خاص-ثقافات
*عزالدين بوركة
يقوم تفكيرنا، بالكامل، على ثنائية اللغة والصورة. إننا حينما نفكر، فنحن نفكر عبر الصورة واللغة، إلا أن هذه الأخيرة ما هي إلا مجموعة من الألفاظ المكونة للصورة – “ذهنية”- عما نلفظه، فحينما نفكر في “شجرة” فإننا نتخيل ونتصور شكل الشجرة، وحينما نفكر في السعادة، فإننا لا نتخيل ولا نتصور صورة محددة ماثلة أمامنا لشيء ما، بل إننا نُبْصِر، ونرى، أنماطا من الصور لهيئة أو أشكال أو تَمَثُّلات صُوَرِيَة تُحيلنا على السعادة. قد يتخيّل سجين أن السعادة هي مساحة كبيرة وممتدة في النظر يستطيع أن يفر إليها، يتحرك فيها بكامل حريته. إذن، فنحن لا نفكر إلا بالصورة. وحينما نتفلسف فإننا لا نتفلسف إلا بالصورة. لما للفكر والتفكير والفلسفة من اتصال.
بينما يطرح السؤال هل نعيش عصر الصورة، أم عصر الشاشة، أم العصر الافتراضي، المعلوماتي، أم هو عصر السرعة، أم هي مفاهيم تتداخل فيما بينها لتشكل معالم عصر جديد تلعب فيه الصورة الدور البارز في تحريك كل شيء، وتحديد المستقبل وقراءة الماضي وفهم الحاضر؟ إلى الدرجة التي تجعلني حينما ألفظ كلمة “أتصور j’imagine” فإنني أقصد “هكذا أفكر في شيء ما”، وحينما أتصور، فأنا أُحَرِّك في عقلي ومخيلتي صورا ما، أُرَتِّبُها كما أرتب قطع لعبة البوزل لتكوين نظرة point de vue ” ” تُجاه موضوع أو شيء ما. إنني أُكَوِّن نظرة ما، إذن، أي “أنظر” je vois.
بالمعنى الأوّلي، فالصورة هي تمثيل أدقّ أو أقرب دقة لشيء حقيقي. فالصورة تجعلنا. هنا، نتفكر، نسترجع الذاكرة، ونتذكر ونمثّلُ الشيء في عقولنا، لهذا تُعتبر الصورة وسيلة للتفكير، إن لم تكن وسلته الوحيدة !. فالصورة تستطيع، بهذا المعنى، أن تحرّك الأفكار، والأحاسيس… ولإدراك هذا الأمر، يمكن أن ننظر إلى الوصلات الإشهارية، والصور الإشهارية، وما تفعله بحواسنا وأفكارنا، وحتى أجسادنا.
فهل يمكن للصورة أن تُنْشِيءَ تفكيراً؟ للإجابة عن هذه الإشكالية الكبرى علينا أن نغوص عميقا في مفهوم الصورة: هذه الأخيرة، هي دائما حسّاسة لما تحمله من دلالات. إنها دائما شيء خاص. فإن فكّر أي واحد منا في حيوان معين، مثلا، فإنه سيفكر في نوعه وشكله وجنسه وطوله، وحتى المكان المتواجد فيه. يمكننا أن نتخطى هذا المعنى المُبَسَّط، ونذهب إلى التصور الثقافي للصورة. إذ إننا نتحدث عن الصورة في الشعر، حيث تحضُر عبر استعارات ومجازات لغوية، يُقْصَد بها التصوير عبر الكلمات، أو بتعبير نزار قباني “الرَّسم بالكلمات “.
ما الذي يحدث هنا؟ هل تجاوزت الصورة ماديتها؟ هل لا نستطيع التفكير خارجها؟ هل هي تسكن اللغة والألفاظ، أم تسكن عقولنا؟ هل لا نفكر إلا بما نظرنا إليه، أو ما نتصوره ونتمثله؟ هل كنا نفكر في الصورة قبل “عصر الصور”؟ أم إننا نعيش طفرة في التفكير؟ هل نحن من يسيطر على الصور التي نفكر بها، أم هي ما يسيطر علينا؟ وما الذي نقصده بسلطة الصورة؟ ومتى تصير هذه السلطة مُفْرِطَة، إلى حد أن نصفها بـالـ”إرهاب”؟ وأين يتمثل إرهاب الصورة؟ وماذا عن الصورة في الفن، هل هي، دائما، سلطة و إرهاب، أم تحمل مُهَادنة ولطفاً وَوَدَاعَةً في جوهرها!؟
لقد شهدت الحضارة البشرية تغيرات، وقفزات كبرى خلال عصور مختلفة، من الشفوي إلى الكتابة، ومنها إلى الصورة، تَغيُّر ستعرف معه آليات التفكير تحوُّلات كبرى، إلا أن الإنسان ظل محافظا على خاصية تصوّر وتمثيل ما يفكر فيه، فقد تعامل، أول ما تعامل مع العالم الخارجي بشكل فيه من الاستقامة وإعمال العقل، في البدايات التطورية الأولى للجنس البشري العاقل والمستقيم، مع الصورة، على جدران الكهوف، لتبليغ رسائله، وتجسيد عالمه وبيئته، والإخبار عن ملكيته الخاصة للمكان الذي فيه كان يعيش، ولتخليد ذاته وانتصاراته. وها نحن في زمن الصورة نعيش زخما سريعا في نقل المعلومة المصوّرة، ما يتولد عنه الرغبة في سرعة الاستقبال.
إننا لا نفكر عبر اللاّشيء (الفراغ)، إلا إذا كُنّا قد سقطنا، سريعا، في الفراغ، في أعماق الفراغ، إن التفكير بسرعة يعني السقوط بسرعة. لكننا، ونحن في زمن السرعة، حيث أدركت الصورة الحركة. وأدركت تغيرات الزمن، بفعل الحركة المتسارعة في الزمكان، في الفضاء السمعي البصري، والفضائيات التي تتكاثر، تكاثر الخلايا الحية، لا نستطيع التفكير جامدين، بل إننا حين نفكر، لابد من وجود حركة وحركية. ففي العالم الثابت، إن وُجِدَ هذا العالم، فلا فُرصة لنا للتفكير فيه.
لقد ارتبطت الصورة في ميثولوجيا التوحيد، في جل ديانات السماء، وخاصة في الثقافة العربية-الإسلامية بالتحريم، وارتبط النظر بـ”غض البَصَر”، ليصير التفكير غير مباح، أما الإيمان فهو قطعي، ولا يجُوز طرح السؤال، الذي يقود إلى التساؤل عن الذات الإلهية، وتصور طبيعتها، وتشخيصها. لهذا ظلت الصورة كالتفاحة المحرمة، موجودة ومعروفة، ويمكن إبصارها، لكن لا يجوز الاقتراب منها، إنها خطر يَفْتِن، ولنا في غَرَقِ نرجس في صورته عِبْرَة، حينما فَتَنَتْه صورته المعكوسة في مياه النهر الجارية.
الصورة إذن خطر، كما تتصورها الميثولوجية… إلا أنَّ للآلهة صور، فلم يستطع الإغريق التفكير في آلهتم، دونما أن يجعلوا لها صورا وتمثيلات، لا تحيل سوى على الموت والأشباح، من حيث تنحدر اشتقاقاتها اللغوية. لهذا نَفَر منها أفلاطون، وجعلها تشويها لعالم المثل، أي عالم الكمال.
ولأن الإنسان ثائر بطبعه، لا يقبل الركود والثبات، إنه رحّالة، وعاشق للتِّرحال، وإن استقر في المدن والحواضر، فإنه جعل من الصورة، على أبواب وجدران معابده ومقابره، أداة للسفر والترحال، إلى تلك العوالم التي زارها في الأرض، أو تلك العوالم الميتافيزيقية التي يعرج إليها بلا جسد بعد الموت، أو في حالات تعبدية خاصة. فجعل من الصورة أداة التفكير فيها، وأيضاً أداة السفر. إن الصورة هنا تشبه آلة الزمن التي قطع بها الإنسان المسافات، وقلّص بها الوقت. يكفي “النظر” إلى صورة، أو بعض الصور، لننتقل إلى عالم الموت، أو عوالم بعيدة في الزمن والمكان… إن الزمن يعيد نفسه بشكل مغاير. ليجعلنا نكبس على أزرار آلة التحكم، وننتقل من مدينة إلى أخرى، ومن حضارة إلى أخرى، ومن لغة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى ثقافات مختلفة ومتنوعة، بل إننا نمتلك متحفا في كل منزل، من خلال ألبومات الصور التي تتحول إلى معابد ومدافن…
لقد انتقل الإنسان من الصور التي طبعها بيده الملطخة بالطين والأصباغ الطبيعية والدماء، إلى الكتابة، إلا أنه حاول أن يجعل تلك الكتابة صورا، وأن يجعلها رسما لما يراه ويفكر فيه وما يحسه. حتى إننا نسمي الكتابة في اللغة العربية ب”الرسم” و”التخطيط”، ونقول “رسم الكتابة”. فحينما نكتب، ولو حروفا مجردة، لا تصويرية، كما في الهيروغليفية، فإننا نخطط ونرسم خطوطا، أي نصنع أشكالا، وصورا مجردة. لم ينتقل، الإنسان، إذن، من الشفوي إلى الكتابة، ومنها إلى الصورة، بل إنه ظل يفكر بالصورة. باعتبارها الشكل الذهني الذي يفكر به، وباعتبارها الرسم الذي به يكتب، وباعتبارها ما يراه وما يتحرك أمام ناظريه، ويجعل منه فنا وأداة تواصلية واتصالية.
