مهرجان رام الله الشعري .. وتفوح رائحة المدينة قصائد !

*يوسف الشايب

“لا أنتمي إلا للحظة التي تراني أحيا” .. هذا ما قالته الشاعرة الفرنسية جوسيان دي جيسوس بيرجي في قصيدتها “دوماً غريبة”، وهي واحدة من ثمانية وعشرين شاعراً وشاعرة مثلوا خمس عشرة دولة حول العالم في مهرجان رام الله الشعري، الذي جعل المدينة وسكانها وزائريها، والعابرين مصادفة، ينتمون للحظة، حيث كانت القصائد تتطاير بلغات عالمية عدة ما بين موقع وآخر، على مدار أربعة أيام، كان فيها الشعراء أسياد الجغرافيات الرحبة والضيقة، وأسياد الأزمنة التي لم يكن لعقارب الساعة أن تحصيها، كما هم أسياد الكلمة.

أربعة أيام من الشعر تناثرت فيها القصائد بالعربية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والبلغارية والبرتغالية وغيرها، في فضاءات مدينة رام الله، علق شيء من كلماتها على جدران “حوش قندح”، أو عند تلك الشجرة في مؤسسة عبد المحسن القطان، أو على مقربة من صور الكشافة القدماء في سرية رام الله الأولى، أو بين أرفف الكتب متنوعة الأحجام والمواضيع في مكتبة رام الله العامة، أو حيث رائحة الكعك المقدسي القادمة من المخبز المطل على “بيت الصاع” في “رام الله التحتا” (البلدة القديمة للمدينة)، فيما كانت صافرة الانطلاق من المسرح البلدي في المبنى الذي استعاد عافيته بعد سنوات من سبات، ليختتم حيث يرقد جسد “لاعب النرد”، وحيث تفوح رائحة سجائره وعطره القوي، وتسمع بين قصيدة وأخرى خفقات كعب حذائه، هنا في المتحف الذي يحمل اسمه، “محمود درويش”، الذي لم يغب عن المهرجان كما لم يغب عن حيوات وذاكرة وحكايات وقصائد العديد من المشاركين في مهرجان رام الله الشعري، فلسطينيين وعرب وأجانب.

إلى درويش
بيرجي نفسها أهدت إحدى قصائدها من “حوش قندح” إلى “محمود درويش”، لافتة في دردشة لي معها، إلى أنها كانت تتمنى أن تلتقيه ذات يوم، لكنها كانت على لقاء دائم مع نصوصه التي جعلت منه قامة شعرية عالمية، بل أيقونة .. ومما جاء في القصيدة “من أرضك التي رأتك تبصر النور إلى هذا الوعد .. ألا تجهر أيها الشاعر بكلمة الحرية المعرّاة تماماً من هذا الصمت البشري، كي تدوس رماد أكاذيبنا وصولاً إلى آخر فوهة سوداء”.

ومما قالته الشاعرة الفرنسية لروح درويش “تبقى أبداً السماء زرقاء تفيض بالأزهار في غياب يديك النابعتين من الأرض، وفي غياب هذه السكين بين قبضتي العالم .. معذرة بين ضفتين، حيث غياب الغيوم أو السراب، الكلمات هي الكلمات وفي عيوني ذكرى محيّاك .. سيبقى باب البستان موصداً”.
وفي محاكاة لبعض من نصوص درويش صدحت الفرنسية البرتغالية “من يرجع لي دار أبي وجباله الشمالية .. أبي مستغرق في سباته منذ زمن، وفمه تعلوه البراءة، لتمتد يدك متلاصقة الأطراف مولياً ضهره صوب الجبال”، مختتمة بـ”سيأتي زمن يفهم فيه معنى الحياة”.

شجرة إيفانكوفتش
وبينما كانت الأخبار تتوالى عن استهداف المستوطنين لأشجار الزيتون في موسم قطافها الفلسطيني، كان الشاعر البوسني زليكو إيفانكوفتش ينشد “في منزلي كانت تتربى شجرة”، وهي الشجرة التي “في غصونها الهزيلة سكنت الريح، وسكنها البرد، ورعشة من صلاة أمي الأخيرة”، بينما في الأرض الفلسطينية حيث أحال الاحتلال ومستوطنوه “عرس قطاف الزيتون” إلى “مآتم” في عديد المواقع، كانت الرعشات أشبه بمقدمات لنوبات قلبية، وكان الهزال يرافق خطوات المزارعين الذي يحملون “المفارش” كما أرواحهم في خطواتهم نحو الأرض المسيجة بالموت، فتسكن الريح كأس الشاي بالمريمية، وتقذف ذلك الصحن البلاستيكي الأبيض بعيداً مع قطعة البندورة الوحيدة المتبقية بعد فطور متقشف لمن سمح لهم بقطاف زيتوتنهم “تحت طائلة المسؤولية”.

المارّون بالصدفة
“كان من السهل إشعال الثلج لمنح الحب للمارّين بالصدفة” .. عبارة شعرية من قصيدة للشاعر الصربي زفونكو كازانوفيتش، عبرّت دون قصد بالتأكيد عن تلك الحالة التي خلقها مهرجان رام الله الشعري وخاصة للمارّين بالصدفة، في حين كان يقدم الشعراء قصائدهم، صباح الجمعة، في “بيت الصاع”، كان المتجهون إلى حيث الكعك المقدسي الساخن المرصع بالسمسم بالطوابير سيارات ومشاة، يتوقفون برهة أو برهات أو أكثر، لعل آذانهم تلتقط كلمة هنا، وأخرى هناك، بالعربية أو الفرنسية أو الإسبانية، بينما تطلق عيونهم تساؤلات عدة: ما الذي يجري هنا؟ .. هل فعلاً هي أمسية شعرية في الصباح، وهل تسمى صباحية شعرية مثلاً؟ .. ماذا يفعلون، وهل أحضر لهم المنظمون كعكاً مقدسياً ساخناً وشيئاً من الفلافل والزيت والزعتر؟ .. المهم في الأمر أن هذه الحالة استوقفت المارّة، وهو ما يكرّس هدفاً صريحاً من أهداف المهرجان.

سامح خضر، مدير متحف محمود درويش، الجهة المنظمة للمهرجان بالشراكة مع بلدية رام الله والمهرجان الشعري الفرنسي “صوت الحياة”، ويعرف باسم “مهرجان سيت”، كان قال لي سابقاً: المهم في الأمر هو كسر نخبوية الشعر، بحيث يتحول مع الوقت، وخلال أيام المهرجان على وجه الخصوص إلى جزء من الثقافة اليومية للجمهور في رام الله وفلسطين، بـ”أخذ الشعر إلى الشارع”، عبر تنظيم الأمسيات والفعاليات الشعرية المختلفة للمهرجان في أكثر من فضاء خاص وعام بمدينة رام الله، التي ستتحول في أربعة أيام، بأحيائها، ومبانيها، وشوارعها، إلى مدينة للشعر بامتياز.

في تلك “الصباحية الشعرية”، قرأت مايا أبو الحيّات عن الأمهات، ومهيب البرغوثي عن الموت و”عندما نتقدم في السن”، قدم الشاعر الهندوراسي ذو الأصول الفلسطينية رولاندو قطان (كتان) قصائد عدة، هو الذي كان قدم قصيدة في افتتاح فعاليات المهرجان يصلح عنوانها ليكون شعاراً للأيام الأربعة .. “حدث يتعلق بالنص”.

هندوراسي في بلده فلسطين
والشاعر رونالدو قطان (كتان)، من هندرواس، فلسطيني الأصل، تعود جذور عائلته إلى بيت لحم، وتنقل كغيره ما بين مواقع عديدة في رام الله كـ”بيت الصاع” الذي قدم فيه قصائد أكثر من مرة، والمحكمة العثمانية، والمسرح البلدي، ومتحف محمود درويش، وله خمس مجموعات شعرية، وكان فاز بجائزة “روبن داريو” للشعر، فيما ترجمت أعماله إلى عدة لغات، ومؤخراً تم قبوله عضواً في أكاديمية “هوندورينا دي لا لينغوا”، وحصل على جائزة “بريمو آل فولونتاريادو” الثقافية.

كشف لي قطان أنه زار بيت لحم والتقى بأفراد من عائلته هناك .. قال متأثراً: كان لقاء عاطفياً جداً في أول زيارة لي إلى فلسطين .. اهتزت مشاعري بما يفوق قدرتي على الوصف .. زرت بيت لحم في اليوم الأخير من المهرجان، أي قبل مغادرتي فلسطين بيوم، وكنت سعيداً بزيارة كنيسة المهد، وعائلة قطان هناك، حيث اطلعت على شجرة العائلة.

وأضاف في دردشة ترجمها الشاعر أحمد يعقوب: دائماً كانت فلسطين في قلبي .. نشأت على حب فلسطين .. في وسائل الإعلام، والكتب عندنا لا يجري الحديث عن حقيقة الاحتلال وممارساته على الأرض في وطني، لكني حين جئت، وشاهدت الحقائق التي كنت أجهلها بأم عيني، كان الحفر كبيراً في أعماقي.
وحول تأثير زيارة فلسطين على شعره مستقبلاً، أجاب: تتملكني المشاعر بشكل كبير، وعادة ما أكتب تحت تأثير الأحاسيس والمشاعر، لكني لست ممن يدوّنون اللحظة في خضم تفاعلاتها داخلي، لكني على قناعة بأن العاطفة والذاكرة مرتبطتان بشكل كبير، لذلك أنا على قناعة بأن كل العواطف التي تملكتني وتتملكني طوال زيارتي الأولى هذه إلى فلسطين ستبقى في ذاكرتي ولن أنساها، وهذا يحدث مع الكثير من الكتّاب .. تأثير هذه الزيارة كما الجروح في الجسد، وباعتقادي أنها ستزهر قصائد كثيرة.

وكان قطان صدح في حفل الافتتاح فيما يشبه النصيحة للقارئ “في اليد احتفظ بكتب الشعر، ابعدها عن الكتب الأخرى، أجعلها منعزلة حيث لا تنساها، حيث يمكنك أن تراها دوماً .. حتى لو لم تقرأها، حتى لو هجرتها، قرّب كتب الشعر إليك، بجانب سريرك، على رأسه بل في السرير ذاته، لكن أبداً ليس أبعد من ذلك .. دوماً حيث تحدث الأحلام، حيث تغلق دون خوف عينيك، قرب المكان الذي تمارس فيه الحب، قريبا قدر ما تستطيع، حيث تمارس الحب، هناك بالضبط عليها أن تكون كتب الشعر”.

وفي الدردشة يستعين قطان بعبارة لصاحب نوبل ميسلوس قال فيها بأن الشعر قادر على تغيير العالم، كما نقل عن شاعر كولومبي قوله بأن الأخبار الحقيقية التي يمكن الاعتماد عليها تجدها في الشعر، وبأن كتابة الشعر صلاة بطريقة أخرى .. وختم: أنا على ثقة بأن الشعر ليس فقط قادر على فتح قلب العالم، بل يمكن للقصائد منح العالم قلباً يخفق شعراً .. في هذا العالم يشعر البشر بكرامتهم وحريتهم، وعلينا ألا نتجاهل بأن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الكلمة لتبرير استعماره، وعلى الشعر أن يزدهر ليفضح انتهاكات الاحتلال ليس بحق الإنسان والأرض في فلسطين، بل بحق الكلمة والقصيدة.

صاحب الإكليل الذهبي
وكان من بين الحضور شعراء كبار على مستوى العالم، من بينهم المقدوني ريستو فاسليفسكي، وهو شاعر وأكاديمي وإعلامي وناقد أدبي ومترجم، يكتب بالقدونية والصربية، وله من المؤلفات ما يزيد عن ثلاثمائة عمل، كما جمع وترجم إلى المقدونية أعمالاً لكتّاب وشعراء من حول العالم، بينهم الشاعر محمود درويش، كما حصل في مشواره الإبداعي المتواصل، هو المولود في العام 1943، أكثر من أربعين جائزة محلية ودولية، من أبرزها جائزة الإكليل الذهبي التي كان حازها درويش أيضاً، وتحديداً في العام 2007، فـ”ريستو” يعد واحداً من رموز مقدونية الأدبية، وترجمت أعماله لأكثر من ثلاثين لغة.

وفي قصيدته “الجميل دومون” التي أهداها إلى محمود درويش، وكتبها خلال تواجده في مدينة رام الله للمشاركة في مهرجانها الشعري .. وأطلقها هي التي تتحدث برمزية عالية عن الفلسطينيين، من الركن الأيمن لقاعة الجليل في المتحف الدرويشي، خلال أمسية الختام، قال ريستو: “(…) يا صاحب الأقدام المجنحة، اركض نحو هذه القصيدة وامنحها الحياة، نظم مع رفاقك انتفاضة، وانهضوا، واحرقوا، واجعلوا كلماتي الأنيقة والمنمقة تشعر بالحديد والنار … واحملوني إلى المنجم الحقيقي، لأتعلم منكم سرّ الصنعة: كيف أنحت وأكسّر كل كلمة، مثلكم .. أيها العراة تحت الشمس، يا مكسّري الحجر والمرمر .. آه يا دومون يا صاحب الأقدام المجنحة، ما من إلياذة واحدة كتبت عن غضبك الشخصي”.

الحياة والموت
وكان الموت كثيمة حاضراً في العديد من قصائد شعراء المهرجان بدورته الأولى، ففي حين “يجلس” الشاعر المقدوني ريستو فاسليفسكي مع الموت على المائدة في قصيدة، ويبحث في أخرى عن قطار يحمل الأموات إلى الحياة، يخلص الشاعر الكرواتي زفونكو ماكوفيتش في قصيدته “لدينا نحن”، إلى أن العيد يوجد دوماً “على مقربة من الموت”.

