خاص- ثقافات
د. عبد النبي مخوخ (*)
انشغل بوبر Karl Popper كثيرا بمشكلة الاستقراء، في علاقتها الوطيدة بمشكلة الفصل، طوال حياته العلمية. ففي كتابه المعرفة الموضوعية، اعترف بأن هذه المشكلة استقطبت اهتمامه، بل ووجد لها حلا، منذ فترة متقدمة من حياته العلمية. فبهذا الصدد كتب: «سبق لي، خلال شتاء 1920-1919، أن قمت بصياغة وحل مشكلة الفصل بين العلم واللاعلم، ولم أكن مقتنعا بكونه (الحل) صالحا للنشر. غير أنني، وبعد أن قمت بحل مشكلة الاستقراء، اكتشفت وجود تداخل بين هاتين المشكلتين؛ و هذا ما جعلني أولي أهمية لمشكلة الفصل. لقد شرعت في الاشتغال على مشكلة الاستقراء سنة 1923 ووجدت حلا لها حوالي سنة 1927»[1].
وإذا كان بوبر قد توصل إلى حل لمشكلة الاستقراء حوالي سنة 1927، فإنه لم ينشره إلا في سنة 1933، في مقال مقتضب باللغة الألمانية[2]. و في سنة 1934، أثار هذا الموضوع مجددا في كتابه التاريخي منطق البحث العلمي[3]. و منذ ذلك الحين، لم يتردد في إثارة هذا الموضوع كلما أتيحت له الفرصة، إلى درجة تسمح بالقول إن مشكلة الاستقراء شكلت، إلى جانب مشكلة الفصل، المحور الأساسي لأعماله الإبستملوجية.
وعلاوة على ذلك، شكل انشغال بوبر بمشكلة الاستقراء نقطة تحول بارزة في البحث الإبستملوجي المعاصر. فمن جهة، أمطر الاستقراء بوابل من الانتقادات الوازنة جعلت الثقة فيه تتراجع بشكل ملحوظ. ومن جهة أخرى، اقترح منهجا بديلا فضل تسميته بالمنهج الاستنباطي للمراقبة Méthode déductive de contrôle خضع، بدوره، لنقاشات كثيرة أفرزت مواقف مختلفة، بل ومتباينة أحيانا. وبالجملة، يمكن القول إن مناقشة بوبر لمشكلة الاستقراء شكلت الأرضية الخلفية لعدد لا يستهان به الأعمال الإبستملوجية التي ظهرت منذ أربعينيات القرن الماضي.
سنحاول، في هذا المقال، بسط الخطوط العريضة لموقف بوبر من الاستقراء. ولذلك، سنحاول، في خطوة أولى، تأطير المشكلة تاريخيا مستحضرين بعض المساهمات التي أدت إلى الصياغة النهائية للمنهج الاستقرائي والنقد الذي وجه إليه من طرف هيوم D. Hume. وفي لحظة ثانية، سنعمل على تقديم الانتقادات الأساسية التي وجهها بوبر للاستقراء وتصوره للمنهج العلمي الحق. وأخيرا، سنختتم هذا المقال بخاتمة تروم إبراز بعض حدود هذا التصور.
.1 بعض المعطيات التاريخية
درج التقليد على تعريف الاستقراء بكونه انتقالا من ملاحظات مفردة إلى قوانين عامة أو، بلغة المنطق، انتقال من عبارات مفردة Enoncés singuliers إلى عبارات
شاملة[4] Enoncés universels . وبهذا المعنى العام، يعتبر الاستقراء آلية علمية راسخة في القدم، إذ نجدها معتمدة من قبل أرسطو نفسه. صحيح، لقد أولى هذا الأخير أهمية خاصة للقياس بوصفه ربطا للحد الأصغر بالحد الأكبر بواسطة الحد الأوسط، لكنه لم يهمل الاستقراء. إنه يعتبر أول من استعمل كلمة استقراءEpagôgê ، كما أنه أكد مرارا أن مقدمات القياس تبلور عادة بواسطة الاستقراء. فلا علم، حسب أرسطو، إلا بالكليات التي ليست إلا تعميمات استقرائية. وأخيرا، نشير إلى أن الفيزياء الأرسطية اعتمدت كثيرا على الاستقراء؛ ذلك أن معظم إقراراتها هي، في نهاية المطاف، تعميم لمعطيات الملاحظة المباشرة[5].
ولاعتبارات متنوعة لا يتسع المجال للخوض فيها، أولى المفكرون اللاحقون لأرسطو أهمية خاصة للقياس مهمشين الاستقراء. صحيح، لقد اعتمد هذا الأخير من قبل بعض المفكرين العرب والمسلمين من أمثال ابن سينا وجابر بن حيان وابن الهيثم، لكن الاهتمام العام ظل منصبا على القياس. فلم يتغير هذا الوضع إلا في نهاية القرون الوسطى حيث بدأت الثقة في القياس تعرف تراجعا مضطردا. و يعتبر المفكر الإنجليزي فرنسيس بيكونFrancis Bacon (1561-1626) أبرز المفكرين الذين انتدبوا أنفسهم لبلورة أورغانوم جديدNovum Organum على أنقاض الأورغانوم القديم.
.1.1 مساهمة بيكون.
قدم بيكون مجمل أعماله تحت عنوان طموح للغاية: الإحياء العظيم[6]Instauratio Magna . والواضح، أن هذا العنوان شكل دعوة صريحة للتخلي عن الفلسفة السابقة (فلسفة أرسطو وفلسفة القرون الوسطى) واستبدالها بفلسفة جديدة. و يرجع السبب الأساسي في ذلك إلى كون تلك الفلسفة ظلت فلسفة عقيمة، نظرت إلى المعرفة بوصفها هدفا في حد ذاتها وغرقت بالتالي في التنظير دون أدنى اهتمام بالجانب العملي[7]. وفي مقابل ذلك، دعا بيكون إلى ضرورة بلورة فلسفة بديلة، عملية ونفعية، ترمي إلى السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان. فبهذا الصدد كتب: «إنني ألتمس من كل امرئ أن يعتقد بأنه ليس هنالك مذهب فلسفي ينبغي التمسك به عدا العمل الذي يمكن إنجازه، فيكون بالتأكيد حسنا. إنني أجاهد من أجل وضع الأسس لا لأي مذهب أو تحزب، بل من أجل منفعة وزيادة قوة الإنسان»[8]. و لهذا الغرض، تسلح بيكون بمنهج جديد اعتبره في غاية الدقة والفعالية.
تنحل الظواهر الطبيعية، حسب بيكون، إلى جملة من الطبائع البسيطةNatures simples مثل الوزن والضوء والحرارة. ولذلك، نعت تلك الطبائع ب”الحروف الأبجدية للطبيعة”[9] وجعل من منهجه أداة للكشف عنها. وليتسنى له ذلك، يجب أن يمر بثلاث مراحل: مرحلة التجارب، مرحلة التسجيل ومرحلة المقارنة. فمن جهة أولى، تقتضي دراسة ظاهرة ما إخضاعها للتجارب أولا. غير أن هذه العملية لا تتم بطريقة عشوائية، وإنما يجب أن تراعي جملة من الضوابط مثل تنويع التجربة وتكرارها وإطالة أمدها. ومن جهة أخرى، تنص المرحلة الثانية على تسجيل كل المعطيات التي تم جمعها خلال المرحلة السابقة. غير أن هذا التسجيل يجب أن يكون تسجيلا تصنيفيا منظما. ولهذه الغاية، دعا بيكون إلى تسجيل تلك المعطيات في ثلاثة قوائم: قائمة الحضور أو الإثبات، قائمة الغياب أو النفي وقائمة التفاوت في الدرجة. ففي القائمة الأولى، يتم تسجيل كل الحالات التي تحضر فيها الطبيعة البسيطة. أما الحالات التي تغيب فيها، فتسجل بالقائمة الثانية، بينما تسجل الحالات التي تحظر فيها تلك الطبيعة بدرجات متفاوتة في القائمة الثالثة. وأخيرا، نخضع تلك القوائم للمقارنة قصد اكتشاف ما سماه بيكون ب”صور الطبائع البسيطة” أو القوانين[10].
تجدر الإشارة هنا إلى أن بيكون أسند إلى منهجه هذا خصوبة إجرائية كبرى، إذ أكد على إمكانية تطبيقه في جميع المجالات المعرفية. فبهذا الصدد كتب: «كما أن المنطق القائم الآن لا يقتصر بأقيسته على العلم الطبيعي وحده، بل يشمل جميع العلوم، فمنهجنا الاستقرائي يمتد بالمثل إلى كل العلوم. إننا نعتزم تجميع تاريخ وقوائم الاكتشافات المتعلقة بالغضب والخوف وما شابهها، بالحياة المدنية وبعمليات الذاكرة والتركيب والتقسيم واتخاذ القرارات والامتناع عنها، بنفس المقدار الذي نجمع به تاريخ وقوائم الحرارة والبرودة والضوء والنباتات وما إليها»[11].
والواضح أن المنهج المقترح من قبل بيكون ينطلق من الملاحظة والتجربة حصرا ولم يعر أية أهمية للفرضيات النظرية، بل دعا صراحة إلى تفاديها لكونها استباقا للطبيعةAnticipation de la nature[12]. وبذلك، كان بيكون أول من انشغل بتقعيد المنهج الاستقرائي بوصفه المنهج المؤهل حقا للتقدم في دراسة الطبيعة وتسخيرها بالتالي لخدمة الإنسانية. وعلى الرغم من الأهمية التاريخية الكبرى لمساهمة بيكون هاته، فإنها خضعت، منذ عصره، لانتقادات كثيرة من نوع عجزها عن التخلص من التأثير الأرسطي، إذ ظلت تستعمل اللغة الأرسطية (صور طبائع الأشياء مثلا) وإهمالها لدور الفرضيات في النشاط العلمي وللرياضيات كرد فعل على الصورنة العقيمة التي طبعت الفكر السابق[13] وعدم مواكبتها للتطورات العلمية الحاصلة آنذاك[14].
2.1. الصياغة النهائية للمنهج الاستقرائي
مهما يكن من أمر ما يشوب مساهمة بيكون من ثغرات، فإن فضلها الكبير يكمن في كونها شكلت منطلقا لنقاشات كثيرة وهامة حول المنهج العلمي، ساهم فيها عدد من المفكرين اللاحقين من أمثال كلود برنار ووليام ويويلWilliam Whewel وستورت ميل Stuart Mill . لقد انشغل كل هؤلاء ببلورة منهج علمي جديد يتجاوز ثغرات منهج بيكون. وعلى الرغم من الخلافات الجزئية التي كشف عنها هذا النقاش، فإن مجهودات هؤلاء أفضت إلى بلورة المنهج الاستقرائي في صورته النهائية، أي المنهج الذي يقضي بالمرور بالمراحل التالية:
أ. الملاحظة: يبدأ المنهج الاستقرائي بملاحظة الظاهرة موضوع الدراسة. غير أن الملاحظة المقصودة هنا هي ملاحظة علمية يجب أن تستجيب لجملة من الشروط منها الدقة والموضوعية. ويمكن لهذه الملاحظة أن تكون مباشرة، تعتمد على الحواس حصرا، أو مسلحة تعتمد على أجهزة دقيقة كالمجهر أو المقراب. وبما أن بعض الظواهر ليست معطاة في الطبيعة، يقوم العالم باصطناعها في المختبر كما يحدث عادة في الكيمياء والعلوم الطبيعية. وفي هذه الحالة نكون بإزاء ظاهرة مصطنعة تقترن فيها الملاحظة بالتجريب. وإجمالا، يكمن الهدف الأساسي لهذه الخطوة في جمع المعطيات حول الظاهرة.
ب. بلورة الفرضية: استنادا إلى المعطيات المجمعة خلال المرحلة الأولى، يقوم العالم أولا بما يعرف ب”التعميم الاستقرائي” حيث يعمم المعطيات التي رصدها على كل الحالات الأخرى المماثلة التي لم يخضعها للملاحظة وللتجريب. فبعد أن لاحظ سقوط بعض الأجسام الثقيلة (قطع من الحجر والخشب والحديد مثلا)، أمكنه أن يعمم ذلك على كل الأجسام الأخرى المماثلة لها ويقول: “كل الأجسام الثقيلة تسقط”. وعلى إثر ذلك، يقوم العالم ببلورة فرضية تروم تقديم تفسير للتعميم الاستقرائي. يمكنه مثلا تقديم الفرضية التالية: “كل الأجسام تسقط بسبب الثقالة” لتفسير التعميم الاستقرائي السابق. ولذلك، ليست الفرضية إلا عبارة تفسيرية مؤقتة للظاهرة. إنها تستند إلى المعطيات التي تم جمعها خلال الخطوة الأولى، لكن عوامل عديدة أخرى تتدخل في بلورتها منها ذكاء العالم ورصيده المعرفي والصدفة أحيانا.
ج. إختبار الفرضية وبلورة القانون: بعد أن يبلور العالم فرضية ما، يخضها للاختبار التجربي قصد إثبات صدقها أو كذبها. فإذا كذبت التجربة الفرضية، يتخلى عنها ويمضي في البحث عن فرضية أخرى بديلة. وإذا أثبتت صدقها، تحولت الفرضية إلى قانون شامل. لقد أسند الاستقراءانيون أهمية استثنائية لهذه الخطوة لكونها تعد الخطوة الحاسمة: إنها تحسم في أمر الفرضية وتحدد مصير نشاط العالم السابق وسلوكه اللاحق. و نظرا لأهميتها تلك، توقف الاستقراءانيون كثيرا مع التحقق التجربي فقسموه إلى أنواع وفصلوا القول في شروطه و آلياته.
.3.1نقد هيوم للاستقراء
عرف الفكر الفلسفي تحولا مهما مع هيومD. Hume ، إذ لم يعد منشغلا بمسألة الوجود بقدر ما أصبح منشغلا بمشكلة المعرفة. لقد كرس هيوم قسطا وافرا من مجهوداته لمعالجة هذه المشكلة خصوصا في كتابيه رسالة حول الطبيعة البشرية[15] وبحث حول الفهم الإنساني[16]. فمن حيث الجوهر، لا يختلف تصور هيوم للمعرفة عن التصور التجرباني، بل إنه يعد محاولة لدفعه إلى مداه الأقصى. فعلى غرار لوكJ. Locke ، انشغل هيوم بالتحليل السيكولوجي لأفكارنا وانتهى إلى التأكيد على أن التجربة تشكل مصدرها ومحكا لها. فمن جهة، تجد أفكارنا أصلها في “الانطباعات الحسية”. إنها مجرد تمثيل أو تصوير ذهني لها. ومن جهة أخرى تعد “الانطباعات الحسية” محكا لمعرفتنا، ذلك أن المعرفة الصادرة عنها هي وحدها المعرفة الصادقة، وما سواها ليس إلا هراء لا طائل من ورائه.
وفي سياق هذا الاهتمام المكثف بالمعرفة، انشغل هيوم كثيرا بنقد الاستقراء إلى درجة أن التقليد درج على ربط “مشكلة الاستقراء” بفلسفته[17]. فخلافا للتجربانيين الذين نظروا إلى الاستقراء بوصفه المنهج المميز للعلم، تعامل هيوم معه تعاملا نقديا، إذ أثار بصدده مشكلتين قدم لهما حلين متعارضين. فالمشكلة الأولى هي مشكلة منطقية صاغها بوبر على النحو التالي: «هل نملك المبررات الكافية للتفكير في حالات أخرى غير مجربة انطلاقا من حالات متكررة بحكم التجربة؟»[18]. فهل نملك مثلا المبررات الكافية للقول أن الشمس ستشرق غدا صباحا؟ عن هذا السؤال أجاب هيوم بالنفي القاطع، ذلك أننا لا نتوفر على أي مبرر منطقي لقول ذلك. إننا، كتب هيوم، «لا نتوفر على أي دليل مقنع على أن الأشياء التي كانت متصلة في أغلب الأحيان، من خلال تجربتنا، ستكون متصلة بنفس الكيفية في ظروف أخرى»[19]. أما المشكلة الثانية فهي مشكلة سيكولوجية صاغها بوبر كما يلي: «إذا كان الأمر كذلك، لماذا ينظر كل شخص واع، بل ولماذا تغمره قناعة بأن حالات غير مجربة ستكون مطابقة لحالات جربها؟ أو، بعبارة أخرى، لماذا نقوم بتنبؤات نثق فيها كثيرا؟»[20]. فإذا كان من المتعذر القيام باستنتاجات استقرائية من الوجهة المنطقية، لماذا نستمر في القيام بها بكل ثقة واطمئنان؟
لا يوجد، حسب هيوم، أي مبرر لذلك عدا “التكرار والعادة”. إننا اعتدنا على استنتاج نتائج غير مجربة من حالات وظواهر تكررت بانتظام في تجربتنا الماضية. وهكذا، نستطيع القول إن الشمس ستشرق غدا صباحا لأننا تعودنا على شروقها كل صباح. وبذلك، تبنى هيوم موقفا مزدوجا من مشكلة الاستقراء. فإذا كان يؤكد على تهافته من الوجهة المنطقية، فإنه اعترف بمشروعيته من الوجهة السيكولوجية.
