دارينا الجندي ومي زيادة «سجينتا المشرق»

*انديرا مطر

كثيرة هي الكتب التي تناولت حياة الشاعرة والكاتبة مي زيادة، وآخرها كتاب صدر عن دار غراسيه الباريسية باللغة الفرنسية طبعًا، بعنوان «سجينة المشرق» للممثلة المسرحية وكاتبة السيناريو اللبنانية-الفرنسية دارينا الجندي. ما يميز كتاب الجندي عن سواها هو أن اختيارها الأديبة اللبنانية-الفلسطينية الأصل، والمصرية الإقامة والإطلالة الأدبية، مي زيادة، موضوعًا لروايتها لم يأتِ بغرض الإضاءة على نتاجها الأدبي الاستثنائي، نثراً وشعراً، وإنما بهدف كتابة سيرتها روائياً، ولأن ثمة تقاطعاً في خيوط السيرتين، كأننا امام سيرة ذاتية واحدة لشخصين، بصوتين، صوت الـ«أنا» وصوت الـ«هي».

تهدي الجندي كتابها «سجينة المشرق» لمي زيادة التي رافقتها في مصح الأمراض العقلية كي تقول لها شكراً على مؤانستها في عزلتها ومحنتها، تقول «مي زيادة رافقتني، ساعدتني، دعمتني، وأرشدتني عندما كنت في المصح». وتوقّع اهداءها بكلمات من قصيدة «حديقة المرايا» للشاعر الإيراني احمد شملو، وتكتب: «أضع مرآة أمام مرآتِكِ لأجعل منكِ أبدية».
وجدت الجندي في مي زيادة مرآة الأنا المعاكسة لها. أو الأنا الأخرى. بعيدًا عن العشق الطوباوي الذي ربط مي زيادة بجبران خليل جبران، الذي يباعد بينهما، ثمة أوجه عديدة للتشابه بين المرأتين: كلتاهما ناشطة نسوية قادهما تحررهما الى مصارعة مجتمعهما وعائلتيهما. كما اختبرت كل منهما تجربة الحجز في مصح عقلي لخلافات عائلية على تقاسم الإرث. وفي سيرة كل منهما نلحظ العلاقة المميزة التي ربطتهما بوالديهما، إضافة الى معاناة المرأتين من خذلان الأصدقاء لهما، وهم عمومًا من المثقفين والفنانين والكتاب، في عز محنتهما. مي زيادة ودارينا الجندي لم يكن لهما ان يلتقيا، فالاولى توفيت قبل ان تولد الثانية بثلاثين سنة، لكن الأقدار جعلت منهما امرأتين متحررتين تماثلت سيرتهما في محطات دراماتيكية فلم تنكسرا بل حولتا تجاربهما المريرة إلى مصدر للفن والابداع.
حب وتخاطر
«ولدت مي في 11 فبراير 1886، وأنا في 25 فبراير 1968. ما كان لنا أن نلتقي ابدا. إلا أن قصصنا لم تتوقف عن التشابك. تعرفت اليها للمرة الاولى خلال دروس الادب العربي حيث كان الاستاذ يحدثنا عن المرأة التي اطلقت احد أهم الصالونات الأدبية في القاهرة، وكانت صحافية وأعظم حب [طوباوي أو عذري] لجبران خليل جبران».
لكن تعرف الجندي الى مي «المنقذة» لا الاديبة سوف يتأخر بضع سنوات: «أن تعرف ان أحدًا ما اختبر آلامك وعاشها ونجا منها، فذلك نصف الطريق الى العلاج»، تقول الجندي التي لجأت إلى كتابة قصة مي كي تشفى من قصتها نفسها، كنوع من العلاج. وفي مصح عقلي، حيث رمتها عائلتها بعد موت والدها بفترة قصيرة، تعرفت الى كتابات مي زيادة، فخرجت من تجربتها أكثر قوة: «كنت بحاجة إلى معرفة أن أحداً ما غيري مرّ بهذه التجارب. كنت أشعر بانكسار فظيع لكنني كنت بحاجة لهذه القوة كي أواجه مجتمعاً بهذه القسوة والتوحش».
ونقرأ من الكتاب عن دارينا الجندي: «عندما كنت طفلة، كنت أحب البقاء وحيدة، لا سيما عند عمتي التي كانت تسكن في بلدة الحازمية، وهي منطقة راقية تشرف على بيروت. المنزل حيث أقيم تطل حديقته على مبنى آخر قديم بهندسة معمارية تاريخية. أحياناً كنت اقفز فوق الحائط الحجري الصغير الذي يفصلنا عن هذا المسكن الكبير وأتنزه في فنائه حيث كنت أرى نسوة بزيّهن الأبيض يساعدن أناس يبدون متعبين على المشي». في هذا المكان حُبست مي زيادة وبعد سنوات ستلاقي الجندي المصير نفسه، اذ ستحتجزها عائلتها في مكان مشابه.
رواية وثائقية
غالبًا ما انطلقت الجندي في كتابة نصوصها من تجربتها الشخصية، وهي تجربة قاسية جعلها الفن ممكنة الاحتمال. وعلى غرار اعمالها المسرحية حملت كتاباتها صرخة تكشف زيف المجتمعات ونفاقها. في كتابها الأخير مزيج من تجربة شخصية ومن سيرة كاتبة جمعتها من أبحاث ومراجع استغرقت سنوات من العمل. اقتفت الجندي اثر مي زيادة أينما حلت. عبرت في كل الأمكنة التي ارتادتها. قرأت رسائلها وكتاباتها. التقت سلمى حفار كزبري التي عرفت مي شخصيا فأمدتها بمصادر ومراجع لم يتسع الكتاب لنشرها كلها. لكن الجندي انتقلت بعدها إلى باريس وانشغلت بالمسرح وبالحياة الجديدة ونسيت مي، الى ان اقترحت عليها دار غراسيه الفرنسية العريقة المشاركة في سلسلة «بطلاتنا» التي تعدها الدار، وهي تتناول سير نساء كان لهن أثر في مجتمعاتهن. هكذا ولدت فكرة الكتاب عن مي زيادة التي بدأت في 2012. الكتاب بسيط، أسلوبه بسيط وسلس، وربما تجربة الجندي المسرحية أثرت في كتابتها، فابتعدت عن الفذلكة اللغوية التي لا تحبها وذهبت مباشرة الى قول ما تريد. وهي تقول «أكتب كما أتحدث وأمثّل كما أعيش».
________
*القبس

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *