أعوام سقطت سهوا

*خيري منصور

دأبت الصحافة العربية في مثل هذه الأيام من كل عام على رصد ما صدر من كتب وما دار من سجالات وحراكات ثقافية خلال عام مضى، وثمة الكثير من هذا الرصد يسقط سهوا، ليس بسبب وفرته وفائضه، بل لأن ما يطفو منه على السطح أضعاف الغاطس في محيط من الحبر.
لكن نادرا ما كان هناك في المقابل تقليد مُضاد يتولاه الخيال وليس الذاكرة، بحيث يرصد غياب أنشطة وإبداعات تليق بهذه الدراما القومية، التي تلاشت فيها الهوامش بين العدل والاستبداد، وبين الحرية والاستعباد، ولم تعد هناك منطقة لمبو على غرار ما تخيله دانتي في كوميدياه الإلهية، بحيث أصبح التباطؤ في إبداء رأي بما يجري من دم ودمع تواطؤا، والحياد تأقلما ربويا مع واقع غاشم.
وما أعنيه بالتأقلم الربوي هو إضافة نسبة من الخنوع والامتثال وهما بمثابة ربا سياسي وأخلاقي يتقاضاه شايلوك الثقافة المنزوعة النخاع، والداجنة في بيوت زجاجية، ما لم يصدر خلال السبع العجاف التي أتت على كثير من اليابس ولم يسلم منها قليل من الأخضر، هو الاستقراء المعمق لظواهر معقدة، تحالف فيها المكبوت النفسي والسياسي مع المكبوت الإثني، بحيث أضافت هذه الجغرافيا الجريحة والنازفة من كل تضاريسها إلى البوصلة جهة خامسة، وإلى الأسبوع يوما ثامنا، وأصبح لزاما على المثقف الذي ليس في فمه ماء أن يسمي الجاهل باسمه، حتى لو كان مدججا بجهل نووي، وأن يقول للغول عينك حمراء وللسلحفاة أنت قبر يسعى، ما لم يحدث خلال هذه الآونة، التي قد تستطيل وتتمدد لتصبح حقبة في التاريخ، هو عدم اكتشاف القابلة التي استبدلت الوليد فأصبح مجهول النسب، وهو أيضا عدم إسقاط القناع الربيعي الأخضر عن وجه خريفي شاحب، فالموجة عالية وعاتية، والطبل حجب أنين الناي، مثلما اختلط الأمر على العين الكليلة فلم تعد تدري ما إذا كان ما تراه غسقا أم شفقا.
في الرصد التقليدي لثقافة عام مضى تذكر أسماء الراحلين بالمعنى العضوي للموت، لكن أسماء الاحياء الموتى الذين تأجل دفنهم، تبقى طيّ الكتمان لا النسيان، لهذا يبدو ما قاله الشاعر برتولد برخت ذات مذبحة وحين سال الدم في الشوارع كان بكل اللغات ولا يحتاج إلى ترجمة من الألمانية إلى العربية أو العبرية، وهو أين كان المثقفون والشعراء وما الذي كان يستغرقهم بعيدا عن ذلك الدم؟ إن ثقافة مصابة بالأنيميا الذهنية والارتهان لكل ما هو غريزي، ستكون مهمتها بالضرورة التسفيل لا التصعيد، وستفرز من شهود الزور أضعاف ما يمكن أن تفرزه من شهود الحق، لأنها عربة تجرها بغال الميديا إلى حيث لا تعلم. ما لم يحدث خلال عام مضى هو اجتراح كوة في هذه الآفاق التي سدّت، أو صيحة طفل في وجوه البالغين الحمقى الذين تنافسوا في وصف ثياب الإمبراطور، والحقيقة التي اكتشفها الطفل المعجزة، هي أن الامبراطور عار، وأن الفار الذي جازف بتعليق جرس في عنق القط نسي أن هناك ملايين القطط تتربص بالجحور وهي بلا أجراس.
إن المسكوت عنه والمتواطأ عليه والساقط عمدا وليس سهوا خلال العام الذي مضى وما حبل به من مسوخ، هو بيت الداء وليس بيت القصيد، ما دام الثالوث المحظور يمارس نفوذه بكامل حريته وزواياه الحادة، قيض لها فقهاء لتدويرها، ثالوث الاستبداد والاستعباد والاستنقاع، هو مثلث برمودا الحقيقي والعضوي لا الفيزيائي، ابتلع عقولا وكفاءات ورؤى بدلا من الطائرات. إن انتظار إبداع أو ثقافة شاهدة وطليقة ومفارقة للسائد الداجن من واقع استنقع حتى طفت على سطحه الطحالب، هو اشبه بانتظار مُهر يولد من رحم عنزة، أو انتظار موسم العسل من الذباب الذي يرضع العفن من جيفة وليس من الرحيق.
أليست مفارقة كبرى ونادرة أن يكتب الحطيئة شعرا حديثا عن حرب البسوس، وأن يتزوج داحس من الغبراء بعد أن سال دم القبائل حتى تجاوز الزبّى؟ كم نحن بحاجة إلى أعراف وتقاليد مضادة، نكتب من خلالها عن كل ما لم يكتب بعد وما لم يحدث بعد، وإلى أن نكتشف بأن للزجاجة نصفا ثالثا ولهذه الجغرافيا جهة خامسة، سنبقى نراوح مكاننا وننمو دائريا، بحيث نعود بعد كل جيل إلى أول السطر، فنحن أحوج إلى الكلام عما ينقصنا وليس عن الفائض المحفوظ عن ظهر قلب لدينا، بحيث أصبح قدرنا كتابة المكتوب وقراءة المقروء، ومن يضع ساقا في القرن التاسع عشر وساقا في القرن الواحد والعشرين، ويقرر المشي أو القفز، هو إما مجنون يهذي أو مهرج يستخف بعقول الناس، وربما لهذا السبب تحولت حداثوية الاتباعي إلى حفلة تنكرية، وظن الحطيئة أنه بارتداء ربطة العنق واستبدال الناقة بسيارة إنما يحرق قرونا ويقفز من ألفية إلى أخرى.
أخيرا كانت وصية الشاعر لأحفاده أوصيكم بالمسألة، وكان يعني بها الكدية والتسول، وليس المسألة بالمعنى الشكسبيري الذي تتلخص فيه ثنائية الكينونة والعدم.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *