تحليل الأدب.. نفسياً

*أسامة فاروق

“أحتاج أن أروي قصة؛ إنه هاجس. كل قصة هي بذرة في داخلي، تنمو وتنمو، مثل ورم، ويجب أن أتعامل معها عاجلا أم آجلاً” (إيزابيل الليندي).


“إذا لم تكتب كل يوم، ستتكدس فيك السموم وتبدأ بالموت، أو التصرف بجنون، أو كلاهما” (راي برادبيري).

“لو كانت الكتابة جريمة، لكنت الآن في السجن، لا يمكن ألا أكتب، فالكتابة قهرية” (ديفيد بالداتشي).

“حين لا أكتب يجتاحني شعور بفقد شيء ما” (جينيفر إيغان).

“إذا لم أكتب سأجن” (جيمس فري).

“الشيء الوحيد الذي يدفعني للجنون أكثر من الكتابة، هو عدم الكتابة” (سارا غروين).

القائمة طويلة جداً والإجابات تقريباً واحدة. والسؤال كان: لماذا تكتب؟!
كثيرون طرحوا السؤال، وكثيرون أجابوا عليه، لكن قلّة تمهلت لدراسة هذه الإجابات، لفهمها، للبحث خلفها عن معان كامنة، تفسر ذلك الانجذاب الجنوني نحو الكتابة، لدراسة طبيعة هؤلاء الأشخاص والطريقة عيشهم وتفكيرهم.

دراسات كثيرة أشارت إلى أن المبدعين عامة يتّسمون بمستويات مرتفعة من الخصائص الاجتماعية المميزة التي تجعلهم يميلون أكثر إلى: الانطواء، الاستقلال، الاعتداد بالذات، وربما النرجسية والعدوانية أحياناً، وكذلك الميل إلى الانعزال والانسحاب من مناسبات اجتماعية كثيرة. لكن إلى أي درجة تؤثر شخصية الكاتب في نوعية الإبداع الذي يقدمه؟ إلى أي درجة يتأثر بتاريخه الشخصي، بمجتمعه، بخبراته السابقة مع المتلقي الذي لا يعرفه؟ كلها أسئلة تلقي بالعملية الإبداعية إلى حقل مختلف تماماً، وإن كان غير بعيد كلية، وهو مجال الدراسات النفسية.

من هنا يمكن القول بأن دراسة شاكر عبد الحميد، الصادرة في مصر مؤخراً تحت عنوان “مدخل إلى الدراسة النفسية للأدب”، ربما تكون فريدة في موضوعها، على الأقل في العالم العربي. الدراسة ترصد العلاقة المتداخلة بين علم النفس والأدب، وتؤكد أن كل مراحل العلمية الإبداعية، يمكن أن تخضع للتحليل النفسي، بداية من النص، وصولاً إلى المبدع نفسه الذي يتسم بمهارات في التفكير، وقدرات إبداعية، ودوافع محفزة تميزه على نحو واضح عن غيره من الناس.. ومروراً بنوعية الكتابة، وطريقة اختيار الموضوعات وطرحها، بل حتى لحظات الكتابة نفسها: “بوشكين مثلاً كان يفضل الكتابة في الخريف، وكان روسو وديكنز يفضلان الكتابة صباحاً، بينما كان بايرون ودستويفسكي يكتبان مساء، وكان تشيكوف يكتب في شبابه على حافة النافذة، أما ليرمنتوف فكان يكتب أشعاره على أي شيء يقع في يده، وليس من الضروري أن يكون ورقاً”.
على أي أساس يختار الكاتب موضوعه؟ وفقاً للدراسة، فإن نشاط التأليف نفسه يشتمل على الموضوعات الرئيسية التي يكون المؤلف شديد الانشغال بها، وهو ما أسمته الدراسة بـ”الإشباع التعويضي”. فتنظر إلى انشغال تشارلز ديكنز بشخصيات المحتالين مثلاً، باعتباره شكلاً من أشكال الرغبة العارمة في قتل الأب، فالابن يعتقد أن أباه قد حرمه من عطف أمه ورعايتها له، ومن ثم فهو يسعى لأن يزيحه، ويحل محله، كي يستعيد مكانته لدى المرأة التي حُرم منها “وقد قدم ديكنز سلسلة كبيرة من الشخصيات المحتالة في روايته “أوراق بيكويك” وهي شخصيات تتسم كلها بالطفلية الشديدة والاعتماد الواضح على الآخرين. ويقال إن هذا يتفق تماماً مع ما هو معروف من تفاصيل عن حياة تشارلز ديكنز ذاته”!
ليس ديكنز وحده بطبيعة الحال. فكذلك كانت رواية مارسيل بروست “البحث عن الزمن الضائع”، عبارة عن شكل من أشكال العلاج الذاتي، بحسب الدراسة، إذ حاول بروست من خلالها أن يبرأ من ذلك الحمل المهيمن عليه بتفكك الذات، وطبقاً لهذه الرؤية فقد لجأ بروست إلى الفن بعد موت والدته كي يستعيد ذاته المفككة، “وكان النشاط الخاص بكتابة الرواية خبرة أكثر واقعية لديه من ذلك العالم الاجتماعي الخارجي الذي انسحب منه”. وكانت هذه الرواية المثال الذي أوضح للعالم الخارجي كيف يمكن لشخص عصابي أن يعلو، ويتجاوز، ذلك التفكك الموجود في حياته الشخصية.

وطبقاً لباحثين آخرين، أشارت لهم الدراسة، فإن دوافع التأليف الأدبي لدى ستاندال كانت معبرة عن فكرة “الإشباع التعويضي”. فحياته يمكن إعادة تركيبها من خلال كتاباته، كما أن كتاباته تعكس بوضوح حاجاته ومخاوفه والاهتمامات المسيطرة عليه. فمثله مثل بروست، عانى ستاندال من الحرمان من الأم، وقد أدى موت أمه لمّا كان في السابعة من عمره، إلى أن يعاني فترة طويلة من الإهمال والحرمان والتجاهل “لقد تخلص ستاندال من سطوة أبيه وحاول التعويض عن حالة الحرمان من الأم من خلال الاهتمام بحالات الاتصال “الجنسي غير الشرعي”. وقد امتلأت أعماله بمقارنات بين النساء المتحفظات في سلوكهن الجنسي، المهتمات بتربية أطفالهن، وبين النساء الشهوانيات المبتعدات كثيراً من الفضيلة”.

مسألة “الإشباع التعويضي” تلك لها من يؤيدها أيضاً من كتّاب العصر الحديث. إيزابيل الليندي تؤكد هذه النظرية، وتقول في إحدى شهاداتها عن الكتابة: “اكتشفت بأن كل القصص التي رويتها، كل القصص التي سأرويها، مرتبطة بي بشكل أو بآخر. عندما أتكلم عن امرأة في العصر الفيكتوري ترحل عن الأمان في بيتها وتأتي إلى حمى الذهب في كاليفورنيا، فأنا أتكلم عن الأنثوية، عن التحرر والانعتاق، عن الأمور التي مررت بها في حياتي الخاصة، هاربة من عائلة تشيلية، كاثوليكية، محافظة، بطريركية، فيكتورية.. خارجة إلى العالم”.
يشير عبد الحميد إلى دراسات عديدة حول الفكرة نفسها، حللت أعمال آخرين، منهم شكسبير وبريخت وبودلير. لكن الأمر ليس بهذه البساطة بالطبع، فهناك من يرفض هذه النظرة وهذه الطريقة في تحليل الكتابة الإبداعية، وعلى رأسهم فوكنر الذي قال بشكل واضح “ما المهم في عقدي النفسية؟ إن عملي فقط هو الذي ينبغي أن يوضع في الاعتبار.. إنني –كشخص- غير مهم”. وأيضاً أوستن وارين، الذي قال إن الفن العظيم يتجاوز معايير علم النفس، وأن الاستبصارات النفسية للأدب، يمكن الوصول إليها بطرائق أخرى غير المعرفة النظرية بعلم النفس. لكن عبد الحميد يرى أن تلك الكلمات مجرد آراء محبطة، ويرد على الفكرة، فيقول إن فوكنر خلط هنا بشكل واضح بين التحليل النفسي (كما قدمه فرويد وأتباعه) وبين علم النفس (كعلم منهجي موضوعي منظم) وهو الغرض من الدراسة بالأساس، حيث يرى أنه يمكن ملاحظة اهتمامات عديدة بالموضوعات النفسية داخل الأعمال الأدبية. فقد ظهر اهتمام الأدباء والنقاد بالجوانب الخاصة بأنماط الشخصيات وسماتها، ودوافعها، وانفعالاتها، وأفكارها، وصورها، وقيمها..إلخ، “أما في مجال الدراسة النفسية للأدب، من وجهة نظر علماء النفس أو المحللين النفسيين، فإن غالبية الاهتمامات –رغم قلتها- انصبت على المبدع دون القارئ، وعلى نوع إبداعي بعينه، غالباً ما كان الشِّعر، دون الأنواع الأخرى، وفي كثير من الأحيان كان المنحى التحليلي النفسي هو السائد والغالب على هذه الدراسات”.

