منذ أمس يغيّر مثقفون وفنانون وكتّاب عرب صور حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، تعبيراً عن غضبهم ورفضهم إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب القدس عاصمة لدولة الاحتلال “إسرائيل”. وسومٌ على وسائل التواصل الاجتماعي، وتغريدات غاضبة، وتدوينات لا تعبّر إلا عن الإحباط والشعور باللاجدوى والخذلان.
تشابهت ردود فعل المثقفين في التشاؤم والدعوة إلى أن يعمل كلّ بإخلاص على مشروعه الفردي، إذ يبدو أن العمل الجماعي الثقافي المؤثر ليس ممكناً في هذه اللحظة. “العربي الجديد” استطلعت ما يفكر به بعض منهم في هذه اللحظة الحالكة من تاريخ القضية الفلسطينية.
يقول القاص المصري سعيد الكفراوي في حديث لـ “العربي الجديد” إن “المثقف العربي إلا ما ندر، هو جزء من خراب عام تعيشه الأمة العربية، وما جرى بالأمس من نقل السفارة الأميركية بقرار ترامب هو نتيجة وليس سبباً. نتيجة للمواقف العربية العربية والعداوات والخصومات والرغبة في لعب الأدوار الصغيرة والعمالة ثم الحرب التي عمت الأمة. وسط هذا جاء راعي البقر ونفذ وعده لسيده الحاخام”.
ويكمل “كلنا حلمنا بأن القدس عربية، بسكانها وتراثها المسيحي والإسلامي، وكلنا أطلقنا شعارات حول عنصرية المجتمع الإسرائيلي وعشنا أعمارنا نحلم بعودة القدس كجزء حي من الضمير العربي، وفي ظل الهزائم منذ 1948 و1967 والانتصار الجزئي عام 1973، تعيش الأمة أشد الفترات خضوعاً وعمالة”، ويتابع صاحب “مدينة الموت الجميل” “المثقفون الشرفاء يطالبون بالقدس عربية، يطالبون بالمقاومة ووحدة الصف الفلسطيني”.
الكاتب التونسي الطاهر أمين يقول لـ “العربي الجديد” أن “ما نمرّ به ليس جديداً على الإطلاق فقرار نقل السّفارة الأمريكية إلى القدس طُرح منذ سنة 1995، لذلك لا أجد خطاب دونالد ترامب مفاجئاً. لقد راهنت الحكومات العربيّة، على امتداد 22 سنة، على عدم جرأة رؤساء الولايات المتّحدة السابقين على تحويل القرار إلى واقع. ما نمرّ به هو المحصّلة النّهائيّة لمسار تاريخيّ بدأ بنكبة 1948 ثمّ نكسة 1967 مرورا بكلّ الانهيارات العربيّة التي دشّنها اجتياح لبنان 1982 وحرب الخليج الأولى 1991 وسقوط بغداد 2003 وصولا إلى كذبة “الرّبيع العربيّ” 2011 والرعب الدّموي الدّاعشي في سورية”.
يرى أمين “نحن ندفع ضريبة جنايات النّظام الإقليمي الذي أقامه إسلام النّفط السّعودي منذ رحيل عبد النّاصر 1970، من أجل تعميق تبعيّتنا للغرب الرّأسماليّ سياسياً واقتصادياً الذي نجح في إخراجنا من التّاريخ ومن الجغرافيا معاً. ما نمرّ به يلخّص جميع أمراضنا السّياسية والثّقافية. ليس هناك عدوّ خارجي دائماً: نحن أعداء أنفسنا عندما نخوض حروب الآخر ضدّنا. هناك عجز عربيّ لا يكن تبريره، وهناك خلل عميق في بنية العقل السّياسي العربي لم يدرس بعد”.
ويضيف أمين “ما يجب فعله هو أن نطرح أسئلة الثّقافة العربيّة الحقيقيّة بشكل جدّي، أي أن نقوم بمراجعات عميقة لمشروع النّهضة العربيّة الذي طرح مطلع القرن التّاسع عشر، والذي جاءت نكسة 1967 لتعلن موته. لم يعد ممكنا المراهنة على السّياسي الذي لا يخفي احتقاره المكشوف للثّقافي عبر تدميره للرّوح النقديّة. يجب أن نعيد ربط السّياسي المنفلت بالثّقافي. أصرّ على الحاجة إلى الفصل بين العروبة والإسلام: لم يعد ممكناً إنقاذ الإسلام التّاريخيّ الذي مات منذ زمن طويل. علينا أن نعجّل بإنقاذ العروبة. من الغباء أن نواصل عمليّة الرّبط بين عروبة عاجزة عن اكتشاف ذاتها وإسلام تاريخي قاد الأمّة إلى كلّ هذا الانحطاط”.
أما الشاعر والمترجم المصري أحمد شافعي فيقول إن “أكثر ما يثير الضيق في اعتراف ترامب الرسمي بالقدس عاصمة لإسرائيل، أنه أذى مجاني. لا أعتقد أن شيئاً سوف يتغير على الأرض بالنسبة إلى المدينة، ستبقى كما هي الآن، خاضعة للسيادة الإسرائيلية، وتبقى أماكنها المقدسة تحت سيطرة الإسرائيليين، ويبقى أهلها الحقيقيون غرباء فيها، أو منفيين عنها. ولا أكاد أتصوّر ـ في حدود فهمي البسيط ـ أن إسرائيل سوف تكسب من جراء هذا الاعتراف شيئاً ملموساً لم يكن لديها بالفعل من قبل”.
ويتابع “أكثر ما يثير الضيق في هذه الخطوة الأميركية الكريهة أنها غير إنسانية، أنها تنطوي على استهانة غير إنسانية بمشاعر مليار مسلم ألحقت بهم جميعاً، أو بكثير منهم، أذى شخصياً مباشراً، بلا ثمن. مجرد رجل جاءت به إلى السلطة أحطّ مخاوف البشر، قرر أنه لا ضير من إيذاء أمة كاملة، لا ضير في أن ينام كل واحد من كل هؤلاء المسلمين والمسيحيين شاعراً بقلة حيلته وعجزه وهوانه على أمثاله من الناس، في مجرد ثماني دقائق من استعمال اللغة في أحط ما يمكن استعماله فيها، في ثماني دقائق من تحويل اللغة إلى أداة قطع لا وسيلة تواصل، في مجرد ثماني دقائق، بذر ترامب في نفوس كل هؤلاء البشر غضباً سيكون لدينا في عشرات السنين القادمة وقت لرؤيته قنابل تتفجر في سفارات، وطائرات تقتحم بنايات، وجماعات وتنظيمات تطلب الموت أكثر مما تطلب الحياة، لنفسها ولغيرها”.
ويكمل صاحب “الخالق” أنه “كان يمكن لرجل يملك هذه القوة أن يفرض على كل الأطراف وضعاً للقدس يرضي أكبر عدد ممكن من البشر، فتصبح تحت إدارة دولية مثلاً. بل وربما كان يمكن أن يجعل إعلانه هذا نفسه جزءاً من صفقة كبيرة ينال فيها الفلسطينيون بلداً حقيقياً ذا سيادة. كان يمكنه أن يعمل قوة بلده ليتوصل إلى عشرات الحلول الحقيقية، لكنه وجد في نفسه من الفظاظة ما جعله يخطو هذه الخطوة، على رقاب كل هؤلاء البشر، دون أي مكسب منطقي له أو لبلده أو حتى للبلد الصغير الذي يدعمه. هي الصفاقة فقط، وعمى القوة، والاستهانة غير الإنسانية بمشاعر البشر”.
في حديثه لـ”العربي الجديد”، لفت أستاذ النقد والباحث غسان عبد الخالق إلى أن “دور المثقف العربي يكمن في إعادة صانع القرار والمواطن إلى مربع العقلانية بعيداً عن ردود الفعل العاطفية والمتشنجة من أجل تأسيس خطاب جديد والتعامل مع صنّاع القرار والرأي في الغرب بلغة الحقائق والأرقام، مع التأكيد أن العقلانية لا تعني مطلقاً المساومة على الحقوق العربية والإسلامية في القدس وفلسطين”.
أضاف صاحب “المتن والهامش” (2017) أن “إعادة بناء تيار عقلاني من شأنه أن يقلّل من الفجوة الكبيرة بين توقّع المواطن العربي وبين معطيات الواقع، والتي تستغلّها دوائر صنع القرار الغربية منذ أيام محمد علي باشا ومروراً بالشريف حسين بن علي وعبد الناصر وصدّام حسين، حيث ترفع سقف توقّعاته ليتهاوى عند انكسار تلك المشاريع”.
تراكم هذه الحالة أدّى إلى زعزعة ثقة العربي بتاريخه وشخصيته وهويته، بحسب عبد الخالق، الذي يرى بضرورة إعادة النظام العربي، الذي هو في أسوأ حالاته اليوم، حساباته وتحالفاته من خلال التوّجه نحو تأسيس علاقات متوازنة مع الجوارين التركي والإيراني من أجل مواجهة الأطماع الإسرائيلية، ووقف المواجهات والصراعات المستمرة في المنطقة منذ عشرين عاماً بلا طائل”.
من جهته، نوّه الباحث السوري منار رشواني إلى “أهمية أن يتوقّف المثقفون العرب في هذه المرحلة – على أقل تقدير- من تحويل قرار ترامب إلى أداة لمهاجمة بعضهم بعضاً بحسب المعسكر الذي ينتمون إليه، واتخاذه ذريعة لتبادل إلقاء اللوم في ما بينهم”.
واعتبر صاحب “الإصلاح الاقتصادي والتحول الديمقراطي في الوطن العربي” أن الخطوة اللاحقة تتمثّل في الالتفات إلى مآسينا التي تعيشها البلاد العربية، والعمل على تأسيس مشروع محدّد الرؤية والأهداف للنهوض بشعوبنا خارج الاستبداد والدكتاتورية والفساد”.
أما الكاتب والباحث هشام البستاني، فيشير إلى أن “لا تغيّر على دور المثقف بعد قرار ترامب، الذي بامتلاكه الحد الأدنى من الرؤية يمكنه التثبت من الانحيار الأميركي لـ”إسرائيل” تاريخياً، لكن ما يختلف هذه المرة هو صدمة الحكومات العربية التي تختلق المبررات منذ عقود لانخراطها في عملية السلام”.
ويعتقد صاحب “أرى المعنى” أن “على المثقف العربي مواصلة تفكيكه وفضحه للجماعات الوظيفية والأنظمة التي تصب مواقفها المتخاذلة تجاه القضية الفلسطينية في إدامة الهيمنة والتبعية للغرب ومناهضة حق الشعوب في التحرّر وتحقيق العدالة”، لافتاً إلى أن “صورة الاحتلال الإسرائيلي في الغرب والعالم كلّه تزداد قتامة وستدفع المرحلة القادمة زخماً أكبر لحركة المقاطعة العالمية (BDS) وللمثقفين والناشطين المعادين لسياسات إسرائيل الاستعمارية”.
الفنان الفلسطيني هاني زعرب، يقول لـ “العربي الجديد” حول دور المثقف في هذه الأزمة “في رأيي أن ينهض كلٌ بمشروعه الثقافي الشخصي وأن يرقى به لأن يكون بمهنية عالية ولغة عالمية بعيدة عن الضعف والكليشيي، وذلك لأننا فقدنا الأمل بكل المشاريع السياسية والتي لا يأتي من وراءها سوى الهزائم الذهنية يوماً بعد يوم”.
ويضيف “لا يمكن للإنسان أن يختفي بلا أثر، ولذلك يجب أن يليق أثر المثقف العربي بحجم الوجع والهزيمة التي نعيشها”.
________
*العربي الجديد
مرتبط