وبينما كتب الشاعر الفلسطيني رائد وحش “من تخوم المجزرة”، وتساءلت الشاعرة الفلسطينية مايا أبو الحيات عن الفجوة من عنقها “إن كانت من فعل رصاصة أو كلمة”، وكتب الشاعر الفلسطيني وليد الشيخ قصيدة عن الحرب، ويتذكر في أخرى “قنابل الدخان في الانتفاضة الثانية”، حضر “الموت” بقوة في قصائد الشاعر الفلسطيني مهيب البرغوثي، ومن بينها تلك الموسومة بـ”الموت كأس الحياة”، وجاء فيها “نموت بكل هذه الوحشة هنا، وتموتون بكل حب هناك!”، كما جاء فيها “سنوقد لكم عظامنا لتفرحوا قليلاً، ولتقولوا ماتوا من أجلنا .. كل هذه الكراسي يا صديقي مصنوعة من عظامنا .. أن ترحموا موتنا قليلاً، فقد جهزت الوليمة للنار، وستكتمل بالخراب والموت”.

وفي المقابل حضرت ثيمة الحياة أيضاً، وبشكل لافت، في قصائد آخرين، فالشاعرة الفلسطينية هلا الشروف رأت أن “الحياة تراجيدية في الأغاني، حقيقية في الحقيقة، ومفتوحة الباب على نفسها في المساء، أما صباحاً، فتخرج من كل شيء إلى الضوء مخففة عن نفسها، تشمّس أطرافها مثل سجادة فوق سور حديقة”.
وجرفت “الحياة” الشاعرة الفلسطينية أسماء عزايزة، كما جاء في نصّها “مثل حجر في القاع”، كما “جرفتني أمي من فرجها، أسحل مثل ندى عن صبّارة، أو أصير شوكاً. شوكاً بجاله، بحالة ودمه وسمّه. وهو عليل. وهو بدرجة استواء عالية. بالضبط كما استوى قلبي وهو على فحم حيرتي بأمرك. هل سوّيت أمرك؟ أن ما زال يبتعد مثل نهر؟”، لكنها تختم ذات النص بعبارة “ارتوينا .. ارتوينا، قبل أن نموت وندخل الجنة”.

وكما حضرت جدلية الموت والحياة، حضرت العديد من الجدليات التي يمكن أن يتعبرها البعض متضادة أو متقابلة، ويعتبرها آخرون “لا”، كجدلية الحب والحرب، فالحب لا يلغي الحرب، كما لا يمكن أن تمنع الحرب ذلك الحب الجارف ما دامت القلوب لا تزل على قيد الحياة، فيما لم تغب القصيدة ولا الشعر نفسه عن القصائد التي قدمها الشعراء بالعربية، والفرنسية، والإسبانية، والبرتغالية، والبلغارية، واليونانية، وغيرها، كما لم تغب فلسطين، ليس في شعر الفلسطينيين، بل في شعر القادمين من مدن المتوسط الأوروبي، كاليوناني تاسوس جالاتس في قصيدته “البدوي”، وجاء فيها “(…) رأيت بدوياً يصلي ويركع بخشوع لا متناه خلف حديقة الأكاديمية، جالساً أحياناً ومتسلق على الأرض أحياناً أخرى .. ربما هو بستاني أو فلسطيني مطرود من أرضه، وربما ناج من قارب يصلح لإغراق كلاب تجار العبيد”.

إذاً، علت أصوات الشعراء على صوت قنابل الغاز المسيل للدموع في بلعين، والنبي صالح، وكفر قدوم، كما ارتفعت عن جدار اسمنتي يعكس عنصرية الاحتلال الذي حال دون مشاركة الشاعر الفلسطيني عثمان حسين من غزة، والشاعر الأردني من أصول فلسطيني طاهر رياض، والشاعرة المغربية رشيدة مدني، والشاعر التونسي عبد الوهاب ملوح، فيما منح “سكايب” فرصة لمشاركة الشاعر الفلسطيني رائد وحش من مهجره بعد الجلجلة السورية .. علت لتكرس رام الله مدينة للشعر بامتياز، فكانت رائحة الأمكنة تفوح ياسميناً وشعراً وشيئاً من زعتر وأرغفة ساخنة تنتظر الزيت الخارج لتوه من المعصرة، وروائح الشاعرات والشعراء أيضاً ومن تابعهم من موقع لآخر، كما روائح قصائدهم، فالكل “فخور أن يكون”.
________
*الأيّام الفلسطينيّة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *