وداعاً للتاريخ التقليدي

*محمد الأسعد

في تفسير التاريخ، لفتت نظري قبل سنوات نظرية عالم نظم البيئة الحية الأستاذ البريطاني/ الأمريكي «بول كولنفوا» (1930- 2016)، حين أحدث كما قيل ثورة في تفسير نهوض وانحطاط الأمم. فبدل أن يعتمد على أدوات التفسير التقليدية، مثل قدرات القيادات أو الانتصار في المعارك، اعتمد في كتابه «مصاير الأمم» (1980) على أدوات مختلفة لخصها بفاعليات التناسل العضوي مقترنة بدافع حاجة الأمم إلى مجال حيوي مفضل، أو مشكاة حسب تعبيره (Niche). واليوم أجد نفسي أمام تفسير للتاريخ ذي طابع ثوري أيضاً، قريب من تفسير «كولنفوا»، يتخذ طابع حقل علم جديد أصبح مكرساً ومعترفاً به، ويختلف عن التاريخ التقليدي، اسمه «التاريخ البيئي». واضع أحد نصوصه المؤسِّسة هو المؤرخ الكندي/الأمريكي «وليم ه. ماكنل» (1917- 2016).
اللافت للنظر، كما يقول «آندرو آيزنبرغ» (1964- )، المؤرخ المختص بالتاريخ البيئي، أن هذا المؤرخ البارز صاحب الكتاب المبتكر «نهوض الغرب»، على رغم المديح الذي استقبل به كتابه، آسف بعد ثلاثة عشر عاماً على أنه لم ينتبه في كتابه ذاك إلى عدد من الموضوعات المتعلقة بنظام الأرض البيئي.
اكتسب «ماكنل» شهرته بسبب أطروحته المثيرة عن أهمية الانتشار الثقافي في تاريخ العالم، المتحدية للنظرة التاريخية التقليدية التي تُغلب العنصر الذاتي في التغيير الاجتماعي، فجاء بنقيضها بالقول «أن ما يؤسس للتغير الاجتماعي المهم هو الاتصال بالغرباء الذين يمتلكون مهاراتٍ جديدة وغير مألوفة». وبإحداثه النقلة اللاحقة بنصه المؤسس للتاريخ البيئي، وعنوانه «أوبئة وشعوب»، لم يخرج على أطروحة الانتشار الثقافي، أو المواجهات الثقافية/الداخلية، بل أضاف إليها «مواجهاتنا وصداماتنا مع كل النظم الحية التي تشكل نظام الأرض البيئي». ومن أمثلة هذه المواجهات التي أشار إليها كأمثلة مهمة، وباء القرن الرابع عشر المدمر في أوروبا المعروف باسم «الموت الأسود»، وانتقال الأمراض من أوروبا إلى الأمريكيتين بعد العام 1492، أي بعد غزوهما وشن حروب الإبادة على سكانهما.

ويلاحظ «آيزنبرغ»، وهو يكتب في العام 2014، أن قلة من العلماء رأت حين ظهر كتاب «نهوض الغرب» أن إغفال «نظام الأرض البيئي» في دراسة تاريخية يستحق الأسف. وظلت الكتب المدرسية وكتب تاريخ العالم في أوروبا وأميركا طوال أكثر من ثلاثين عاماً مرت على ظهور ذلك الكتاب وتنويه صاحبه بغفلته، لا تحتوي إلا على القليل، أو تلميحات إلى ما بدأ يسمى الآن «التاريخ البيئي». كأن يلمح بعض كتاب التاريخ المعاصر إلى أن البيئة يمكن أن تفهم تاريخياً، فيكتب «المناخ ذاته يمكن أن يتغير، وتذكرنا الخرائب الرومانية في المغرب وتونس بأن المناخ هناك كان مواتياً ذات يوم»، من دون إعطاء السياق البيئوي للتاريخ الإنساني انتباهاً أكبر، أو أقل من ذلك، للبيئة كعنصر فاعل من عناصر التاريخ الفاعلة.
بعد عقود فقط، مرت على دراسة «ماكنل» المؤسِّسة، بدأ عدد متزايد من مؤلفي الكتب المدرسية يجعل منظور التاريخ البيئي جزءاً مكملا لسرده التاريخي. على سبيل المثال، في العام 1981 تناول كتاب مدرسي عنوانه «الحضارة الغربية.. تاريخ موجز» المجاعة التي ضربت أوروبا في القرن الرابع عشر بطريقة نمطية تقليدية كما اعتادت الكتب المدرسية على تناولها، فنسب المجاعة إلى عدد من الأسباب على رأسها «الجهل» ومحدودية المعرفة ب «المخصبات الزراعية»، وجاء بعوامل أخرى لم يكن بينها عامل مهم، منها الطقس السيئ، وخاصة «فترات مطر ثقيل وصقيع متقطعة». ولكن بعد عشرين سنة أصبح المناخ عاملا تفسيرياً مهماً».
في العام 2001، كتب ر. بيكيا تشايا في كتاب «تكوين الغرب.. شعوب وثقافات» «أن تحول المناخ الأوروبي إلى البرودة ساهم في أزمة توفير الطعام. وتشير الدراسات الحديثة لحلقات جذوع الأشجار أن أوروبا القرن الرابع عشر دخلت فترة أشد برودة، ومع توالي الشتاءات القاسية بدءاً من العام 1315، أحدث البرد القاسي اضطراباً في نظام بيئي كانت فعاليات التحضر الإنسانية قد أثقلته وأجهدته».
* * *
من الواضح الآن إذاً، وبعد مرور زمن على ميلاد تاريخ غير تقليدي، أن كتّاب التاريخ السائد حالياً تدافعوا نحو دمج استبصارات التاريخ البيئي في أعمالهم، مع ميل واضح نحو الاعتقاد بأن هذا الحقل جديد. وهو ما تبين للباحثين والقراء العاديين منذ بداية ظهور هذا الحقل الدراسي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فكان رد فعلهم أن هذا الاتجاه يمثل شيئاً جديداً جدة كلية، ومغادرة جريئة للتاريخ التقليدي.
وبسبب وضوح التاريخ البيئوي، ركّز الكثير من المؤرخين، بمن فيهم ذوي الاتجاه البيئوي، على جدته وصلته بحركة حماية البيئة والحركة السياسية التي رافقتها بعد سنوات الستينيات. ومع ذلك، كما يقول «آيزنبرغ»، لم يكن التاريخ البيئوي جديداً جدة كلية، ولاهو مستمدٌ من حركة البيئة ذات الطابع السياسي. صحيح أن الحركة البيئية المعاصرة منحت وضوحاً ومعنى لهذا الحقل، إلا أن جذور فكرة التاريخ البيئوي يمكن تتبعها بالعودة إلى القرن التاسع عشر، ويمكن العثور عليها في أعمال عدد من الكتاب الأمريكيين مثل الدبلوماسي والفقيه اللغوي جورج بيركنز مارش (1801-1882) الذي دفع في كتابه «الإنسان والطبيعة» بأن الطبيعة تنتقم لنفسها من المجتمعات التي أفسدت البيئة. وفي مقال واسع التأثير للمؤرخ فريدريك جاكسون تيرنر (1861- 1932) جاء «أن تطور أمريكا يمكن تفسيره بالتحول التقدمي من الحالة البرية إلى الحضارة. وبينما ركز هذان على عمل الإنسان وتحويله للبيئة، التفت المؤرخ والتر سكوت (1888- 1963) إلى الحدود التي فرضتها الطبيعة على مساعي الإنسان.
وفي فرنسا، رفض مؤسسو مجلة حوليات التاريخ الاجتماعي/ الاقتصادي، مارك بلوتش (1886- 1944) ولوسيان فيفر (1878- 1956)، التاريخ الذي توجهه الأحداث، وفضلوا عليه ما سماه تلميذ فيفر المؤرخ فرنان بروديل (1902- 1985) «الأمد الطويل» لتاريخ الإنسان في علاقته بالبيئة، أي تاريخ التغيرات البطيئة والتكرار الدائري الدائم.
كل هؤلاء العلماء، على اختلاف طرائقهم، كان لهم الفضل في إيضاح تفاعل تواريخ المجتمعات الإنسانية مع الطبيعة، ولم يمنع هذا الاختلاف اشتراكهم في عدة أمور مهمة أورثوها لمن جاء بعدهم، معتمدين في تحليلاتهم على عدة فروع علمية. تيرنر الأمريكي كان من أوائل من حث زملاءه على تبني مناهج العلوم الاجتماعية، الاقتصاد وعلم الاجتماع، وتأثر علماء الحوليات بالجغرافيا. وقبل وقت طويل من ظهور التاريخ الاجتماعي الذي يهبط من الأعلى إلى الأدنى، اعتبر كل هؤلاء أن التاريخ الذي يكتفي بترديد «منجزات» الرجال العظام مشكوكاً فيه. وانتقلت ثمار عملهم إلى منتصف القرن العشرين على يد مجموعة من العلماء من أمثال الجغرافي كليرنس جلاكين (1909- 1989) والمؤرخ جيمس مالن (1893-1979) والمؤرخ كارل فوتفوجل (1869- 1988)، وساهم هؤلاء كلهم مع آخرين في إصدار كتاب ضخم عنوانه «دور الإنسان في تغيير وجه الأرض» ضم أعمال منتدى دولي عقد تحت هذا العنوان في العام 1955 في برينستون، في ولاية نيوجرسي الأمريكية.
باختصار، لم يكن التاريخ البيئوي مجرد نتاج حركة حماية البيئة في أواخر القرن العشرين، ولا ظهر فجأة في سبعينيات ذلك القرن بين الجيل المؤسس لهذا التيار التاريخي، بل هو ذو جذور فكرية عميقة الغور. ولكن الجيل المؤسس هو الذي عكس في تعريفه لحقل هذا العلم الجديد تراثه المتعدد الاختصاصات. إنه بتلخيص المؤرخ دونالد وورستر (1941): «تفاعلات البشر مع الطبيعة في الأزمنة الماضية»، وهو تعريف يعكس أصول علم التاريخ البيئوي المتعددة والمتداخلة الفروع بلا تمييز بين جغرافية وثقافية وبيئية واقتصادية. وفي هذا السياق ظهر تعريف العلاقة بين المجتمع الإنساني وشتى البيئات على أنها علاقة جدلية، أي ليست وحيدة الطرف. البشر يصنعون تاريخهم.. كما قال كارل ماركس الذي أسيء فهم مقولته هذه «.. ولكنهم لايصنعونه كما يشتهون. إنهم لايصنعونه تحت ظروف من اختيارهم، بل تحت ظروف قائمة ومعطاة سلفاً، ومنتقلة من الماضي»، وليس هناك من عنصر يماثل ما هو معطى سلفاً، وينتقل من الماضي، كما هو عنصر البيئة من حولنا. نشكله ويشكلنا.
___________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *