ماذا نعرف حقاً عن حياة والدينا؟ وماذا يتبقى من حياتهما بعد تواريهما؟ جواب الكاتب الأميركي ريتشارد فورد عن هذين السؤالين البسيطين هو لا شيء تقريباً. لكنّ ذلك لم يمنعه من الإمساك بهذا اللاشيء وتحويله إلى شيءٍ ملموس، إلى منحوتتين من حبرٍ وكلمات، إلى نصّين يتقابلان ويتحاوران في كتابٍ مؤثّر بعنوان «بينهما»، صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «لوليفيي» الباريسية، ويشكّل علامة فارقة في عمل فورد الكتابي، لمغادرته فيه عالمه الروائي من أجل الاحتفاء بأبيه وأمّه اللذين رحلا منذ فترة طويلة، ويستحضرهما برقة بالغة، كما لو أنهما شخصيتان روائيتان.
«مثل معظم الكتّاب، حياتي هي حياة مراقب. وبما أن لا أولاد لي، ما أعرفه عن والديّ، أو عن وضعية الوالد أو الوالدة، أعرفه فقط من موقعي كابن»، يقول الكاتب في مطلع كتابه، مضيفاً: «تربّيتُ في كنف كائنين شديدي الاختلاف، طبع كل منهما فيّ منظوره للحياة، قبل أن أنطلق في تأمّل العالم بواسطة عينيهما». هكذا، ومن خلال عينَي والديه، ينكشف أمامنا المحيط الذي ترعرع فورد داخله. فنتعرّف في نصّه الأول إلى والده باركر الذي تلقّى تربية صارمة على يد أمّه الإرلندية التي قلّمت باكراً جناحيه، قبل أن يتزوّج من إدنا التي اكتشفت فيه «رجلاً مرصوداً للسعادة، هي التي لم تختبر هذا الشعور قبل لقائه». رجلٌ أمضى حياته على الطرقات كتاجر جوّال (مثل شخصية فورد الروائية فرانك باسكومب)، «ولم يغذِّ طموحات كبيرة».
حياة بوهيمية
من هنا ممارسته مِهناً متواضعة في بداياته، قبل أن توظّفه مؤسسة تعنى ببيع نشاء الذرة (amidon) وتوكله بمهمة بيع هذه المادة في سبع ولايات تقع بين لويزيانا وألاباما. مهمة نجح في تأديتها، غالباً برفقة زوجته: «شيّد والداي حياتهما الزوجية على الطرقات، داخل سيارة المؤسسة. كانا يعيشان في الفنادق ولا يعودان إلى منزلهما إلا خلال عطلة الأسبوع». عاشقان غير متطلّبين، يصوّر الكاتب ببراعة علاقتهما الحميمة والتحامهما بالحاضر، وبالتالي عبورهما أزمة 1929 المالية من دون مشكلة أو تساؤلات وجودية أو ميتافيزيقية، لـ «انعدام هاجس التحكّم بالقدر لديهما».
لكنّ ولادة فورد عام 1944 لن تلبث أن تقلب حياتهما البوهيمية، فتستقر أمه في المنزل لتربيته ويبقى والده على الطرقات بدافع عمله، ما يجعل الكاتب يعيش طفولته في حالة انتظار دائم لهذا الأب الغائب أبداً. ولذلك نراه لا يملك منه سوى ذكريات قليلة «تشبه جزراً صغيرة في بحرٍ من الغياب». وحين يتساءل حول ما تلقّاه منه، يجيب: «القليل جداً. لا أتذكّر أنه كان لي أي حوار جدّي معه. لم يسألني يوماً عمّا يدور في خلدي». الذكرى الأخيرة منه هي قيثارة أهداه إياها والده لمناسبة بلوغه سن السادسة عشرة، قبل أيامٍ قليلة من وفاته بين ذراعَي ابنه.
يتميّز بوح فورد في هذا النص بدقّةٍ وعفّةٍ مؤثّرتين، ويختلف بالتالي كلّياً عن السرد السيرذاتي الكلاسيكي. وفي هذا السياق، يتجلّى والده تماماً مثل شخصياته الروائية، أي بجانبٍ غامض، مجهول، مع فارق جوهري وهو أن الكاتب يدين له بفلسفته أو رؤيته للعالم: «بفضل هذا الرجل أعرف اليوم أن الحياة قصيرة ومليئة بالأشياء الغامضة وغير الدقيقة، وأنه علينا ملء فراغاتها وسدّ بعض طرقاتها إن أردنا التمتّع بها. كل شيء يفلت منّا، إلا الحب».
في النص الثاني، يستحضر فورد والدته إدنا التي ولدت عام 1910 في ريف ولاية أركنساس وعانت الأمرّين على يد أمّها التي لم تكترث لها وأجبرتها على العمل منذ سن السادسة عشرة، بعد وفاة أبيها. امرأة «أحببتها مثل طفلٍ سعيد، أي من دون تفكير أو شكّ»، يقول الكاتب. ومع أنها نقلت إليه شعور الخوف المتجذِّر فيها، لكنها بقيت ملاكه الحارس طوال مراهقته. ولذلك نراه يلوم نفسه على ابتعاده منها حين استقرّ في ميشيغين لإكمال دراسته الجامعية. لومٌ قد يكون السبب في الصعوبة التي نستشعرها لديه في خطّ بورتريه لتلك المرأة التي «فقدت طعم الحياة بعد وفاة زوجها»، وتوارت بعد عقدين على رحيله.
الحب والموهبة
ولا شك في أن فورد أراد عبر هذا الكتاب، الذي يعتبر الأكثر حميمية من بين أعماله، مصالحة الإنسان الذي كانه خلال حياة والديه، مع الإنسان الذي أصبحه اليوم: «كتابة هذين النصّين منحتني فرحاً عظيماً وغير متوقّع إطلاقاً، نظراً إلى الحنين الذي يسكنني. كنت محظوظاً بنشأتي بين والدين كانا يتبادلان الحب ويبادلانني إياه، فمن الحب تنبثق الأشياء الجميلة». ومن هذه الأشياء موهبته الكتابية، وأيضاً تلك البصيرة التي تتجلى في رواياته كلها وجعلته يعي باكراً مسألتين جوهريتين.
الأولى هي أن «أحد التحدّيات الأولى للحياة هو معرفة والدينا عن كثب، شرط أن يعيشا طويلاً بما يكفي للسماح بذلك، وأن يستحقا هذه المعرفة، وأن يكون ذلك ممكناً مادّياً». المسألة الثانية هي أنه «بقدر ما نتمكّن من رؤية والدينا من مختلف جوانبهما وكما يراهما العالم، نحظى بفرصة رؤية العالم كما هو». وبالتالي، ليس بالأمر القليل وضع الكاتب كل هذا الجهد للتأمّل في حياة والديه وتفحّص شخصيّتيهما، خصوصاً أن «ولوج الماضي رهانٌ شديد الصعوبة لأن هذا الماضي يتوق، من دون أن ينجح كلياً، إلى جعل منّا ما نحن عليه اليوم».
وهذا ما يقودنا إلى قيمة «بينهما» التي تكمن أولاً في تمكّن فورد داخله من ترجمة كيف تحفظ الذاكرة طفولتنا، وكيف نستعيد هذه الذاكرة في سن الرشد، في حال استسلامنا لذلك. استعادة هي في الواقع إعادة كتابة للماضي تشمل أيضاً كل ما تخيّله الطفل وابتكره لسدّ الثغرات والنقص والنسيان وما لم يُقَل، وبالتالي تلك المساحات الفارغة التي تتبلور في ذاكرتنا على مرّ الزمن وتغذّي الأساطير التي تشيّدنا. تكمن أيضاً قيمة هذا الكتاب في كونه شهادة بليغة على الرابط العائلي غير القابل للانحلال، وبالتالي على الطابع غير المشروط للمشاعر المتبادلة بين الطفل ووالديه. طابع يصوّره الكاتب ببراعة، مبيّناً كيف يظهر في الأشياء الصغيرة، وغالباً في أوجه القصور والفشل التي تثير الندم بعد تواري الوالدين.
باختصار، يلقي فورد في «بينهما» ضوءاً كاشفاً على نفسه كإنسان وكروائي على حد سواء. وكما فعل كتّابٌ كبار قبله، مثل ألبير كامو في «الإنسان الأول»، وألبير كوهين في «كتاب أمي»، وجان بول سارتر في «الكلمات»، يخطو فورد في هذا العمل خطوة جانبية للغوص في طفولته وإلقاء نظرةٍ راشدة على والديه، فاتحاً لقارئه نافذةً مهمة على حياته وأعماله الروائية.
_______
*الحياة