تشارلز فيرنيهو.. الذاكرة هي أكثر بكثير قابلية للتحول

*ترجمة: عباس المفرجي

بروست، كما يتضح، لم يكن بروستياً على الاطلاق. الزمن المفقود لم يُستعاد في اللحظة التي ذاق فيها بروست قطعة الكعك المغمّسة في الشاي بالليمون. مايحدث في الحقيقة، إن قرأت المقطع بدقة، هو أن الراوية بُوغت بإحساس مكثف لم يمكنه تفسيره. في الواقع، إستغرق منه عشر جرعات قبل أن يربط شعوره بالسعادة بذكريات طفولة عن العمّة ليونيه، والكعك وكومبراي. من هنا تطلُب منه كتابة 3000 صفحة من نثر دقيق لجمع الماضي في نوع من نسق ملئ بالمعاني.
إنها هذه الخاصّية المجهدة، هذه الطريقة التي تكون فيها الذاكرة شيء عليك أن ’ تقوم ‘ به، التي يريدنا تشارلز فيرنيهو ( مؤلف الكتاب ) أن نستقيها من ” قطع من ضوء “، وهي محاولته في شرح ما يدعوه بـ ” العلم الجديد للذاكرة “. في الواقع، هذا العلم الجديد يغدو في النهاية علما قديما الى حد ما لو حدث أنك كنت اكاديمي تعمل في فروع دراسة الذاكرة: علم النفس، علم الأعصاب، وحتى علم الأحياء النشوئي. لكن فيرنيهو، الذي هو كاتب علمي معروف كماهو عالم نفس اكاديمي، قلِق من ان أغلب الناس ما زالوا يفكرون في الذاكرة بكونها مكتبة دي في دي شخصية كبيرة. عندما نرغب بتذكّر ذاك الصيف الطويل، الحار من عام 1976 أو إجتماع اللجنة في الاسبوع الماضي، نتخيل انفسنا نحاول الوصول الى الملف الذي خُزنت فيه تلك التجربة، بشكل مرتب الى أبعد حد. الناس ذوو الذاكرة الضعيفة، هم اولئك الذين فشلوا في إيجاد طريقهم عبْر رفوف مكتبتهم الخاصة بهم.
في الحقيقة، وكما يعرض فيرنيهو على نحو مقنع، أن الذاكرة هي أكثر بكثير قابلية للتحول من ذلك. كل فعل تذكّر هو فعل خلق، فعل تسامر مجدول من نسق من تلمحيات مختلفة. نحن نعرف هذا، فعلا، عندما تنتابنا الحيرة فيما لو كنا نتذكر حادثامن الطفولة أو كان ببساطة مروي لنا او رأيناه في صورة.
ماهو عسير قبوله أن كل ذكرياتنا هي على حد سواء مؤقتة، لم تُخلَق من ماضي مستقر، وإن يكن احيانا غائما، بل من حاجات ملحة من الحاضر. نحن نتذكر ما نتذكر لأنه يساعدنا أن نتعامل مع ما نحن عليه اليوم وما قد نصبح عليه غدا. لكن هذا ليس كل الأمر. كل فعل للتذكر، وخاصة كل فعل لإعادة رواية ما حدث، يغيّر على نحو حاذق الذاكرة نفسها. ما ننتهي اليه هو نسخة ضبابية من نسخة من نسخة ثالثة، التي رسم عليها الحاضر الفضولي خطوطا عريضة جديدة واضحة وهو الآن يتحدانا أن نعارض.
لجعل كل هذا أوضح، يقدّم فيرنيهو آخر المستجدات في علم الأعصاب، مستشهدا بدراسات اكاديمية ترمش فيها كالأضواء قُرَين آمون ( في الدماغ )، اللوزة وقشرة الفص الجبهي. إنه يمزج هذه مع تاريخ حالات مرضية لأشخاص مثل كلير، التي وهنت ذاكرتها في عمر الثالثة والاربعين عندما أصيب دماغها بمرض الهربس ( القُوْباء )؛ وكولن، سائق اللوري الذي يظل مسكونا بحادث سير مميت لم يكن له فيه ذنب. لو كان فيرنيهو بذل جهدا أكبر ربما كان أنتج كتابا حافلا بالذكريات من النوع الذي كتبه اوليفر ساكس في بداية ومنتصف مسيرته المهنية. وبعبارة اخرى، كان سيمكنه استخدام الغرابة الشعرية للنظام العصبي لكلير وكولن كوسيلة للاقتراب اكثر من قلب – أو عقل – الحالة الانسانية. لكنه لم ينجح بهذا تماما، وبدلا من ذلك، بقي كلير وكولن – وباتريك وبيتر ونانا مارثا، وكل حالاته المرضية – مغلقين داخل معضلاتهم القصصية الخاصة بهم، عاجزين عن التعاون في بقية الكتاب.
ليس الأمر كما لو ان فيرنيهو غير مرتاح لاستخدام شهادة شخصية كي يضيف تفاصيلا أكثر على علم صعب. في جزء كبير من الكتاب نرافقه وهو يستكشف ماضيه الشخصي. فهو يروي لنا عن حدث تدريبه على استخدام القعّادة عندما كان في الثالثة من العمر، ورسائل الشكر التي كتبها للمهنئين بعيد ميلاده وهو في السادسة، وعن رحلات بحرية خطرة، بعد ذلك بسنوات قليلة، مع أبيه المطلّق حديثا. انه يذرع سيدني وكامبريدج، المدينتان اللتان عاش فيهما منذ زمن طويل، ويغيضه أن لا يعرف إن كانت ذكرياته الشخصية هي في الواقع مجترّة من بروشورات سياحية أو دعايات تشجيعية.
هذه الأقسام لم تضف الكثير الى الكتاب. يشير فرينيهو الى إسم دبليو جي شيبالد عدة مرّات، ومن الصعب أن لا نشعر، عندما نطوف معه في أرجاء البلاكووتر بحثا عن ذكريات عن والده الراحل، بأنه يجهد نفسه سعيا وراء غموض نيّر. فيرينهو مرشد حسن الاطلاع على كل البيانات التي تظل بشكل عام مدفونة عميقا في سجلات المحاضر الاختصاصية. نحن نسمع عن دراسة التؤأم النيوزيلندي، التي يدّعي فيها اخوان واخوات عنيدون بذكريات بطولية عن أنفسهم وانتقال الذكريات المؤلمة أو المربكة من واحدهم الى نصفه الآخر. ثم هناك الاكتشاف بأن مجموعة من الناس الذين يُتاح لهم مناقشة حدث ما بينهم يتذكرون في الحقيقة أقل مما لو أختبروا بشكل منفرد. ولا ننسى الحمائم الذكية التي تتعلم بسرعة التمييز بين الخربشة العشوائية وصور المشاهد الطبيعية، ويمكنها أن تظل تدرك الفرق بعد مضي سنتين.
فاتنة هي، مع ذلك، هذه القصاصات، وهي لا تؤسس حقا ’’ لعلم جديد ‘‘ كما يوحي الكتاب بشكل واعد في عنوانه الفرعي. ما نحصل عليه، بدلا من ذلك، هو تأمل تنويري ايبيزودي حول العمل المعقد للتذكر، النسيان، وإعادة التذكر من جديد.
_______
*المدى

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *