من هنا صريحة مدوية: لا للمفاوضات، لا للمفاوضات!

مصحّح الجريدة كاد يفقد توازنه من شدّة الغيظ والحسد، أطلق عقيرته بالإنشاد:

  لا افتخـارٌ إلاّ لمنْ لا يُضامُ   مُدْرِكٍ أوْ مُحـاربٍ لا يَنَامُ

  لَيْسَ عَزْمَاً ما مَرَّضَ المَرْءُ فيهِ  ليسَ هَمَّاً ما عَاقَ عنهُ الظّلامُ

  واحْتِمـالُ الأَذى ورُؤيَةُ جَانِيه غِذاءٌ تَضْوَى بهِ الأجْـسامُ

  ذَلَّ مَنْ يَغْبِـطُ الذّليلَ بِعَيْشٍ  رُبَّ عَيْشٍ أخَفُّ منْهُ الحِمَامُ

أربع محطات تلفزة تراكضت نحو مصحح الجريدة لتصويره ولتسجيل صوته الرنان، فاطمأن باله واغتبط.

بعض شباب القرية لم يعجبهم الحال، لم يرق لهم تجمهرهم هكذا دون أن يقوموا بأي نشاط، شكّلوا حلقة للدبكة، دبكوا وغنوا على أنغام الشبابة:

لعيونك يا موراتينوس نضرب سلام

لعيونك يا موراتينوس يحلى الكلام

بعض مراسلي محطات التلفزة وجدوا في الدبكة والغناء تنويعاً فولكلورياً ملائماً لتقاريرهم المصوّرة التي ستبثها المحطات هذا المساء. مراسلة إحدى الإذاعات تسللت إلى حيث تحتشد النساء، أدارت جهاز التسجيل خفية لكي تلتقط ما هو حميم وشخصي من كلامهن. جلست بالقرب من مرجانة وصفية اللتين جلستا تتبادلان الأسرار على مبعدة من حشد النساء:

_ زريفة قالت لي انها بنته متجوزة من شاب فلسطيني، دارس في الجامعة دكتور.

_ الله يهنّيها ويهنّيه، نيّاله فيها ونيّالها فيه.

_ وقالت لي انه زلمة، الحافظ الله، مثل الجمل، ووجهه مثل البدر.

_ قبرت عمرها، وين شافته؟

_ في التلفزيون يا آدمية. ليكون فكرت انه دخل عليها وهي متمددة في التخت!

_ والله يمكن لو صح لها ما وفرت.

_ ييه! والله نجوم السماء أقرب لها منه.

ضحكت المرأتان الموشكتان على الدخول في سنّ الأربعين، وبدا أنهما متلهفتان لمشاهدة موراتينوس من مسافة قريبة، أما النساء الأخريات، فقد تشجعن لوجود مراسلة الإذاعة بينهن، نهضن للرقص والغناء، اقتربت إحداهن من صفية ومرجانة، دعتهما إلى الرقص:

-قومي يا مرجانة، قومي يا صفية.

صفية ومرجانة قامتا، رقصتا مثل فرسين هائجتين، والنساء غنين:

هالليلة واخرى ليلة يا حبايب

روّح جمل العيلة بقى غايب

حينما سكتت النسوة لسبب ما، التقط جهاز التسجيل صوتاً مرعداً قادماً من الساحة:

 مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعَاً كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطّهُ السّيْلُ مِنْ عَلِ

مراسلة الإذاعة سارعت بالنـزول عن السطح، واتجهت فوراً إلى مصحح الجريدة لتسأله عن معنى هذا الكلام، ويبدو أن الرغبة نفسها ساورت آخرين من المراسلين، فاتجهوا إلى مصحح الجريدة، فلم يردّ على استفساراتهم، بل إنه اغتنم الفرصة لمزيد من الإنشاد فيما هو يصوّب نظـراته نحو مراسلة الإذاعة، (لم نفطن في غمرة التحضير لاستقبال الضيف، إلى التنويه بجمالها الفتان):

   بأبي الشُّموسُ الجانحاتُ غَواربا    أللابِساتُ مِنَ الحَريرِ جَلابِبَا

  ألمُنْهِـباتُ عُقُـولَنَا وقُلُـوبَنَا        وجنَاتِهِنَّ النّاهِباتِ النّاهِبَا

     ألنّاعِماتُ القاتِلاتُ المُحْيِيَاتُ  المُبْدِياتُ مِنَ الدّلالِ غَرائِبـا

     حاوَلْنَ تَفْدِيَتي وخِفْنَ مُراقِباً    فَوَضَعْنَ أيدِيَهُنَّ فوْقَ تَرَائِبا

رئيس المجلس القروي راقب الموقف بخشية وتحسّب مما قد يقع من مضاعفات، خصوصاً بعد أن قال كل ما لديه من كلام لوسائل الإعلام، ولم يتبق لديه شيء يقوله، بل إن وسائل الإعلام نفسها انصرفت عنه بعد أن اعتصرته تماماً. والآن، ماذا سيقول للناس إذا لم يأت موراتينوس فعلاً؟ الشمس مالت إلى المغيب، وبعد قليل يؤذّن المؤذّن لصلاة المغرب، وموراتينوس لم يأت بعد، ويبدو أنه لن يأتي. إذاً، لا بدّ من أن في الأمر خدعة ما! فلماذا لا يبادر رئيس المجلس إلى فضح الخدعة، وبذلك ينجو من توجيه أصابع الاتهام إليه؟ وهو لن يخشى على التصريحات التي أدلى بها لوسائل الإعلام، ستبثّ الفضائيات هذه التصريحات حتى لو لم يأت موراتينوس، وستجد في ذلك فرصة لعرض ظاهرة جديدة، ظاهرة الاحتفاء بمسؤول سياسي كبير لم يفكّر أصلاً بالقدوم إلى القرية. رئيس المجلس صاح، فالتفّتْ من حوله وسائل الإعلام:

_ يا ناس، الوقت مضى بسرعة وموراتينوس لم يصل. لديّ خشية من مؤامرة ما.

ظهر في اللحظة نفسها، موكب سيارات يسير في الشارع العام. صاح بعض الناس: جاء موراتينوس، موراتينوس جاء. زغردت النساء، شعر رئيس المجلس بأنه تسرّع حينما أدلى بتصريحه الأخير، مسّدَ شاربيه بإبهامه وسبابته، عدّل هندامه الذي تهدّل من كثرة القعود والقيام، وتحرّك نحو الشارع لاستقبال موراتينوس، تزاحمت كاميرات التلفزة والميكرفونات على نحو يبعث الرهبة في النفوس. اقترب موكب السيارات، أبطأت السيارات سيرها بسبب احتشاد الناس في الشارع، صاح مصحّح الجريدة صيحة مدوّية: عاش موراتينوس رجل السلام! ردّد من خلفه الناس: عاش، عاش، عاش.

موكب السيارات تجاوز الحشد الجيّاش، ومضى مسرعاً إلى جهة لا يعلمها إلا الله. مؤذّن الجامع ارتفع صوته داعياً الناس إلى الصلاة، الناس غادروا الساحة والشارع العام، وفي نفوسهم مرارة، لأن موراتينوس لم يأت، ويبدو،كما قال بعضهم، أنه لن يأتي على الإطلاق.
_______
*روائي وقاص فلسطيني / من مجموعة “صورة شاكيرا” (2003).

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *