غواية القراءة: وعلى السرير جلست وقرّرت السفر إلى القمر

* علي حسين

إن الكتب التي تساعدك أكثر هي الكتب التي تجعلك تفكر أكثر.، فالكتاب سفينة من الأفكار، محمل بالحقيقة والجمال.
بابلو نيرودا
كان اندريه جيد يقول لصاحب دار غاليمار للنشر : ” هناك ثلاثة أنواع من البشر يدخلون المكتبات، النوع الأول يستمتع بشكل الأغلفة، والثاني يبحث عن ما يشغل وقته الفائض والثالث الذي يتمنى أن لايصل الى نهاية الكتاب ”
في السادسة عشرة من عمره وبعد أن أيقن إن مسيرته المدرسية ستنتهي بالفشل، قرر هرمان هيسه أن يعمل بائعا للكتب ليحصل على المال، وأيضاً ليكون قريباً من عالم يعشقه جدا، فهو يتذكر انه خلال فترة صباه كانت مكتبة جدّه المليئة بأمهات الكتب تثير في نفسه السعادة :” قرأت نصف أدب العالم منكبّا على تاريخ الفن واللغات والفلسفة بمثابة من شأنها أن تؤهلني للنجاح في أي جامعة اعتيادية”.
كان هيسه قد عمل من قبل ميكانيكياً، لكنه وجد في مهنة بيع الكتب متعة وفائدة أكبر من العجلات والبراغي والمفكات التي اضطهدته، وأثناء عمله أنغمس في قراءة التاريخ :” لاحظت إن في المسائل الروحية تكون الحياة في الحاضر المعاش والأكثر معاصرة غير محتملة تماماً وخالية من أي معنى.ومن الممكن فقط الوصول الى الحياة الروحية بالعودة المستمرة الى ماهو ماض الى التاريخ، الى القديم، الى البدائي “.. ومن أجل العيش مع التاريخ أنتقل من مخزن الكتب الذي يبيع الكتب الحديثة الى مكتبة متخصصة بعرض كل ماهو قديم من كتب ومخطوطات.
في العام 1890 يحدث التحول الكبير في حياته، فقد قرأ خبر وفاة فريدريك نيتشه، لم يكن يعرف شيئا عن الفيلسوف الألماني الكبير، فبحث في المكتبة عن كتبه، آنذاك كان هيرمان هسه مصمماً على أن يجعل الجميع يعترفون به شاعرا، كتب عدداً من القصائد لم تنجح وحين عثر على كتاب نيتشه ” هكذا تكلم زرادشت ” وجد إن الفيلسوف قد أخذ بيده : ” كان الجفاف يحيط بي فأخذ نيتشه بيدي “، هكذا أصبح نيتشه بشاربه الكث ونظراته المجهدة هو الكاتب الذي شغف به ابن الثالثة عشرة، ليكتب في دفتر يومياته : “لقد أعاد نيتشه تقييم كل القيم التي كنا نؤمن بها.”
اكتشف هيسه من خلال عمله في المكتبة إن حياته متعلقة بالكتب، وكان يستمتع كثيراً حينما يجد نفسه لوحده مع الكتب :” ها أنا ذا وحدي بمحض إرادتي، وحيد وسعيد بوحدتي مع الكتب ”
يخبرنا هسه إننا جميعا في بعض الأحيان نقرأ بسذاجة، نستهلك الكتاب كما نستهلك الطعام، نأكل ونشرب حتى نشبع، وبهذا نتحول الى مجرد متلقين، لاننظر الى الكتاب كندٍ لنا، بل مثلما ينظر الحصان إلى سائقه، أينما يقود الكتاب تجدنا نتبعه، نأخذ الأفكار وكأنها أمر واقع، ويطلب منا أن نواجه قضية القراءة بحرية كاملة، وأن لانتطلع الى التثقيف أو التعليم من خلال الكتب، بل علينا أن نستخدم الكتاب كما يستخدم أي شيء آخر في العالم، القراءة يجب أن تكون مجرد نقطة انطلاق وتحفيز.”- داخل المكتبة ترجمة راضي النماصي –
من بين كل الزائرين للمكتبة التي كنت أعمل فيها، أعتقد أن لا أحد منهم يشبه شغف الروائي فؤاد التكرلي بالكتاب.قال لي يوماً أنا أحب الكتب التي تعيش طويلاً مع القارئ، وحين شاهد حيرتي أضاف مبتسماً : ” عليك أن تعرف إن للكتب أيضاً حياة مثل الإنسان، فهناك كتب تعيش حياة طويلة وأخرى لها حياة قصيرة، وأشار الى رواية آنا كارنينا الموضوعة على أحد الرفوف : هذا الكتاب استطاع أن يصمد طويلاً أمام متغيرات الزمن لأن تولستوي فيه استطاع أن يغوص في داخل النفس البشرية “.
قلت له : لقد قرأت الحرب والسلام.. إنها تحفة.
قال وهو يتصفح الكتب التي قرر شراءها : ” كنت قد قرأت تولستوي ودستويفيسكي في الخمسينيات، لكني شغفت أكثر بتشيخوف.. الغريب قبل أسابيع أعدت قراءة الحرب والسلام فاكتشفت إن تخطيط الرواية عنده غير منظم ولا متسق، قد تجد عشرات الصفحات تنفق في وصف شخصية من الشخصيات وصفاً دقيقاً، في حين أنك لا تجد هذا في آنا كارنينا، فهل هي مثل رواية مدام بوفاري لفلوبير حيث كل شيء منظم بدقة “.
• قبل أيام قرأت رواية لعبة الكريات الزجاجية لهرمان هيسه لكني لم أفهم منها شيئاً قلت اوانا انتظر ان يرشدني للطريقة الصحيحة لفحل الغاز هذه الرواية المعقدة..
وضع الكتب التي كان يتصفحها جانبا: ” هل تعرف إن هيرمان هيسه اشتغل في مسائل التحليل النفسي وكان صديقاً لفرويد، ولهذا تراه في معظم رواياته يحلل مشاعر الشخصيات بدقة ومعظم رواياته تعبر عن أزمة الانسان “. ويكمل التكرلي :” رواية ” لعبة الكريات الزجاجية ” صعبة لأن هرمان هيسه وهو يكتب الرواية أعاد قراءة مئات الكتب عن ثقافة القرون الماضية وأعاد قراءة أعمال نيتشه خصوصا كتابه ” مولد التراجيديا، وتفرغ لسماع موسيقى فاجنر واطلع على كتاباته الفلسفية، إنها رواية تتأرجح بين الموسيقى والفلسفة والادب العميق، أوصيك أن تعيد قراءتها ثانية وبهدوء “.
عندما صدرت لعبة الكريات الزجاجية عام 1943 كتب توماس مان رسالة الى هيرمان هيسه بعد ان انتهى من قراءة الرواية :” روايتك هذه كتبت بإسلوب ساحر وعميق تذكرني بأزمة نيتشه وصرخته الأخيرة من اجل انقاذ الروح البشرية ”
في كل مرة نعيد فيها قراءة كتاب، نكتشف إننا إزاء كتاب جديد، في قراءاتي التالية للعبة الكريات الزجاجية صادفت عالماً آخر، مثلما اكتشفت فيما بعد أن هناك قراءات كثيرة ومختلفة للرواية من قبل النقاد.لقد قيل أحيانا أن هرمان هسه في اهتمامه المعلن بالموسيقى والفلسفات الشرقية، وفي توكيده على ظاهرة التأمل الروحي، قد عزل نفسه عن التيارات الرئيسية في الأدب الحديث، ورواية ” لعبة الكريات الزجاجية ” قد أكدت هذه الفكرة، فقد قال العديد من النقاد انهم وجدوا في روايته الاخيرة هذه دعماً جديداً للفكرة القائلة إن مؤلفها فنان عظيم، لكنه في الوقت نفسه فيلسوف يغلف أفكاره باشكال فنية صعبة.
القضايا المطروحة في لعبة الكريات الزجاجية قضايا مثيرة من خلال محاولة وصفه لمنطقة من العالم تعيش في المستقبل عام 2200، حيث نجد جماعة روحية تريد إحياء نهج الطرائق الدينية القديمة، حيث لاوجود للمال والزواج، الشاغل الوحيد هو الفن والعلم الخالص، ونجدهم يضعون نظاما دقيقا، لكل واحد وظيفته : ” كلما ارتفع شأن المنصب كلما زاد عمق الارتباط، وكلما عظم شأن الوظيفة كلما اصبح الواجب أشد وأقسى.فلامكان للظلم والاستبداد “.
في هذه المدينة المتخيلة يعيش بطل الرواية ” جوزف كنخت ” الذي يكتشف معلم الموسيقى مدى ذكائه فيلفت نظر النخبة إليه للإهتمام به وضمه إلى نخبة النجباء من أعضاء مجموعة من العباقرة الذين يدربونهم ويثقفونهم على أمل أن يصبحوا لاحقاً من نحبة المدينة… وجوزف يتلقى ذلك الاهتمام حيث تصبح الموسيقى همه الأساس، إضافة الى تعلّمه ممارسة لعبة الكريات الزجاجية. ولكن بما أن قيادة النخبة، تريد التقارب مع الفاتيكان في عالم الزمن المقبل ” 2200 ” حيث لم تعد هناك حروب وكوارث متتالية، ولا يوجد في العالم سوى سوى قوتين كبيرتين هما النخبة التي تعيش في هذه المدينة والتي تمثل عند هيسه عالم العقل المطلق والفاتيكان الذي هو عالم الإيمان الروحي، فان مهمة مهمة جوزف ستمون الاتصال بالفاتيكان، بيد أن جوزف يرفض… على رغم تعيينه معلّماً أعلى، لأنه يدرك ذات لحظة أن الجماعة التي انتمى إليها، كما لعبة الكريات الزجاجية نفسها آيلة للفناء والزوال، أما الخلود فهو بالنسبة إليه في مكان آخر تماماً، هناك حيث حكمة التاريخ وقيم العلم : “يكتشف جوزف إن الحياة الحقيقية ليس في عالم القشتالية الجامد الأبدي اللامتغيّر. ومن هنا يأخذ على عاتقه مهمة جديدة من الواضح أن أحداً لم يكلفه بها سوى عقله: مهمة خلط عالم النخبة الذي يمثل النقاء والطهارة الخالصين بالعالم الخارجي حيث الحيوية والحركة “… ولكي يحقق حلمه هذا ، سيكون عليه أن يبدأ من البداية، أي من الاهتمام بتعليم الصغار، وتكون هذه البداية هنا مع أطفال صديق له ينتقل معه للإقامة في الجبل حيث ذات يوم فيما يكون محتفلاً بحريته عبر رقصة فوق بحيرة جليدية هناك يؤديها بدعوة من صديقه الشاب يغرق ويغرق ليختفي تماماً ولا تبقى منه سوى قصائده وأوراقه. ولكن هل كان ذلك الاختفاء نهاية وجوده؟ على الإطلاق حتى وإن كانت الرواية تتوقف ة عند تلك النقطة، فان هسه اراد ان يقول لنا ان الحياة في تطور مستمر
كانت لعبة الكريات الزجاجية أخر رواية يكتبها هسه الذي حصل بعد نشرها بثلاث سنوات عالم 1946 على جائزة نوبل للاداب، ليتفرغ بعدها لهوايته المحببة الرسم، حيث اعتاد سكان الحي الذي فيه بيته أن يشاهدوا كل يوم الرجل الذي كانوا ينعتونه ” بالمتمرد ” وهو يعتمر قبعة من القش وحقيبته على كتفه حيث كان يحمل معه فرشاة الرسم والاصباغ والألوان وفي يومياته يكتب هسه :” إنني أعيش في وحدة كاملة، ولا أعرف شيئا عن العالم، أقرأ وأرسم كثيراً وأستمع الى الموسيقى التي تساعدني على التأمل “.
************

يعيش القارئ ألف حياة قبل أن يموت. أما ذلك الذي لا يقرأ أبداً فيعيش حياة واحدة فقط.
جورج مارتين
يتذكر رسل مكتبة جدّه التي أثارت اهتمامه لما حوته من كتب في التاريخ والسياسة : “كنت أعرف كل كتاب من كتب المكتبة، وكنت أبحث في أركانها عن ما يثير مخيلتي من التاريخ القديم”.
لعل أجمل سني حياتي تلك التي قضيتها أعمل في مكتبة أقاربي كانت السنوات بين عمر الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، أبهج أيام العمر بالنسبة لي، وعندما أسترجع اليوم ما كنت أقرأه في تلك السنوات لاتدهشني عدد الكتب بقدر ما تدهشني تنوعها، كان الفضل الأكبر في هذا للمكتبة التي قررت أن أعمل فيها من دون أجر سوى فرصة اقتناء الكتب دون مقابل، سيل منوع بعضها روايات للفتيان ذات الطباعة الأنيقة والملونة، وما كان يؤلفه طه حسين والحكيم وعباس محمود العقاد وسلامة موسى ونجيب محفوظ. وكتب أخرى ما تزال منطبعة في ذهني حتى الآن واحد منها كتاب ممتع اسمه ” الفيزياء المسلية ” اصدرته دار نشر سوفيتية انذاك وبنسخة عربية، وأتذكر إنني أخذت الكتاب الى البيت، كنت أشعر بالإثارة وأنا اقرأ عن ظواهر نصادفها كل يوم ولكننا لانعرف الإجابة عنها.
متى ندور أسرع حول الشمس، كيف يجب القفز من العربة المتحركة للأمام أم للخلف، أيمكن أن نمسك رصاصة متحركة، كم يزن الجسم عند سقوطه، كيف نعرف البيضة المسلوقة من النيّئة، كيف تنقل الماء بالغربال، هل صحيح إن الجليد لا يذوب في الماء المغلي، لماذا وكيف ينكسر الضوء، هل من السهل كسر قشرة البيضة، وأعجبتني طريقة المؤلف البسيطة في شرح النظريات العلمية المحيرة، وعرفت فيما بعد أن مؤلف ” الفيزياء المسليّة ” عالم روسي اسمه ياكوف بيريلمان، توفي في عام1942.ولعل من أجمل الحكايات التي قرأتها في كتاب بيرلمان، هي حكاية جول فيرن وروايته الشهيرة ” من الأرض إلى القمر ” والتي تخيل فيها الروائي الفرنسي إمكانية إرسال بشر إلى سطح القمر عن طريق وضعهم في كبسولة وإطلاقها عبر مدفع إلى القمر!.
وبالطبع فإن من يقرأ رواية صدرت قبل عام اكثر من قرن ونصف، تتحدث عن الصعود للقمر، سيأخذها على محمل الخيال وضروب الجنون والخبل، وسيتعامل معها على أنها رواية طريفة خيالية يسلي بها وقته فحسب!. لكن بيرلمان يأخذها على محمل الجد تماماً!، ويذهب في تفصيل إمكانية تطبيق نظرية جول فيرن عملياً.
يخبرنا أنيس منصور أن العقاد قال له يوماً إن هناك نوعان من الصدمات، واحدة تفتح الرأس، وواحدة تفتح العقل، وهذه الثانية هي التي تحدثها قراءة الكتب، وبعد انتهائي من قراءة ” من الارض إلى القمر ” كان لابد لي من اتخاذ قرار يجيب على سؤال مهم الى أين يذهب اولئك الذين يملكون شغفاً بالكتب.
في يوم من صيف عام 1839 خيّم جو من القلق على بيت المحامي ” بيير فيرن ” فقد تغيب الأبن الصغير فجأة عن المنزل، وقالت شقيقته الكبرى إنها شاهدته يخرج في الصباح باتجاه البحر، وصرخت أمه إن هذا الصبي لابد أن يكون قد غرق، وذهب الجميع باتجاه البحر فأخبرهم أحد البحارة انه شاهد الصبي جول يصعد في مركب ليأخذه الى واحدة من البواخر التي ستنطلق الى الهند.
وصرخت الأم : يا ألهي الهند
ويسرع الأب الى المرفأ، وهناك يخبروه إن السفينة قد أبحرت، فيقرر أن يستأجر زورقاً للحاق بها، وقد نجح في الوصول الى ابنه الذي وجده ينظر الى البحر، وحينما عاد جول الى البيت سألته أمه عن سبب هروبه اخبرها إنه كان بصدد السفر الى الهند ليحصل على عقد من المرجان يقدمه هدية لابنة عمه، كانت هذه أول مغامرات الفتى الذي لم يبلغ الثانية عشرة من عمره، كان الجميع يدرك أن لجول تصرفات غريبة، فتتذكر أمه إنه حبس نفسه في غرفته حيث قام بتصنيع جزيرة سماها ” جزيرة فيدو ” استمد شكلها من قراءته لكتاب الف ليلة وليلة، كان الصبي جول يمتلك خيالاً مدهشاً ولهذا قرر أن يستخدم هذا الخيال في كتابة القصص التي كان يكدسها في غرفته، لم يشأ أن يطلع عليها أحد فقد كانت تلك الكتابات تدور حول امكانية الطيران في الجو او الغوص في اعماق الارض، وهو موضوع استولى على تفكيره آنذاك، ورغم حلمه هذا فإنه لم ينس البحر ومغامرته الاولى فنراه يكتب عام 1855 في يومياته :” أحد الاصدقاء تكرم علي برحلة مجانية الى اسكوتلندا ” هكذا استطاع جول فيرن أن يتعرف على البحر أكثر، ويبدأ بتسجيل انطباعاته على الورق يزينها برسومات ملونة، لكنه كان مشغولاً بقصة أخرى حكاية رجل يصل الى افريقيا عن طريق بالون اسماها ” قصة بالون ” يقرر في عام 1862 أن يعرضها مع مجموعة من القصص القصيرة على أحد الناشرين، ما إن ينتهي الناشر من قراءتها حتى يقول له :” آسف بالرغم مما تحمله هذه القصص من أفكار جديدة إلا إنها مكتوبة بطريقة مفككة ” وينصحه بان يركز في كتابة رواية واحدة متماسكة ”
ويمر شهر ويعود جول فيرن الى الناشر ومعه رواية عن رحلة حول العالم يقوم بها شخص من خلال بالون. يتصفح الناشر الرواية، ويدرك أخيراً إنه وجد المؤلف الذي يبحث عنه، ويحرر معه على الفورعقداً، يطلب من خلاله أن يزوده جول فيرن بروايتين كل عام مقابل عشرة الآف فرنك عن الكتاب الواحد ولمدة عشرين عاماً، وبعد أسابيع يشاهد المارّة على واجهات المكتبات كتاباً ملوناً بعنوان ” خمسة أيام في بالون “، وسارع الآباء الى شراء نسخ لاهدائها الى أبنائهم، وتنفذ الطبعة الاولى، وسرعان ما تترجم رواية جول فيرن الى معظم لغات العالم، بعدها ينشر روايته المثيرة ” رحلة الى مركز أعماق الارض “،وفي عام 1864 ينشر روايته الثالثة والمثيرة ” من الأرض الى القمر ” والتي قيل انه استوحاها من قصة قصيرة لإدغار آلن بو التي يروي فيها القاص الشهير حكاية رجل يقرر السفر الى القمر بواسطة منطاد، إلا أن رواية جول فيرن تختلف في فكرتها حيث بنى الرواية على تصور صنع مدفع عملاق يطلق قذيفة خارج جاذبية الأرض، وقد استعان فيرن بأحد أقاربه وهو عالم رياضيات لضبط الحسابات اللازمة لاطلاق المدفع حيث، ليعرف ما هي السرعة المطلوبة التي تؤدي الى انطلاق القذيفة خارج نطاق الجاذبية الارضية، فنحن امام مجموعة تقرر ارسال ثلاث رجال الى الفضاء من خلال قذيفة يطلقها مدفع عملاق باتجاه القمر، ولم يعلم أحد من القراء ما اذا كان هؤلاء الرجال سيعودون الى الارض أم سيختفون في الفضاء، وكان على القراء أن ينتظروا الإجابة على هذه الاسئلة حتى نشر جول فيرن روايته الرابعة ” حول القمر ” فقد اخبرنا عن مصير الرجال الثلاثة الذين نجدهم في الرواية الجديدة في حالة من انعدام الوزن ،وهم يدورون حول القمر.
أول مرة رأيت فيها اسم جول فيرن كانت من خلال سلسلة مطبوعات باسم كتابي، وهي كتب بحجم كف اليد الصغيرة يلخص من خلالها مترجمها حلمي مراد أمهات الكتب، أتذكر انني اخذت الكتاب وكان الوقت شتاءً، حيث ذهبت الى السرير تلحفت بالغطاء حتى ذقني، وبدات أقرأ رحلة جول فيرن الى القمر، تخيلت نفسي داخل المدفع العملاق، ثم وأنا أحلّق في الفضاء، وبعد سنوات حين قرأت رواية ه.ج ويلز ” أول من وصل الى القمر ” كنت أتذكر ذلك الصبي الممدد على السرير، الحالم بالنجوم والسماء، يمسك كتاباً صغيراً يبدو في شكله الخارجي، مجرد رواية مغامرت، لكنه يكتشف إنه يعيش مع كاتب تحفل رواياته بالمفاجآت التي من شأنها أن تلقي السرور في نفس قارئ صغير أدهشته انذاك تلك الرواية التي جعلت كاتبها يحاول أن يحل ألغازاً تدور في أذهاننا جميعاً، وبعد سنوات حين أعيد قراءة ” من الأرض الى القمر ” أدرك جيداً إن جول فيرن لم يكتب رواية مغامرات، بل حاول ان يقدم للقارئ عملاً فكرياً يلخص إيمان الكاتب بالإنسان وبالفكر الإنساني القائم على سلطة المعرفة، وعلى قدرة الحضارة على أن تقدّم للإنسان، ليس أجوبة نظرية فقط، بل حلولاً عملية أيضاً.
_______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *