العلاقات السريعة والأزمة الأخلاقية

*خلود شرف

إن كانت الأخلاق من يحكم العلاقات بالمعنى المطلق للوجود الإنساني، فما هي القوانين؟ وهل ثمة قوانين كونية تحيلنا إلى نمط أخلاقي إنساني في ظل السرعة التي تعيشها البشرية؟

الأخلاق هي نحت تاريخي، اكتسبه الإنسان من تجربته وتعامله مع الآخر باختلاف هذا الآخر. فالقانون الأخلاقي عند كانط يجب أن يُبنى على ضرورة مطلقة، وهذا يعني ألا يكون للطبيعة البشرية دخل في مبدأ الإكراه، فالتجربة لا يمكن أن تحقق قانوناً أخلاقياً مطلقاً، وإنّما الفلسفة الأخلاقية تستند على العقل الخالص، والذي بِحكمه يُعطي قوانيناً قبلية. إذن الأخلاق قانون.

وحسب كونفوشيوس “إن فاعلية العلاقات متضمنة في صلب نظام الطبيعة لا من خارجها، ويقابل هذا النظام الطبيعي عنده، نظام آخر على المستوى الإنساني في المجتمع هو القانون الأخلاقي”، إذن الأخلاق هي مكتسب تأملي.
فالعلاقات الإنسانية مبنية على الأخلاق، وهذه الأخلاق مستوحاة من العلاقات مع الطبيعة، فالطبيعة لا تحمل أخلاقاً، وإنما هي اكتساب من العلاقة التأملية مع الطبيعة. وهي نتاج عقلي.

وهذا ما تحاول الأنا المنهكة إثباته من وراء شاشة الأنترنت، فالعالم ضمن الحركة السريعة للأنترنت، وفوضى السرعة واللهث وراء السوشال ميديا، بات لا يحكمه قانون سوى المظاهر العامة، المظاهر المبنية على ما يصدّره الآخر عن ذاته أو كما يتمناها، حتى إنّ الإنسان أقصى ذاته العميقة، ليجلس أمام شاشة مربعة يحلّ مشكلاته، أو يعزز ذاته من خلال الدعم الالكتروني.

ونحن هنا لا ننفي الدور الإيجابي للسوشال ميديا، لكنا نحاول فهم العلاقات السريعة المبنية مع أنا آخر وهمية، تخضع لنسبة كبيرة من اسقاط مشاعر وانطباعات واختلاجات نفسية، والتي هي الأنا المحسوسة والمعروفة على أرض الواقع، بينما الأنا الثانية المقابلة وراء الشاشة هي أنا آخر وهمية، (أنا الكترونية)، علماً أنّ الشخصيتين تتبادلان الأدوار.

الأخلاق بحث للإنسان عن أناه من خلال الآخر وقراءة انطباعاته الجسدية والفكرية والروحية والمشاعر التي يمكن أن يتلقاها وجهاً لوجه، أي هي تفاصيل تبادل بالعلاقات تُنتج الأخلاق، لكن الآن ما ترنو إليه البشرية، هو اقصاء الآخر، دون وعي بالعلاقة الأخلاقية، وبالتالي هو تعزيز الأنا من خلال تقنيع الآخر، فمعرفة الذات لم تعد تبنى على الاختلاف والعلاقة المتبادلة، وانما على اسقاط الأنا وتلبيس الآخر بأناه حتى يصبح قناعه، بمعنى ان الانا تبث اناها في كل الاخر حتى تتلبّسه وتصير هو أناها المقلد. ويظهر هذا الإقصاء جليّاً في لحظة البلوك في السوشال ميديا التي نقوم بها كرد فعل على اقصاء الآخر، وكأنما العلاقات الإنسانية تنتهي بطريقة نتمنى فيها إلغاء الآخر من الوجود.

