خاص- ثقافات
*ابراهيم عثمونه
في مخزن قديم بمزرعة أبي عثرتُ على آلة الناي . كان أبي عازفاً في زمانه ، ذهبتُ وفتشتُ ما تبقى من مقتنياته التي لم تخضع لتقسيم الميراث ، ووجدتُ الناي القديم . تذكرته ، تذكرتُ أصابعه ، وتذكرتُ عزفه الذي كان حتى الطير يقع له ، ونفختُ الغبار عن آلته ونفختُ فيها.
كان هذا صباح الأمس في مزرعتنا.
وفي المساء جلستُ أمام الباب الذي يقود إلى قبو مظلم أسفل بيتي وشرعتُ أعزف كما يفعل أبي . لم اصدق ما أسمعه بادئ الأمر فأنا لستُ بارعاً على هذا النحو ، حتى أنني توقفتُ اكثر من مرة أنظر وأقلب الناي بين يدي وأمام عيني ، وحين تأكدتُ أنه لي والعزف الذي اسمعه هو عزفي أصلحتُ من جلستي ورفعتُ ركبة ومددتُ الأخرى ونفختُ نفختين طويلتين فانساب بعدها العزف لوحده ولم يتوقف حتى في اللحظات التي أسحب نفساً وأرفع فمي عن فم القصبة . بدت لي في لحظات فكرة العزف عند باب القبو فكرة عظيمة وحية وتكاد تتكلم بين يدي ، وكم تمنيتُ لو تسمعني أمي ، لو تسمع عزفي ، لو يصلها أنين أبي المعتق في حنجرة القصبة ، لو تنهض الآن وتأتي لتشاهد مرآتها الموجودة في داخل القبو كيف تحركت وجاءت لوحدها وصارت تقترب وتمشي على حوافها كما لو أنها أنثى بطريق.
لقد قمتُ أمس بعمل جبار حتى أنني ساعة وضعتُ الناي جانباً وجدتُ كل الجيران يسترقون السمع لي وكان بعضهم يدمع ويمسح في حين توقف أطفال الشارع عن اللعب وصاروا ايضاً يستمعون ، والديك الذي في حديقة منزلي يا أمي جاء هو الأخر واقترب وصار يستمع وينظر لي ، وباختصار لم اخبرهم أن فكرة العزف عند باب القبو هي فكرتك أنت لكنني أخبرتهم أن هذه الفكرة وجدنها في مزرعتنا ، وأخبرتهم أيضاً أن آلة الناي هي لأبي وليس لي ، وأنني لا أملك شيئاً من هذا العمل الجبار سوى أنني أداة نقلت الفكرة ومررتها في حنجرة القصبة فتغنى بها الناي حتى الثمالة ، وخرج الجيران ووقفوا عند أبوابهم وخرجت من أقصى القبو مرآتك يا أمي ووقفت هي أيضاً عند باب القبو..