كذلك، أدى الانشغال الزائد بالجوانب اللاشعورية في الدراسات التحليلية النفسية للأدب، إلى المبالغة في الاهتمام بالجوانب المرَضية والغريبة منه، والى هيمنة موضوعات بحثية تتعلق بالشخصية والخصائص الانفعالية والدافعية المميزة لها، والى إهمال الجوانب الأكثر إيجابية وأكثر معرفية في الشخصية الإنسانية: “إن الأدب لا يمثل فقط الجوانب السالبة لدى الإنسان، بل يمثل أيضاً نجاح هذا الإنسان في علاج أزماته ومشقاته النفسية ويمثل نموه وتحقيقه لذاته وشعوره بالكفاءة والانتماء”.

يوضح المؤلف أن علم النفس يمكن أن يدخل إلى مجال الأدب من زوايا كثيرة ومتشعبة، منها: “فحص” المبدع خلال نشاطاته الإبداعية المختلفة، وما تشتمل عليه هذه النشاطات من عمليات معرفية ووجدانية ودافعية، وغيرها. كما قد يدخل، من خلال دراسة الناتج الإبداعي، سواء كان قصة أو قصيدة أو مسرحية أو رواية. أما الطريق الثالث، فيوصل مباشرة إلى المتلقي، أو قارئ الأدب، ذلك الذي يستجيب للأعمال الأدبية والإبداعية بطرق مختلفة.

يؤمن عبد الحميد بأن الرؤى النقدية هي التي تعطي للكتابة معناها وتمنحها دلالتها، وهي التي تكشف أنساقها وتصنف مستوياتها وتحدد مراميها عندما تجتهد في بث الحياة فيها وتأوّلها بأشكال وقراءات متعددة. لذا يقول إن ما يقوم به النقاد أشبه بالعمل الذي يقوم به المحلل النفسي عندما يترك المريض يحكي، من خلال عمليات التداعي الحر، عن جذور المشكلة وأسبابها، من دون انتظام أو تتابع منطقي محدد عبر الزمان والمكان والمناسبة. كذلك، يترك الأديب شخصياته عبر القصة أو الرواية أو القصيدة أو المسرحية، تحكي، من دون خضوع صارم لمنطق العقل أو الرقيب الداخلي: “وقد يفعل ذلك الناقد أحياناً، فيترك العمل يتحدث إليه من خلاله، إنه يتوحد معه، ويتقمص شخصية الكاتب في الشخصيات التي يحكي عنها، يتجول معه عبر الزمان والمكان والانفعالات والأحلام والكوابيس والرغبات وغيرها، ثم يقوم بتجريد ذلك كله في شكل مفاهيم نقدية شارحة”.

هكذا، يقوم الناقد الأدبي بدور المحلل النفسي خلال عملية تأويل النصوص. لكن ذلك –وحده- لا يكفي بحسب رؤية المؤلف الذي يرى أيضاً أن إخضاع النص الأدبي للتحليل النفسي فقط، قد يغفل بعض الجوانب الأسلوبية واللغوية والاجتماعية الأخرى “مثلما قد يكون لإخضاع التحليل النفسي للنقد الأدبي آثاره المدمرة أيضاً في الخصوصية المميزة لعملية التحليل النفسي ذاتها”.

___________
(*) شاكر عبد الحميد ناقد وأكاديمي مصري، شغل منصب وزير الثقافة في مصر، وعمل أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة، ونائباً لرئيس أكاديمية الفنون، وعميداً للمعهد العالي للنقد الفني، وكتابه “مدخل إلى الدراسة النفسية للأدب.. نظريات وتطبيقات” صدر عن الدار المصرية اللبنانية.
________
*المصدر: المدن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *