خاص- ثقافات
*إبراهيم مشارة
قضية تمثال المرأة العارية في مدينة سطيف بالجزائر واللغط الذي أحدثته محاولة تدميره من قبل شخص مكتهل ملتحي بين مستنكر لذلك بدافع حب الفن واحترامه ومؤيد بدعوى الفحش المتضمن في التمثال وساخر لم يحد إلا السخرية معالجا لواقعه المحبط المثخن بالجراح والانكسارات تعكس بحق أزمة داخل مجتمع فقد القدرة على التفكير منذ زمن بعيد وانخرط في لعبة السخرية أو التنديد أو التأييد عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمقاهي للرجال والحمامات للنساء والتي تعكس بدورها حالة من الملل والإحساس بالضياع فلم يجد غير الضحك لمداوة جروحه وإحباطاته السياسية والاجتماعية وكما قال الشاعر قديما : ولكنه ضحك كالبكا أو: وشر البلية ما يضحك !
في مجتمع لا ينتج فكرا ويكتفي بالاستهلاك تتبلد حاسته الجمالية وينخرط حتى في استهلاك تماثيل فترة عبوديته للمستعمر وفي ظل مؤسسات فاقدة للمشروع الحضاري ولما يسمى مشروع مجتمع يصبح التمثال حديثا وطنيا وبدعوى الظلامية وأخطارها على الفن والحياة يصبح عالميا ، بينما انهيار المنظومة التربوية لصالح المؤسسات التعليمية الخاصة المعتمدة وغير المعتمدة ونمو المؤسسات الاستشفائية الخاصة بشكل رهيب لا يثير استنكارا لدى الناس ولا يدعوهم إلى التفكير في أفول دولتهم الوطنية حيث التعليم العمومي الجيد المجاني والعلاج المجاني الصحيح مكسبان دستوريان وهو يرى تقوض المكاسب الوطنية التي ضحى الشعب من أجلها إبان المرحلة الاستعمارية لتذهب أدراج الرياح مع مطلع الألفية الثالثة حيث انخرط البلد في منظومة إمبريالية تهب خيرات البلد للغير ويستاثر بالباقي القلة داخل البلد، كل هذا وكأنه لاحدث بينما يصبح تمثال عار حديث الناس وكأن عري هذا التمثال هو الذي قوض أخلاق الناس وتدميره فقط كفيل بإصلاحها ونحن نرى أخلاق الناس تقوضت بالكامل بشيوع كل أمراض النفس والقلب معا ولعل وسائل التواصل الاجتماعي واليوتوب والمواقع غير الأخلاقية وما تقدمه من بذاءة ثعابين ليست في مدينة سطيف بل في قلب كل بيت – إلا من رحم ربك – ولكن المعول لا يستطيع النيل من الثورة التكنولوجية الرهيبة التي نسفت أخلاق ناس وهدمت أسرا وشردت أولادا وتسببت في تسرب مدرسي وخراب بيوت وذلك حال الشعوب الضعيفة غير المحصنة وغير المثقفة ثقافة إيجابية حقيقية تسمح لها بالمشاركة البناءة في مسار التاريخ.
شخصيا كنت أود لو سحب هذا التمثال في الستينات إلى مكان خاص كالمتحف وعوض بتمثال تنحته أيدي شباب وطني فنان يضاهي تمثال المرأة العارية من حيث الجودة الفنية ويفارقه في المبدأ القيمي متماهي مع القيم الوطنية التي يؤطرها الدين الإسلامي فالتناقض ظاهر بين تمثال لامرأة عارية وقبالته مسجد يدعو إلى الفضيلة خمس مرات في اليوم فأي مجتمع هذا يعيش هذا الفصام الحضاري؟
إن غياب المشروع الحضاري ومشروع المجتمع وأفول الدولة الوطنية وإفلاس العقل وعدم قدرته على إنتاج الأفكار وتبلد الحواس والاكتفاء حتى باستهلاك التماثيل المضادة لقيمه الحضارية يشكل نكبة حقيقية كما أن اللغط والجدل والضوضاء والصخب والتباكي على التمثال يدعو إلى العجب مع أن المدرسة الخاصة والمستشفى الخاص قوضا المدرسة العمومية والمستشفى العمومي مما سيحتم على عامة الشعب الكادح مزيدا من النزيف من أجل الدروس الخصوصية والعلاج الخاص المكلف في العيادات الخاصة تأكيدا ظاهرا لأفول دولة الحقوق والمواطنة.
لو أن أولي الأمر سحبوا هذا التمثال إلى مكان آمن مع الحفاظ عليه كتحفة فنية وعوضوه بتمثال وطني منخرط مع القيم الوطنية لما وصل الحال إلى معالجته بالمعول ولما وجد الناس في هذا الحديث محورا يوميا لأحاديثهم في حين يهددهم التعليم الخاص والاستشفاء الخاص بامتصاص كرياتهم الحمراء والبيضاء معا وستتكفل وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى بتخريب بيوتهم وتسريب أولادهم ، ورهن مستقبلهم للفراغ والعبث واللاجدوى.
هذا العمل من قبل هذا الشخص يعكس أزمة حقيقية داخل مجتمع فقد البوصلة والحصانة ولم تعد الحياة لديه سوى توفير متطلبات الحياة اليومية -وله بعض العذر في ذلك- والمعول الذي هوى على رأس المرأة العارية إنما هوى على رؤؤسنا جميعا لينبهنا إلى حقيقتها إنها رؤوس خاوية حائرة تائهة بين مجتمعات الابتكار والإبداع والتمدن.
حالة من الفوضى السيميائية والعبث واللاجدوى تنتاب المجتمعات العربية الفاقدة للبوصلة والمشروع الحضاري ويصبح التدمير أسهل وسيلة لمعالجة الذهان والفصام والتبلد ففي سوريا تم تدمير تمثال أبي العلاء ذلك الشاعر الذي رفع شعار العقل والتعقل والتفكير والدفاع عن الكرامة الشخصية والاعتزاز بالرأي وبث روح التساؤل والحيرة والنقد في نفس الإنسان وعقله وعدم التسليم الأعمى والتقليد الممقوت، وهو القائل:
كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل * مشيرا في صبحه والمســاء
فإذا ما أطعـتــه جلب الرحمة * عند المسير والإرســـــــــاء
وفي مصر تم الاعتداء على تمثال طه حسين مع الرجل كان المدافعين عن مجانية التعليم وأول شيء فعله يوم تولى وزارة التربية هو ترسيم مبدأ مجانية التعليم وقال قولته المشهورة العلم كالماء والهواء أي بالمجان.
إن العمل التخريبي الذي حدث بمدينة سطيف -على فداحته- أهون مما حدث بمصر وسوريا فتدمير تماثيل رموز عربية وإسلامية اعتداء على الموروث العربي التنويري بينما معالجة تمثال امرأة عارية بالمعول اعتداء على موروث استعماري يحيلنا جميعا على الأزمة التي نعيشها والفصام الحضاري الذي نعانيه حتى جاء هذا الشخص ليضع يده عبر عمله التخريبي على ورم بداخلنا ظللنا عقودا نتألم له ولا نعالجه وهل أفدح من استهلاك قيم جمالية استعمارية متناقضة مع القيم الوطنية؟