“العضة”… دروس الأدب في خدمة الصحافة

*أسامة فاروق

في كتابه “الحكاية وما فيها”، يقول الروائي محمد عبد النبي إنه مع التجارب الأولى في الكتابة الأدبية، تساور الجميع الرغبة في الكتابة عن معان كبرى، أفكار مجردة، قيم عامة، أشياء نعرفها بالظن. لكن غالبية الكتاب ومنهم عبد النبي لا ينصحون بالانطلاق من تلك المعاني المجردة، ويشجعون على العكس، أي الانطلاق من شيء صغير، محسوس ومرئي، ويمكن الإمساك به.

يضرب عبدالنبي المثل بكتابة إبراهيم أصلان ويسوق فقرة من كتابه “شيء من هذا القبيل” للتدليل على ما يقول “…أرجوك، إذا ما صادفك رجل في قصة أو رواية قد جلس صامتاً، أو طفق يضحك دونما سبب، أو رأيت أحداً يمشي في الشارع وهو يتبادل الكلام مع نفسه، أو لمحت امرأة تزينت ووقفت أمام المرآة لا تعرف ماذا تفعل بنفسها؛ إذا صادفت مثل هذه التفاصيل العابرة، فلا تظنها غير ذات صلة بهذه المسائل الكبيرة؛ لأن في تطلع طفل إلى الطعام في يد الغير تعبيراً عن محنة عظيمة، وارتجافة خوف تعتري إنساناً من لحم ودم لمجرد مروره أمام قسم شرطة لهي اختزال لتاريخ كامل من المهانة والقهر”.

والصحافة كما الأدب، تميل عادة للقصص الكبيرة، والأحداث التي تظن أنها مؤثرة، وتغض الطرف عن العابر واليومي، عن حياة الناس العادية، رغم أن تلك التفاصيل الصغيرة هي التي ترسم المشهد النهائي للقصة الكبيرة، تكون الصورة وتفسر تفاصيلها.

في محاولتهم لتغيير وجة النظر تلك، لتعديل مسار الصحافة من اللهاث خلف الأحداث الجارية، للتوقف والتمهل والتمعن في التفاصيل الصغيرة، للأحداث اليومية للناس العادية، نشر “منتدى المحررين المصريين” التابع للبرنامج المصري لتطوير الإعلام، كتابه الثاني “العضة” لجوناثان كولمان.

كان المنتدى قد نشر، كتاب “فرانك سيناترا عنده برد” لجاي تاليز، الذي تتبع كيف حول المؤلف فشله في مقابلة فرانك سيناترا إلى قصة نجاح مذهلة، تقدم في الوقت نفسه صورة مختلفة عن سيناترا وعن الصحافة في آن معا.

في قصة “العضة” يتحقق الأمر نفسه، فالعمل كما يقول ناشره، يُظهر أن القصص العميقة والمثيرة والمحملة بالمعاني، يمكن أن توجد في أبسط الأماكن، “أنت لا تحتاج إلى مدينة كبيرة لكي تبحث عن قصة صحافية كبيرة. القصص التي تحدث في مكان صغير من العالم يمكن أن تكون كاشفة للقارئ، تساعده على فهم نفسه والآخرين”.

فتاة اتهمت زميلتها بأنها “عضتها” أثناء مباراة لكرة القدم في دوري المدارس في بلدة أميركية صغيرة، هذه هي القصة ببساطة، ما الذي يمكن أن يكون مختلفا هنا، لماذا يجهد صحافي ليبحث وراءها، أو حتى يهتم بها؟! إذا عدنا لنصائح عبد النبي، سنجده يقول لا تفوت قراءة صفحة الحوادث، فذات يوم قد تجد ضالتك هناك، وهو بالضبط ما فعله جوناثان كولمان حيث وجد خبراً أوردته صحيفة محلية، مفاده أنه بعد أسبوعين من مباراة مهمة في بطولة المدارس الثانوية، زعمت إحدى اللاعبات، وأيدها في ذلك والدها، أنها تعرضت لـ”عضة” من فتاة في الفريق المنافس. وعلى إثر ذلك أعدّت النيابة مذكرة اعتقال بحق المتهمة. بعدها توالت التداعيات: محاكمة أمام القضاء، أسر تتمزق، مسارات رياضية تنتهي، والأهم مجتمع صغير يوشك على التداعي…. ببساطة افتتن كولمان بالقصة وقرر أن يحقق فيها.

في تلك الأثناء كان كولمان لا يزال يعيش في تشارلوتسفيل، وهي بلدة “نصف ريفية” في ولاية فيرجينيا، أهم ما يميزها هو وجود جامعة فيرجينيا بها، كان يفكر في مشروعه القادم بعد كتابه الأخير “قصة ويست يرويها ويست” الذي يتناول السيرة الذاتية للاعب والمدرب جيري ويست، أحد أساطير كرة السلة في العالم. لكن، ورغم اهتمامه بالقضايا الاجتماعية، وحتى رياضات الشباب، لم تكن تلك الأشياء وحدها هي دافعه للبحث في القصة، كان الأهم هو إيمانه بأن “حياة الناس العاديين ليست عادية على الإطلاق، بل قد تكون أهم من حياة أولئك الذين نراهم مشاهير أو نجوم”، قناعته بأننا حين نحكي قصة هؤلاء الذين يشبهوننا والمواقف التي وجدوا أو وضعوا أنفسهم فيها، فإننا نقدم خدمة لهم ولأنفسنا، إذ نساعدهم ونساعد أنفسنا على فهم جزء يسير من تعقيد الطبيعة البشرية.

لكنه رغم ذلك لم يكن يتصور أن قصة كتلك يمكن أن تستحوذ عليه بهذا الشكل، يقول: “لم يكن لدي أدنى فكرة عندما بدأت البحث في تفاصيل هذه الواقعة، أنها سوف تستغرق مني كل هذا الوقت، ولم أتصور أبداً أن تتحول إلى كتاب كامل”.

الأهم هو كيف كتبت القصة، تخيل تحقيقا صحافياً يبدأ هكذا “… كان ذلك يوم السبت 19 مايو 2012، يوم ارتفعت فيه نسبة الرطوبة إلى حد يفوق الاحتمال، وإن كان قد أصبح متوقعاً لدى سكان وسط فرجينيا، حيث بات الربيع ينقضي بأسرع من المعتاد مفسحاً الطريق لأصياف تزداد حرارة وطغياناً مع كل عام يمر”… هذه البداية التي اعتدناها في القصص الأدبية “”Fiction توضح الغرض الأساسي من الكتاب الذي يطرح القصة كنموذج لاستخدام تقنيات الأدب في السرد الصحافي، لإنتاج قصص صحافية “non fiction” مختلفة”.

ثلاث سنوات أجرى خلالها كولمان عشرات المقابلات، مع كل أطراف القصة تقريبا، مزج التفاصيل، وأعاد سرد القصة بأكملها، مانحاً إياها خلفيات ثرية وسياقات واسعة، لتجاوز مسألة مجرد “العضة” إلى ما هو أشمل، لطبيعة النشاط الرياضي في المدارس، للعلاقات الإنسانية المتشابكة، لدور السلطة والتسلط والفساد في تشكيل الحياة في واحدة من المدن الأميركية الصغيرة، والأهم كيف يسيطر أب مريض على مستقبل أسرة.

غاص في التفاصيل، واكتشف ما لم تكتشفه المحكمة والمؤسسات الرسمية التي حققت في الواقعة العبثية، اكتشف أن المأساة الحقيقة تدور بالأساس حول شخصية الأب الموسوس المتسلط الذي استحوذ على حياة ابنته وأسرته، حاول أن يعيشها بدلا منهم فحولها إلى جحيم مطبق. يضغط الأب على ابنته لتستمر في كذبتها التي ربما لم تكن تقصدها من البداية، يؤكد أن ابنته تعرضت للعض، ويدعم قصتها بعلاقاته الفاسدة مع كل الأطراف في المدرسة والشرطة وحتى القضاء، فقط لينتقم من مدينته القديمة التي لفظته من قبل.

مرة أخيرة نعود لدروس الأدب، فعبد النبي ينقل عن الأميركية جويس كارول أوتس قولها إنها حريصة على قراءة الصحف والمجلات، وخصوصا أبواب الاعترافات والنميمة والشائعات والحوادث وبريد القراء، بحثا عن مصادر لقصتها، كما لا يفوت الإشارة للمعلم نجيب محفوظ الذي كان يهتم بقراءة ما ينشر في بريد الأهرام، باعتبارها نافذة أخرى صغيرة نحو الناس وحكاياتهم وأزماتهم، وأوضح مثل على اهتمامه هذا، هو متابعته في شغف وتأمل جميع ما كانت تنشره الصحف من أخبار حول “محمود أمين سليمان” –اللص والقاتل الذي عرف بـ”السفاح”- ليصنع من تلك القصاصات تحفته “اللص والكلاب”.

لكن الدرس الأهم هنا كما يقول عبدالنبي، أن خبر الصحيفة “ليس إلا شرارة مبدئية قد تستلهم منها أنت غابة تحترق على سطورك”.. خبر صغير في صحيفة ألهم كولمان لإنتاج قصته الواقعية، وربما تلهم آخرين لإنتاج نسخهم الخاصة، فمن ستلهمه “عضة” كولمان؟

على أي حال فلن تكون المرة الأولى فكتابه “بناء على طلب الأم” الذي يغوص في تفاصيل جريمة معقدة لصبي قتل جده الثري بتحريض من أمه، تحول بعد نشره إلى مسلسل تلفزيوني حقق نجاحاً كبيراً، وظهر فيه كولمان نفسه في دور صغير. تتداخل الفنون كلها، والمصدر دائماً، قصص الناس العادية.

(*)”العضة” لجوناثان كولمان، ترجمة: إيهاب عبد الحميد، وصدر عن البرنامج المصري لتطوير الإعلام.
_______
*المدن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *