*أمير تاج السر
في معرض الدوحة الأخير للكتاب، الذي عقد في الفترة من نهاية تشرين الثاني (نوفمبر)، إلى الخامس من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، التقيت بشاب أعرفه، يحمل كتابا صغير الحجم، يبدو مهتما به، ويتأمله بشغف. كان غلافه مميزا، ثمة وجه ملون، مدهون بفتنة طاغية لامرأة، ثمة عنوان كبير مكتوب بالأحمر، أظنه كان «رجل أحبه»، أو «أحب هذا الرجل»، أو شيئا من هذا القبيل.
لم يكن اسم المؤلفة معروفا، ولا اسم دار النشر التي أصدرت الكتاب، ولا بدا لي عنوانا ناجحا لكتاب قد يثير مثل هذا الاهتمام، وتذكرت على الفور أنني شاهدت في اليوم السابق وأثناء مروري في مكان العمل، فتاة تحمل الكتاب نفسه، وتقرأه في انتظار الدخول على الطبيب، وكان شيئا نادرا أن يقرأ أحدهم في مستشفى، أو في أي مكان فيه انتظار ما. والشيء المألوف أن ينتظر الناس وهم ينقرون على أزرار أجهزتهم المحمولة، ويكتبون رسائل الواتسآب، وتويتر، ويصورون مقاطع سناب شات، عن أشياء تافهة جدا، مثل الأرضيات غير اللامعة، والكراسي التي قد تكون قديمة في مكان جلوسهم، وحتى الأحذية المتسخة التي يضعونها على أقدامهم.
لم أسأل الشاب عن سر اهتمامه بالكتاب وأكملت جولتي في المعرض الذي كان مزدهرا إلى حد ما، برغم غياب دور نشر مهمة، لا أدري لماذا لم تأت، ويعرف القائمون عليها، أن لهم زبائن عديدين ينتظرونهم من عام لآخر، من أجل التزود بعلف الذهن كما أسميه. وتلك الأكياس المملؤة بالكتب، التي تطالعك على الأيدي، تشير إلى حماس ما، ما زال يمسك بكثير من الناس تجاه الكتب، على الأقل تجاه اقتنائها، وليس قراءتها كلها، أو حتى قراءة بعضها، ولطالما كان اقتناء الكتب، وتقليبها بإعجاب، قبل محاولة قراءتها، هاجسا عاما في جيلنا والأجيال التي سبقت.
كان الملفت أيضا وجود دور نشر كثيرة جديدة تماما علي، لم أسمع بها قط، وسألت عن أصل بعضها، ومتى تكونت، وكان مفاجئا أنها حديثة بالفعل، تشارك لأول مرة، وبعناوين كثيرة، فاق عددها عند البعض، الخمسين عنوانا. وبالطبع يغلب عليها الروايات التي تطالعك بعناوين وأغلفة جذابة للغاية، وأحيانا عناوين مكررة، وأغلفة عادية لا تلفت النظر. لكن كل ذلك يدل ليس على ازدهار القراءة، في زمن نعرف كلنا أنه ليس زمن استقرار اقتصادي وسياسي في معظم الدول العربية، خاصة تلك التي خاضت زلزلة ما سمي بالربيع العربي، وبالتالي لن يكون زمن قراءة وتفاعل، على الإطلاق.
تلك الدور نشأت إذن لمعاونة الكتاب الجدد، أو الأشخاص الذين يحلمون أن يصبحوا كتابا، في خلق ما أسميه يوم الكاتب، وذكرته من قبل، وهو اليوم الذي يشبه يوم العرس إلى حد كبير، وفيه يحق للكاتب الذي نشر كتابا لدى أي دار نشر بعد أن سدد كلفته كاملة، حتى لو كانت تلك الدار لأخيه الكبير، ولم تنشر سوى كتابه وحده، أن يتأنق، ويأتي بالورد والحلوى، وقطع البسكويت الفاخر، ومتبوعا بضحكات أصدقائه، وابتساماتهم، وعبارات الثناء التي يطلقونها، ليوقع على الصفحة الأولى لكتابه، ويلتقط الصور، التي تبث مباشرة إلى صفحات التواصل الاجتماعي. هنا الناشر الجديد، كسب مالا بسهولة شديدة، والكاتب، كسب بريقا سيطر به على صفحته الاجتماعية ليوم أو يومين، وغالبا سيعيد ذلك اليوم الأخاذ في العام القادم، أو ربما إن كان مقتدرا، يستطيع السفر إلى معرض كتاب آخر، يحيي فيه طقس التوقيع.
كان ثمة كتاب كثيرون يوقعون، بعضهم تزدحم طاولاتهم وتخالهم يختنقون بمتعة خلف التزاحم، وبعضهم يجلس متأنقا بلا أي روح قارئة أو حتى مجاملة، ترفرف من حولهم، والفتيات اللائي كان من الواضح أنهن أجدن صناعة يومهن هذا، ابتداء من اختيار عناوين كتبهن، إلى اختيار دور النشر، إلى المظهر الخارجي الذي كان في الغالب جاذبا، احتلبن زحاما كبيرا. وكان بالطبع ذلك الكتاب الذي لفت نظري، من بين الكتب التي يحيط الزحام بمـؤلفيها، كان من المستحيل الاقتراب من المؤلفة من أجل التوقيع على كتاب، كنت متأكدا، أنه بلا محتوى، لكن هكذا الأمور دائما، وفي كثير من الأحيان يصبح عدم المحتوى، موسوعة كبيرة ضالة، يعتبرها البعض أهم كثيرا من ألف ليلة وليلة. وقفت أتأمل ذلك الزحام الغريب، وسلوك الابتسامات، حين يخرج أحدهم من الوسط بمشقة وقد ظفر أخيرا بالتوقيع، وأتذكر صفوف الخبز في بلادنا في زمن من الأزمان، حين كانت الابتسامة تخرج هكذا من الزحام، مصحوبة برغيف أو رغيفين، تم الحصول عليهما بعد مشقة وتدافع، وسخط ولغط.
وقفت إلى جانب كاتب جيد أعرفه، كان متأنقا ببدلة ورباط عنق، ويجلس ليوقع كتابا في العلوم الاجتماعية، صدر حديثا. كان وحده في الحقيقة، يطالع المارين أمامه، وربما يبحث عن مشتر لكتابه، وأسرع يوقع لي حتى قبل أن أبدي نية لاقتناء كتابه. إنه نموذج الكاتب الجاد الذي لم يأت إلى سكة الكتابة مصادفة، ولا خلف مبلغ مدفوع يشتري به يوم لمعان، ولا كان يومه لامعا في الحقيقة. حدثته عن تجاربي العديدة في هذا الشأن، وأنه من الأفضل لمن كان يعتز بكتابته، ويعتبرها جزءا من نزفه، أن لا يسعى للجلوس في معارض الكتب ولا يبحث عن قراء ليوقع لهم ما أنتجه بكل ذلك التعب والكآبة، ويترك كتبه حرة على رفوف المكتبات، يشتريها من أرادها، ولا مانع أن يوقع لأحد، إن صادف والتقاه هنا، يحمل كتابا من كتبه. حكيت له يوما كئيبا لي في بلد عربي، سميته يوم (بكم؟)، حين جلست داخل جناح الناشر، أوقع على روايتي «366»، في بداية صدورها، وكان الناس يمرون، يرفعون الكتاب، يقلبونه، ويسألونني: بكم؟ ثم يذهبون، وتنتهي ساعتا التوقيع وقد حصدت أكثر من ألف (بكم؟)، ووقعت عددا محدودا من النسخ. أيضا أخبرته أنني مررت يوما بأحد الأجنحة في معرض، وعثرت على شاعر كبير جدا، تربينا على شعره، يجلس وحيدا وحوله دواوينه العظيمة، ولا أحد يحييه حتى. وكان أن لمت الناشر الذي وضع ذلك العظيم في تجربة، ليس من المفترض أن يوضع فيها مثله، ثم أخذت الشاعر، وخرجنا من معرض الكتاب، إلى مقهى، أحسست بأنه أكثر راحة من معرض ظالم، لم تنتصف فيه تلك التجربة الكبيرة.
أنهيت جولتي في معرض الكتاب إذن، وكانت حصيلتي كتبا كثيرة، بعضها كنت أبحث عنه وبعضها كان يبحث عني، خاصة في أدب الرحلات الذي أعتبره أدبا ليس مهما فقط من ناحية الاستمتاع بقراءته، واستخلاص المعرفة من داخله، ولكن أيضا في إمكان الاتكاء عليه، في كتابة نصوص روائية تاريخية. ولطالما نوهت بأن المشاهدات الحية للرحالين في أي عهد، تكتب المجتمع والناس، أفضل كثيرا من المؤرخين، الذين يتعمدون وضع التاريخ كمادة علمية.
________
*القدس العربي