يذهب هوبز إلى أنه “لا يمكن أن نفرق بين الفكر وبين المادة التي تفكر”، بمعنى، أن الإنسان حينما يفكر، لا يفكر بعقله فحسب، بل بكامل جسده، كأعضاء مُتضافرة في ما بينها، لا يمكن عزلها عن العقل، الذي هو أداة تفكيرنا، والإنسان حينما ينظر، كما عند ميرلوبونتي، لا ينظر بعينه فحسب، بل بكامل جسده… إننا إذن، ندرك العالم الخارجي ونفكر فيه باعتبارنا جسدا، ويفكر فينا ويدركنا باعتبارنا جسدا، أو بالأحرى باعتبارنا صورة، تنتقل مع الضوء إلى بؤرة العين، ومن ثم إلى الدماغ (آلة العقل)، لينظر إلينا، ويفكر فينا.
تتعدد في عصر الشاشة، مصادر الصورة، التي باتت تحيط بنا أينما رحلنا وارتحلنا وسافرنا ونظرنا، إنها ثابتة ومتحركة، إنها في كل الاتجاهات، وفي كل الأمكنة، على أرصفة الطرق، وعلى أبواب المحطات، وفي صفحات الجرائد والمجلات، إنها تتحرك وتتنفس في قاعات السينما وعلى شاشة التلفزيون، لقد خرجت من الكهوف، لتخترق العالم، ولتبتلعه، لم تعد خجولة، لقد امتلكت الشجاعة والسلطة، وباتت تفتن وتُجَمِّل، وترهب أيضاً.
لقد أخذت الصورة الإنسان ليتسامى بتفكيره، كما يقول رجيس دوبري، “من المرئي إلى اللاّمرئي”، ومن العابر إلى الخالد، ومن الإنساني إلى الإلهي. “فلا شكل للمرئي بدون عمق من اللامرئي”. إن هذا الأخير هو نور إلهي، وهو شكل ميتافيزيقي للتفكير، إنه تلك الصورة التي لانستطيع تكوينها، لكننا ندرك بها العالم. لقد استطاعت الآلة الفوتوغرافية أن تلتقط النور (الضوء)، وصارت تتحكم في المرئي، بأن تؤطره وتضعه داخل حالة سيكولوجية معينة. وبينما ظل الرسم (الفن التشكيلي) يبحث عن النور، فارتحل الفنان الغربي شرقا وجنوبا بحثا عنه، ليأسره داخل قماشاته.. إلا إننا انتظرنا قدوم تلك الآلة السحرية، فانوس العَجَب، السينماتوغرافيا، لتولد السينما، من الغرفة المظلمة، لنبصر اللاّمرئي، ونأسره، ونستشعره، ونحسه.
لقد جعلت السينما الصورة تتحرك، ولم نعد نحتاج للتّحرُّك على امتداد جدار الأهرام لنقرأ تلك الصور التي تقود الفرعون إلى العالم الآخر، ولم نعد في حاجة لتصفح ألبوم الصور لننتقل من مكان إلى آخر. فيكفي أن نأخذ مكانا قصيا مريحا، وننظر إلى الأعلى، إلى النجوم، إلى السماء، القماشة البيضاء أقصد، لنرى الضوءً يتحرك، لا ظلال أفلاطون. إنها صور ضوئية photos، تتحرك لتصنع الزمن، إنها تتحكم في اللامرئي إذن. فالسينما هي انتقال من الصور-الحركة إلى الصور-الزمن، كما يخبرنا جيل دولوز. الزمن الذي ينبغي على الصورة أن تبرزه، باعتباره اللامرئي، المسرع، ومستحيل القبض عليه، إنها تَعْمَد لجعله مرئيا، ومكشوفا، وتجعلنا ندركه، ليس من خلال التفكير فيه، بل ” رؤيته بالعين المجردة !”. فالسينما جعلتنا نغير كل الصور القديمة للتفكير.
إلا إنه رغم كل هذا، فالتلفزيون بخلقه لخاصية المباشر، أعاد خلق الشبح والمسخ، إنه يجعلنا نفكر في نسخة الواقع على أنها الواقع عينه. فلا نفكر فيما نراه، ولا في الواقع، كما هو واقعٌ.
لا يهتم التلفزيون إلا بما ترغب الجماهير في رؤيته (نسبة المشاهدة audimat)، لهذا يقدم لها تلك النسخ على أنها الواقع، الذي يضعه في صورة سيكولوجية معينة، عكس السينما التي تُعَدِّدُ زوايا النظر، ولا تقدم نفسها على أنها الواقع. في السينما نجعل مسافة بيننا وبين ما ننظر إليه، لنتماهى معه وندركه ونحسه، بينما يرغمنا التلفزيون على عيش الواقع الذي يقدمه. يقول دولوز :”صورة الزمن المباشرة هي الشبح الذي يطارد السينما دائما لكن السينما الحديثة تحاول تحسين هذا الشبح”، إنها تحسّن الواقع وتجمّله، لتجرده من سلطته عليها…
إلا أن التلفاز هو أداة للتسلط، والفتك، والتأثير الكبير على العقول والأحاسيس، فهو آلة لاستلاب الذات والنفس والروح، تجعل المتلقي جسدا فارغا بلا روح، يرى ويقلد، خصوصاً الوصلات الإشهارية التي تجعلنا نُشاهد لنُقَلِّد ونَتَّبِع، أي نشتري ونقتني وندفع، بدون تفكير أو مُقاومة، إنها تلغي مَلَكَة التفكير، مقابل إعلاء ثقافة الاستهلاك والتقليد والمحاكاة، والتبعية العمياء.
لا زمن في وصلات الإشهار سوى الحاضر، إنه وسيلته الفتاكة، إنها، مثل التلفاز، توقف الزمن عند لحظة معينة، وتَشُلُّه بالكامل، لنصير أسرى في قفصها… غير تاركة للمتلقي الزمن الكافي للتفكير. لكن لا حاضر في السينما إنها حركة، إنها دائما في المستقبل، ولو اعتمدت في سردها على أسلوب الاسترجاع flash back. إن السرد مهما كان أسلوبه، فهو دائما إلى الأمام، ويجعل المشاهد يُركّب الأحداث في نسق ينتقل من الماضي إلى مُستقبلٍ، لا وجود للحاضر فيه. فالحاضر هو الركود والثبات والنسيان، والخضوع، والاستجابة. “فالتلفاز صناعة نسيان واستلابٍ، أما السينما فصناعة ذاكرة وتفَكُّر”.
هذا بينما تلعب الصورة الأداة المثلى للإرهابي، لتجسيد “الموت”. إنه يخلق الموت من الحياة، فعكس السينما أو المسرح أو المسلسلات المتلفزة… يحضر الموت مجازيا باستعارات صورية (من صورة)، بينما الإرهابي جعل من العالم الافتراضي، باعتباره الوسيلة الأكثر دَمَقْرَطَة، ومنفذا لبث صوره الدموية، فلا مكان للممثلين البدلاء، كل الممثلين هم واقعيون، يقومون بأدوار واقعية، فالموت المصوّر في الأشرطة التي يرسلها الإرهابي هو حقيقي لا تمثيل فيه، بل يحضر مجسدا ومرئيا و”جميلا!. فالإرهابي يعمد لوسائل السينما، من إضاءة وتوضيب المكان ومونتاج ومؤثرات صوتية وبصرية ليجعل “الموت استتيقا”. ويا لها من استتيقا، “استتيقا الموت”. الأداة الأكثر جلبا للمناصرين من حملات الإشهار والدعاية والإعلام، لننظر، فقط، للاستقطاب الداعشي على امتداد العالم كله، وقبله القاعدة، وقبلهم جماعات فاشية، وأخرى نازية…
“الصورة ولدت من رحم الموت”، في المقابر والأضرحة، وصارت أداة للقتل والاغتيال، إلا أن الفعل الإنساني الجمالي، لا ينفك ينزع عنها هذه الخاصية، لتصير وسيلة حياة، كما هي وسيلة تفكير. السينما، الفوتوغرافية، والفوتوغرافية التشكيلية، والتصوير الصباغي…الخ، وسائل لخَلْق صور فنية، صور تؤمن بالحياة وتعيد ترتيب الواقع داخل مجازات واستعارات شعرية جمالية، بل إن الصورة تخطت المادي إلى اللامادي. وصرنا نتحدث عن الصورة الشعرية، تلك الصورة التي تولد استعارات لغوية ومجازات وتركيبات تُعيد خلق العالم والأشياء، وإبداعهما من جديد.
إن للصورة حضوراً في يومنا، في حاضرنا وماضينا ومستقبلنا، إنها أمامي الآن داخل هذا الحاسوب الذي أرقن به هذه الكلمات، وداخل جيبي، في هاتفي المحمول، بل أصبحت أحملها في معصمي، من خلال الساعة اليدوية، لهذا نحن لن ندركها إلا باعتبارها أداة تفكير ووسيلة صناعة العالم ومعالمه، وإنها، هي الفكر بعينه.
___________
*(باحث جمالي مغربي)