*توفيق قريرة
مادة هذا المقال جزء من الدرس الافتتاحي الذي قدمته في المعهد العالي للعلوم الإنسانية في تونس يوم 2 نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم؛ أقدم في هذا المقال، وبطلب من متابعينا أهم الأفكار الواردة فيه تعميما للفائدة.
ليس المقصود بالقراءة معناها الأول: كونها نشاطا بصريا، يتمثل في فك شيفرات الخط؛ بل نقصد به فهم مقطع مكتوب وتأويله؛ وليس المقصود بالتخريب، المعنى الأولي الذي يرادف الهدم والنقض والإفساد، وإنما يُقصد به ما عناه السيميائي الفرنسي رولان بارت: ضربا من بعث الحياة في الدلالات القديمة، يكون في الأدب ولذلك سماه «التخريب الحاذق للكتابة».
في الكتابة الأدبية قد يصبح المدلول دالا يُملأ بدلالة جديدة، شرط أن تُسرق الدلالة القديمة أو تُعطل أو تُستعمر؛ هذا هو «التخريب الحاذق « الذي يرتب حسب بارت في حقل القابل للقراءة، لأن هذا الاختيار هو النتيجة الوحيدة حين نبحث عن التحايُل على الجُملة دون تفجيرها».
تخريب القراءة عبارةٌ استمددناها إذن من هذا المحيط النظري العلامي وقصدنا بها قراءة تسرق الدلالة الأولية، أو المتواضع عليها لتبني دلالة جديدة على خلفيات فكرية أو ثقافية معلومة، وهي تخرب تخريبا حاذقا، إذ تؤسس فهما له آخر غير الأول تبنيه عليه أو تقيم عليه أسوارا جديدة، قد تغري من يدخلها أو من يراها من المتقبلين. التخريب الحاذق في القراءة ليس كالتخريب يهدم ولا يبني شيئا؛ هو أخطر منه لأنه لا يهدم تماما لكنه يغري بهندسة جديدة لمعنى العلامات القديمة.
لنأخذ على سبيل المثال هذا المقطع من «الأيام» لطه حسين وفيه يتحدث عن تصدي بعض المتطفلين لتفسير بعض آي القرآن، يقول: «.. ومنهم هذا الشيخ الذي لم يكن يَقرأ ولا يَكتب ولا يُحسن قراءة الفاتحة، ولكنه كان شاذليا من أصحاب الطريق، وكان يجمع الناس إلى الذكر ويفتيهم في أمور دينهم. فلما سأله أحدهم عن تفسير قوله تعالى « وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْوَارا» (نوح :14) قال الشيخ: خلقكم كالثيران لا تعقلون شيئا. التخريب الذي حدث أقام مَعنى ثور (التي تنطق في بعض اللهجات العامية المصرية تُورْ) على معنى طَور (مرحلة) مستغلا هذا التقارب الصوتي بين الكلمة الفصيحة والكلمة العامية ليقول إن الله خلق الناس أميين، وأن دور مشائخ الطريقة أن يعلموهم، فهم وسائط بين العلم الرباني والمعرفة البشرية. هو تخريب حاذق لأنه مؤسس لا على جهل بالنص القرآني (فهذا من تحصيل الحاصل)، بل على علم بدور شيخ الطريقة التربوي. لكن قراءة طه حسين هي قراءة صامتة بالهزْء واعتبار السخرية ردا ضمنيا، وكأن الرد الصريح هو نزول بالقراءة إلى مستوى دوني، والحق أن للشيخ خلفية في قراءته لا بد من الرد عليها.
ليْس في القراءة تشابه لهجي بين (تُورْ) العامية و(طور) الفصيحة التي ينبغي أن تنطق عند الشرح بالعامية (طُورْ)، بل هناك استعارة قديمة ساكنة بين طيات هذا الكلام نعرفها جيدا في أقطارنا العربية، إذ يقال للمخفق في التعلم (ويسمى بالعامية قراءة) «بقرة» أو «حمار» وهما صورتان تختزنان مخيالا أسطوريا لهذين الحيوانين، في ما يتعلق بالجهل لنا في القرآن ما يدعمه «..كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَارا» (الجمعة:5).
هذا المقطع مفيد جدا عند اللسانيين الذين يعتنون بالتعامل بين اللهجة واللغة، وكيف يستخدم من لا يعرفون الفصحى، اللهْجَة العامية وسيطا لفهم كل كلام: هو مفيد لأنه يكشف لنا كشْفا نادرا بضرب من ترجمة الكلم الفصحى إلى كلم أقرب منها بالعامية وكيف أن هذه الترجمة يمكن أن تخرب النص الأصلي وتبني قراءة مخربة تخريبا حاذقا مثلما رأينا.
كمْ كان ينبغي أن يُوجد من (طه حسين) في عصره حتى يتعلم الفصحى، ويعرف أن المعنى الصحيح لأطوار لا علاقة له بما ذكر الشيخ؟ لم تكن المدارس مُتاحة للجميع؛ واليوم حين أتيحت المدارس للجميع ما تزال فئة تمارس التفسير نفسه بالآليات نفسها، وتتصدى للشرح، ويقبل منها المتعلمون ومنهم من «تخرج» من الجامعة بشهادات عليا؛ مشكلة هؤلاء أنهم لم يتحصلوا من الجامعات على آليات القراءة المناسبة: أي آليات التأويل لا آليات فك شيفرة الكتابة.
في كتاب صادر باللغة الفرنسية للرومانية ناديا أنجلسكو عنوانه «من تعريبنا اللغة والثقافة في الحضَارة العربية الإسلامية «ونشر في التسعينيات بمساعدة المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وبتصدير يحمل إمضاء أمينه العام وقتها عبد العزيز عثمان التويجري، في هذا الكتاب حديث عن مقطع طه حسين المذكور تقول فيه أنجلسكو «وفرت التفاسير القرآنية اليومية فيما يبدو، أمثلة عدة شبيهة بما ذكره الكاتب المعاصر طه حسين في روايته السيرذاتية الأيام؛ فلقد روى عن معلمه في المدرسة أنه كان يشرح لتلامذته أن الآية القرآنية (..) ينبغي أن تفسر بأثوار…». في قول أنجلسكو «التفاسير القرآنية اليومية»: قراءة أولى مقتضاها أن هناك قراءات (أي تأويلات) يومية للقرآن؛ وهذا يدعو إلى أن نسلم بأن قراءتنا للقرآن شعبية ويومية ومفتوحة، وأن خمسة عشر قرنا من قراءته وتفسيره لم تُنْهِ قراءته.
وهذا يقتضي أيضا أن القراءة يمكن أن تلغي الأخرى، أو أنْ تُوجد قراءات متشابهة؛ وأنه لا يقتنع الجمهور بقراءة أو بقراءات بعينها، وأن كل قراءة تدمر كل يوم الأخرى، وأن القراءات يمكن أن تنتج من غير معرفة لا بالقراءات السابقة ولا حتى بالقراءة أصلا.
وفي نسبة القراءة إلى «معلمه بالمدرسة» بدلا من شيخ الطريقة الشاذلية، تأطير للقراءة المخربة في المدرسة، وإشارة إلى أن التعليم المدرسي يقوم على تعليم القرآن، وأنه تعليم محرف ومخرب له، فإذا كانت المدرسة ليست أمينة على النص المقدس فكيف تكون أمينة على نصوص الأدب والثقافة المنزلة؟ بهذا المعنى تكون القراءة بمعنى تأويل القرآن بشكل تحريفي فعلا مدرسيا لا يخضع لمراقبة؛ وهو فعل تدميري لا للنص القرآني بل للمعرفة الأساسية التي تُتلقى في المدرسة. المهم أن هذه القراءة قرأت «شيخ طريقة» على كونه معلم مدرسة في الآلية نفسها تقريبا التي قرئت بها لفظة «طور» على أنها «ثور».
ودعنا نشير أخيرا إلى قراءة الآية نفسها في سياق مقارني مع نظرية النشوء والارتقاء الداروينية. وهذا ما فعله العقاد في كتاب «الفلسفة القرآنية’ وفي كتاب «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» وفي «الإنسان في القرآن» إذ قارن بين الإسلام والداروينية ودافع عنها بمنطق قرآني.
وفي «القرآن وقضايا الإنسان» لبنت الشاطئ حديث عن تفسير «عصري» للقرآن وهذا هو تخريب حاذق للمعنى القرآني، بأن نعود إلى خلق الأطوار من منظور علمي، فلا يكسب الطور معناه الذي له في القرآن، بل يستمده من النظرية العلمية المعاصرة: النشوء والارتقاء. إنه إيهام بتخريب المعنى القرآني البسيط وبناء معنى جديد له؛ لكن ما تم هو تخريب المعنى العلمي: يهدم المعنى البسيط بمعاول المفسرين ويستعمره المعنى العلمي ويحل محله فيصبح المعنى القرآني علميا داخلا في فيما يسمى بشكل كثير اللبس: الإعجاز العلمي في القرآن.
_________
*القدس العربي