.2 نقد بوبر للاستقراء
شكل نقد الاستقراء هاجسا أساسيا لازم بوبر على الدوام إلى درجة أنه لم يتردد في الاعتراف بكون النظرية التي قدمها في منطق البحث العلمي تبلورت في تعارض مع «كل الأعمال التي حاولت استعمال مفاهيم المنطق الاستقرائي»[21]. فعلى غرار جملة من المفكرين السابقين، وعلى رأسهم هيوم وليبغLeibig ودوهيمP. Duhem و بوانكاريH. Poincaré ، وجه بوبر جملة من الانتقادات الهامة للاستقراء نذكر منها:
.1.2 الانتقاد المنطقي
يشكل الانتقاد المنطقي الذي وجهه بوبر للاستقراء انتقادا أساسيا حرص على تقديمه في مختلف أعماله الإبستملوجية. ففي كتابه منطق البحث العلمي كتب: «من وجهة نظر منطقية، إنه ليس من البديهي أن نكون مخولين لاستنتاج عبارات شاملة من عبارات مفردة مهما كان عددها. يمكن دائما لكل نتيجة مستنتجة بهذه الكيفية أن تكون كاذبة. فمهما كان عدد البجع الأبيض الذي يمكن ملاحظته، فإنه لا يبرر النتيجة كل البجع أبيض»[22]. و الحال، لا يحق لنا تعميم ما لاحظناه على ما لم نلاحظه، وبالتالي لا يمكننا تبرير عبارات شاملة ببعض العبارات المفردة. فلا يحق لنا مثلا أن نستنتج أن “كل البجع أبيض” لمجرد أن البجع الذي لاحظناه كان أبيضا.
بصيغة أخرى، يعد الاستدلال الاستقرائي انتقالا من بعض العبارات المفردة إلى عبارة شاملة. تعبر العبارة المفردة عن واقعة أو حالة أشياء لوحظتا في زمان ومكان محددين. أما العبارة الشاملة فهي تعميم لبعض العبارات المفردة. غير أن الاستدلال الاستقرائي لا يستند إلى أساس منطقي صلب، ذلك أنه لا يمتلك بالضرورة خاصية الاستدلال المنطقي الصحيح: إذا كانت المقدمات صادقة، كانت النتيجة كذلك. ففي الاستدلال الاستقرائي، قد تكون المقدمات صادقة، ومع ذلك تكون النتيجة كاذبة. ولتوضيح ذلك، نكتفي بتقديم مثال الديك الرومي لراسلB. Russel .
يتعلق الأمر بديك كان يربى بضيعة لتربية الدواجن. كان صاحب الضيعة يطعمه كل يوم على الساعة التاسعة صباحا. ومع توالي الأيام، استنتج هذا الديك الاستقراءاني: “إنني أطعم كل يوم على الساعة التاسعة صباحا”، لكن سرعان ما حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ قام صاحبه، في أحد الأيام، بذبحه على الساعة التاسعة صباحا بدلا من إطعامه. وعليه، إذا كانت المقدمات التي انطلق منها الديك صادقة، فإن النتيجة التي استنتجها كانت كاذبة.
والواضح أن هذا الانتقاد ليس انتقادا بوبريا أصيلا، وإنما يستعيد انتقاد هيوم المنطقي للاستقراء ويعممه. فإذا كان بوبر قد أخذ بموقف هيوم المنطقي، فإنه رفض بصرامة موقفه السيكولوجي لاعتبارين أساسيين: فمن جهة أولى، أكد بوبر مرارا أن موقف هيوم السيكولوجي يؤدي حتما إلى الذاتانيةsubjectivisme واللاعقلانيةirrationalisme . فإذا كان العلم يتأسس على جملة من العبارات الشاملة، وإذا كانت هذه الأخيرة قائمة على “العادة والتكرار” كما بدا لهيوم، فإن العلم سيقوم حينئذ على اعتبارات ذاتية لاعقلية. ومن جهة أخرى، ميز بوبر بوضوح بين مقاربتين ممكنتين للفكر العلمي: مقاربة سيكو-تكوينية ومقاربة منطقية خالصة. فإذا كانت المقاربة الأولى تنشغل بكيفية تبلور الاكتشافات العلمية في ذهن العالم، فإن المقاربة الثانية تتعامل مع الاكتشافات العلمية بوصفها اكتشافات معطاة وتطرح بشأنها جملة من الأسئلة الخاصة من نوع: هل يمكن تبرير عبارة ما؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن تبريرها؟. وعلى الرغم من كون بوبر لا ينفي مشروعية وأهمية المقاربة الأولى بالنسبة للسيكولوجيا التجربية، فإنه يشكك في جدواها بالنسبة لدراسة المعرفة العلمية؛ ذلك أن تبلور الأفكار العلمية في ذهن العالم لا يخضع دائما لضوابط محددة يمكن رصدها بدقة[23].
سمح هذا النقد المنطقي لبوبر باستخلاص أن الاستقراء، الذي طالما اعتبره الاستقراءانيون آلية خصبة وضرورية لبناء النظرية العلمية، هو مجرد “أسطورة”. فلا يمكن أبدا للاستنتاجات الاستقرائية، مهما اتسعت قاعدتها، أن تكون عبارات شاملة مؤكدة ويقينية.
.2.2 تهافت مبدأ الاستقراء
يحتاج كل استقراء إلى مبدإ للاستقراء يسمح بتبرير الاستنتاجات الاستقرائية. و لهذا السبب أولى الاستقراءانيون أهمية قصوى لهذا المبدأ. فبهذا الصدد كتب ريشنباخReichenbach : «يحدد هذا المبدأ صدق النظريات العلمية. إن حذفه من العلم لن يعني شيئا آخر غير حرمان هذا الأخير من قدرته على إقرار صدق أو كذب نظرياته. والواضح، أنه بدون هذا المبدأ لن يحتفظ العلم، لمدة أطول، بحقه في التمييز بين نظرياته وبين الإبداعات الفانطستيكية والتعسفية لعقل الشاعر»[24]. غير أن بوبر لا يشاطر الاستقراءانيين تفاؤلهم هذا، إذ أكد مرارا أن مبدأ الاستقراء يؤدي حتما إلى “حلقة مفرغة” أو إلى “تراجع إلى ما لا نهاية له”.
يؤكد بوبر أن مبدأ الاستقراء هو «عبارة نستطيع القيام بواسطتها باستنتاجات استقرائية في صيغة منطقية مقبولة». إن هذه العبارة، يضيف بوبر، لا يمكن أن تكون عبارة تحليلية. ولو كان الأمر كذلك لما طرحت مشكلة الاستقراء أصلا؛ ذلك أن “الاستنتاجات الاستقرائية يجب أن تكون، في هذه الحالة، تحويلات منطقية صرفة أو طوطولوجيات، تماما كما هو الحال بالنسبة للاستنتاجات التي نقوم بها في المنطق الاستنباطي”[25]. والحال أن مبدأ الاستقراء لا يمكن أن يكون، وفقا للمنطق الاستقرائي نفسه، إلا عبارة تركيبية شاملة أو استنتاج استقرائي. غير أن الاستقراء الذي سمح باستنتاج هذه العبارة يجب أن يكون قد قام على مبدأ آخر للاستقراء. وبما أن هذا الأخير يشكل عبارة تركيبية شاملة، يجب أن يكون قد نجم عن استقراء قائم بدوره على مبدأ آخر للاستقراء، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له.
والواضح، أن الأمر يتعلق بنقد وجيه للغاية، وضع الاستقراءانيين في ورطة حقيقية. فلما لم يكن بإمكان هؤلاء الرد عليه ولا التخلي عن مبدأ الاستقراء، عمدوا إلى إدخال تعديل عليه مفاده أن هذا الأخير يتمتع بطبيعة احتمالية لا غير. غير أن هذه المراجعة لم تغير طبيعة المشكلة قيد أنملة؛ ذلك أننا، كتب بوبر «لن نكسب أي شيء إذا نظرنا إلى مبدأ الاستقراء بوصفه “محتملا” لا “صادقا”. و بالجملة، يقود منطق الاستنتاج المحتمل أو “منطق الاحتمال” إما إلى تراجع إلى ما لانهاية له وإما إلى مذهب القبلانيةapriorisme ، كما هو الحال بالنسبة لأي شكل من أشكال المنطق الاستقرائي»[26].
.3.2 هفوات المنهج الاستقرائي
يتفق الاستقراءانيون على القول إن المنهج المميز للعلم هو المنهج الاستقرائي. وبالرغم من وجود بعض الاختلافات الجزئية، كما أسلفنا الذكر، فإنهم يتفقون على القول إن هذا المنهج يمر بالمراحل التالية: الملاحظة، بلورة الفرضية، التحقق التجربي وصياغة القانون.
.1.3.2 الملاحظة
يعتقد الاستقراءانيون أن الملاحظة، التي قد تقترن بالتجريب كما أسلفنا، تشكل الخطوة الأولى في بناء النظرية العلمية. فإذا أردنا بناء نظرية علمية، حسب هؤلاء، علينا أن نبدأ بجمع “العبارات القاعدية” أو “العبارات البروتوكولية” التي ليست إلا “تقارير الملاحظة”[27]. وفي هذا السياق، لم يترددوا في التأكيد على إمكانية قيام ملاحظة نقية تضمن الموضوعية المطلوبة.
يتفق بوبر مع الوضعانيين على إسناد أهمية كبرى للملاحظة. فبهذا الصدد كتب: «إنني مستعد لقبول أن الملاحظة وحدها يمكنها مدنا ب”معرفة متعلقة بالوقائع” و(كما قال هاهن Hahn)، لا يمكن أن نعي الوقائع إلا بالملاحظة»[28]. و بالرغم من ذلك، عارض بشدة التصور الوضعاني لطبيعة الملاحظة ودورها في بناء النظرية العلمية. فمن جهة أولى، رفض بصرامة الزعم الوضعاني بإمكانية قيام ملاحظة محايدة وموضوعية، إذ أكد، في مناسبات مختلفة، على استحالة قيام ملاحظة من هذا القبيل. ففي كتابه منطق البحث العلمي كتب: «إن الاعتقاد بأننا نستطيع أن نبدأ بملاحظات خالصة فقط، دون الاستعانة بشيء له طبيعة النظرية، هو اعتقاد سخيف… تكون الملاحظات دائما انتقائية. إنها في حاجة إلى موضوع وإلى مهمة محددة وهدف معلن ووجهة نظر ومشكلة….”[29]. و الحال أن الملاحظة، من حيث إنها تنطلق من مشكلة محددة ومن حيث إنها تروم تحقيق هدف ما ومن حيث إنها تنتقي موضوعاتها…، هي بالضرورة ملاحظة مؤطرة نظريا. فعلى سبيل الاستهزاء بهذا الموقف، كتب: «إذا أمرت بكتابة تقرير حول التجارب التي أنا بصدد القيام بها، سأجد صعوبة في الاستجابة لهذا الأمر المبهم. فهل يتعين علي أن أذكر أنني أكتب وأسمع جرسا يدق وبائع الجرائد ينادي…أم يتعين علي أن أذكر أن هذا الضجيج يزعجني؟ و حتى إذا افترضنا إمكانية الاستجابة لهذا الأمر، فإن ترسانة [المعطيات] التي يمكن بلورتها بهذه الطريقة لا يمكن أن تشكل علما مهما كان غناها»[30]. و بعبارة واحدة، إن عملية جمع المعطيات تكون بالضرورة عملية انتقائية، وبالتالي محكومة وموجهة بضوابط نظرية محددة سلفا.
يستند موقف بوبر هذا من الملاحظة إلى جملة مكتسبات تحققت في مجالات معرفية متنوعة. فالدراسات التي أنجزت حول الإدراك البصري مثلا كشفت عن تهافت أطروحة “الملاحظة المحايدة”. ولتوضيح ذلك، يمكن تلخيص التصور السائد حول الإدراك البصري على النحو التالي: تتكون العين من عدسةLentille وبؤبؤRétine . تصدر الموضوعات الخارجية المرئية أشعة ضوئية تقع على عدسة الناظر. وعلى إثر ذلك، تعكس العدسة تلك الأشعة وتوجهها إلى بؤرة البؤبؤ. وبذلك، تتشكل الصورة التي تنقل إلى البصلة السيسيائيةCortex بواسطة الأعصاب البصرية.
استنادا إلى هذا التحديد لكيفية اشتغال الإدراك البصري، اعتقد الاستقراءانيون أنه يتم بطريقة آلية وبالتالي متماثلة لدى مختلف الملاحظين. ولذلك، يمكن لملاحظين مختلفين، ينظران إلى شيء واحد من نفس الموقع، أن يحصلا على نفس الصورة. وبما أن عملية التسجيل تتم بنفس الطريقة، فإنهما يحصلان على نفس المعلومة. وبذلك، تكون الملاحظة محايدة وموضوعية. غير أن دراسات كثيرة، أجريت في حقلي سيكولوجيا المعرفة والعلوم المعرفية على وجه الخصوص، بينت أن الإدراك ليس مجرد ميكانيزمات فيزيولوجية، ولكنه سيرورة معقدة تتوقف على عدة عوامل منها تجارب الملاحظ السابقة وثقافته وتطلعاته وأوضاعه النفسية وحالة حواسه[31]. ومن جهة ثانية، لا يبدأ النشاط العلمي بالملاحظة حسب بوبر. إنه يبدأ ببلورة النظرية ويتم اللجوء إلى الملاحظة والتجريب في مرحلة اختبار النظرية. وعلاوة على ذلك، أسند بوبر للملاحظة دورا مختلفا تماما عن الدور الذي تلعبه في المشروع الاستقراءاني: ليس بوسع الملاحظة والتجربة إثبات صدق النظريات. إنهما يضطلعان، عند بوبر، بدور آخر ألا وهو تفنيد النظريات كما سنرى لاحقا.
.2.3.2 التجربة
يتفق بوبر مع الوضعانيين على إسناد أهمية كبرى للتجربة. ففي كتابه منطق البحث العلمي كتب: «حسب هذا التصور تبدو التجربة وكأنها منهجا مميزا، يسمح بتمييز نسق نظري عن الأنساق النظرية الأخرى بحيث يبدو العلم التجربي متميزا ليس فقط بصورته المنطقية، ولكن بخصوصية منهجه أيضا… وفي جميع الحالات، إنني أقبل بالتأكيد أن نسقا ما لا يكون تجربيا أو علميا إلا إذا كان قابلا لأن يخضع لاختبارات تجربية»[32]. وفي كتابه افتراضات وإبطالات أضاف: «يتحدد مصير أية نظرية، أي قبولها أو رفضها، وفقا للملاحظات والتجارب ونتائج الاختبارات»[33].
يبدو أن هذه الأهمية التي أسندها بوبر للتجربة هي ما جعلته يبتعد عن أداتانيةInstrumentalisme دوهيم و مواضعاتانيةConventionalisme بوانكاري. فإذا كان يتفق معهما على رفض المنهج الاستقرائي، فإنه لا يشاطرهما الاعتقاد باستحالة إخضاع الأنساق النظرية للاختبار التجربي. يبدو أيضا أن هذا ما جعل البعض يقرب بوبر من الوضعانية. فلهذا السبب، ذهب كارناب R. Carnap مثلا إلى حد القول إن خلاف بوبر مع الوضعانية هو مجرد خلاف ظاهري.
و بالرغم من ذلك، يرفض بوبر الموقف الاستقراءاني الذي، إذ يؤمن بإمكانية قيام تجربة نقية، يسند إليها القدرة على الحسم النهائي في الفرضيات العلمية. فمن جهة أولى، لا وجود، حسب بوبر، لتجربة نقية خالية من أية شوائب نظرية. فكل تجربة تتم وفق خطة معدة سلفا. ولذلك، فضل استعمال كلمة تجريبExpérimentation بدلا من كلمة تجربة. فالتجريب هو تجربة مؤطرة نظريا. ومن جهة أخرى، أكد على استحالة قيام تجربة حاسمة. فعلاوة على كون التجربة الواحدة تقبل تأويلات مختلفة، فإنها تعجز عن إثبات صدق الفرضية المقترحة[34].
.3.3.2 طبيعة القوانين العلمية
أكد الاستقراءانيون دوما أن هدف العلم هو الكشف عن القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية بواسطة الاستقراء. وإذا كان بوبر لا يعترض على الهدف الذي رسمه الاستقراءانيون للنشاط العلمي[35]، فإنه ألح دوما على استحالة إخضاع القوانين العلمية لتحقق تجربي كامل، ذلك أن «التحقق من قانون طبيعي ما يفرض فحص كل حالة يمكن أن ينطبق عليها هذا القانون بطريقة تجربية وملاحظة أنها تخضع له بالفعل. وهذا أمر مستحيل»[36]. وعليه، فإن عبارة “كل البجع أبيض” لن تكون صادقة مطلقا ما لم نثبت تجربيا أنها تنطبق على كل البجع بدون استثناء. وهذا أمر مستحيل طبعا لأنه من المستحيل حصر كل أفراد القاعدة الاستقرائية لهذه العبارة، أي كل البجع بالتمام والكمال.
وفي هذا السياق، دعا بوبر إلى ضرورة التمييز بين نوعين من العبارات الشاملة: عبارات شاملة بالمعنى الدقيقEnoncés universels au sens strict وعبارات شاملة عددياEnoncés universels numériquement [37]. ولتوضيح الفرق بين هذين النوعين من العبارات الشاملة من وجهة نظر بوبر، نقدم المثالين التاليين:
-
كل المعادن تتمدد بالحرارة؛