في الحركة السريعة كل ما هو ذو خصوصية وبه حياء سابقاً، بات مكشوفاً وواضحاً ومشاركاً وليس ثمة قيود عليه، بل على العكس صرنا نزور كل غرفة من غرف العالم في أقل من دقائق عبر مشهد فيديو، كقرية صغيرة، لكن تزداد بها الأنانية، وتكريس الذات من خلال اقصاء للآخر دون وعي، أو ربما بوعي، فالأنا ضمن الانترنت اصبحت محركاً آخراً عوضاً عن التلفزيون، تعمل على بث اشارات سيطرة فكرية، لا تخضع لمنطق ولا تخضع لمحاكمة، ونحن هنا أمام باب جديد لنقض المفاهيم الأخلاقية السائدة، فبات لكل مرء معاييره الخاصة في شكل العلاقة الأخلاقية، والتي تعتمد على حصد الشهرة وإبقاء الذات من خلال إثبات حالة التفوق والبطولة.

لكن ما يحدث الآن هو ارتباط الإنسان ومشاعره ضمن مربع أو مستطيل، وتضخيم هذه المشاعر للعيش في بؤرة ضيقة تتسع لكل هذا الوهم الموجود في العالم. تظهر من خلال هذي العلاقات أمراض الملكية والانتظار والمراقبة، وافشاء خصوصية الآخر فنحن إزاء الوهم، الوهم بالمعنى العريض للعلاقات البشرية، وتحوّل الاخلاق، وعملية التحوّل هي عملية تبديل للمادة ضمن شروط التفاعلات السريعة، التي تلمّع كل شيء، بهدف الصيد السريع، للاستهلاك السريع، وللتسويق السريع، فيما يخص المشاعر الانسانية التي باتت عرضة للتهديد والقنص والإقصاء.

وهذا إن جعل العالم ينحو فهو ينحو باتجاه الضحية والجلاد، إي إن العلاقات بدأت تأخذ شكل إما القناص الذي يبحث عن ضحيته ويمارس كل أشكال السلطة الذاتية لتغذية ذاته من خلالها، أو ضحية تنتظر جلادها ليوصلها بقليل من الاهتمام والرعاية، أو حتى لتعزيز ذاتها، بات العالم يراقب بعضه البعض لكن كل حسب مصلحته الخاصة.

غزوات سريعة منهم من ينال مجد الغارة، ومنهم من ينال فتات الانتصار، ومنهم من يراقب وينتظر ليحين دور فريسته الجديدة.

لم يعد العالم يشي بشيء بات الجميع وشاية مفضوحة، لكن لا فضيحة فيها، بل مصالح سريعة، تنتهي دونما ملاحظة أن الإنسان بدأ يضمحّل ويبتعد عن المراقبة للسلوكيات التي اكتسبها من الطبيعة والتي بدورها اكسبته أخلاقه، وهذا يعني ان ما يحتفظ به البشر الآن من أخلاق هو ما تطوّر ليناسب زمن القنص السريع للعلاقات والمصلحة، فالإنسانية على عتبة الخطر والتهديد، وربما الانقراض.

اذن نحن ازاء علاقات مبنية على تعزيز الذات من خلال التشجيع والاهتمام وليس على تعزيز الذات من خلال نتاجها الانساني، فتصبح الأنا تقبل بأي شيء لتعزز وجودها، فما هو موجود في الواقع ضمنيا مرفوض في العلاقات الالكترونية، وبالعكس، ما هو موجود بالعلاقات الالكترونية، مرفوض بالعلاقات الواقعية، خاصة إن العلاقات الالكترونية لم تخضع بعد الى قوانين ناظمة، علماً هذي القوانين، تصب نهاية في مصلحة ذاتية، ان كانت لمنظمة أو لفرد.

فنحن لا نخرج من العلاقات المبنية على المصلحة الشخصية الا لنصبّ ببوتقتها، لكن بصيغ جديدة. ولقد أكدّ­ كانط على التمييز بين ميتافيزيقيا الطبيعة، وميتافيزيقيا الأخلاق، ثمة فصل بين الأخلاق والتجربة. لكنّ الأخلاق مكتسب تأملي، وما ذهب اليه كونفوشيوس بأن المراقبة للطبيعة تظهر الأخلاق كنظام مكتسب منها، فلم يولد الانسان بأخلاقه لكن من احتكاكه مع الطبيعة تولدت فكرة الأخلاق. وهذا يحيلنا إلى أن الأخلاق قوانين. والقانون حاكم، ضمن تجسيد العقل لشرعية هذه العلاقة. فهي شرعية لصالح الأنا، من أجل امتدادها واستمرارها.
_______
*جيرون

 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *