نشر الروائي التركي أورهان باموق في عام 2015 رائعته “غرابة في عقلي” وهي رواية ضخمة نسبيًا، وبعدها بعام واحد في عام 2016 نشر روايته الجديدة “المرأة ذات الشعر الأحمر” أو “المرأة الشقراء” ومع أن الفاصل الزمني بين الروايتيْن قليلٌ إلى حدٍّ ما، إلا أنّ باموق استطاع أن يُحقِّق نسبة قرائية عالية جدًّا تجسّدت بصورة واقعية في حفل توقيع الرواية في شارع استقلال بميدان تقسيم في وسط مدينة إسطنبول الشهير بأنه شارع الفن والثقافة؛ حيث اصّطف القرَّاء ومحبو الكاتب في صف طويل انتظارًا لتوقيع باموق للرواية الجديدة.
النسبة القرائية العالية المتحقِّقة لأورهان باموق ومواطنته أليف شفق ليس مرجعها فقط إلى غرابة الموضوعات أو حتى اتباعهما لجماليات معينة في الكتابة بقدر ما هي معرفة وإلمام بآليات سوق النشر، فقد عدّ باموق -المتخصِّص في الفنون المعمارية- الكتابة مشروع حياته وصناعة لا يَدخِّرُ وسعًا لبذل الجهد والوقت وضخ الإعلانات في مقابل توصيل سلعته للقارئ؛ فالكتابة عنده “عملية بحث تمتدُّ لسنوات طويلة”. فَهْمُ باموق لآليات التسويق دَفَعَتْ به لأن يقوم بحملة إعلانية وترويجية ضخمة سبقت تدشين الرواية الجديدة وهذا مفهوم جديد للترويج للكتاب على اعتباره سلعة، وفقًا لنظريات التحليل الاجتماعي للأدب.
المدينة المشتهاة
قارئ أورهان باموق يلاحظ ولعه الشديد بمدينة إسطنبول بكل تاريخها القديم والحديث، حتى صارت مدينته المُشتهاة؛ يبحث عنها عبر ارتحالاته فكما يقول “لم أعد أعرف من ملامح إسطنبول سوى البوسفور ومساجدها ومعالمها الأثرية”. فصارت المدينة حاضرة باطّراد في معظم كتاباته منذ “جودت بك وأبناؤه” 1982، وبكافة وجوهها؛ المدينة المُسَالِمَة ومدينة الصِّرَاعات السّياسية والفتن والمؤامرات، والمدينة المَتاهة للغرباء، ومدينة الحُلم والأمل للقادمين من الأناضول والجنوب، وأيضًا المَدينة اللَّعْنة بقهرها لأحلام البُسطاء. إسطنبول ليست مجرد مدينة في كتابات باموق بل هي صورة مُصغرة لتركيا بكافة وجوهها، وعبرها يرصد مستقبل تركيا وهو يحفر في تعرجات وأخاديد ماضيها.
في روايته الجديدة المعنونة بـ“المرأة ذات الشعر الأحمر”، الصَّادرة عن دار نشر “يابي كريدي للنشر” 2016، يعود مرَّة ثَانية إلى إسطنبول ولكن دون أنْ يوغل في زمنها القديم، هنا يَستدعي الماضي القريب حيث فترة ثمانينات القرن العشرين وما شكلته هذه الحقبة الملتهبة على مستوى الأحداث السياسية بنشوب الانقلابات والصّراعات الأيديولوجية على الحُكم.
تدور الرواية في إطار اجتماعي وإن كان بخلفيات سياسية فالبطل الذي تبدأ به الرواية هو الصبي جام شيلك راويًا بالأنا عن نشأته في أسرة متوسطة تسكن في حي بشيكتاش في إسطنبول، لأب كان يعمل في صيدلية، ماركسي لا تربطه بالسياسة إلا حكايات مع صديقه الذي يُسامره كل مساء، وأم ربة منزل. يتمُّ القبض على الأب بعد انقلاب كنعان إيفرين 12 سبتمبر 1980، فيضطر الفتى جام وهو الطالب في المدرسة الثانوية لأن يعمل لمساعدة أمه مع الأسطى محمود حفار الآبار.
تجاوزت العلاقة بينه وبين الأسطى محمود علاقة الصداقة إلى علاقة أبوية، فصار الأسطى محمود الأب البديل، وبينما يقومان في الصباح في أعمال الحفر والبحث عن الماء، يكون الليل جامع حكاياتهما التي يرويها الأسطى محمود عن حياته وكيف صار هكذا، وعن جام وعلاقته بأبيه. وكذلك تطرّقت السّهرات لأعمال حفر الآبار في الدولة البيزنطيّة والعثمانيّة ثمّ في تركيا سبعينات القرن الماضي ويتطرق لبدايات أعمال حفر الآبار التي صحبت تشييد المدينة الجديدة، وقدوم العُمّال من الأناضول للعمل فيها. يتواصل الصديقان في أعمال الحفر، لكن الفشل هو حليفهما في العثور على الماء.
يتطرق باموق إلى تحولات المدينة القديمة التي كان تِعداد سُكّانها تقريبًا خمس ملايين نسمة، إلى هذه المدينة الكوزموبوليتية الصاخبة التي اشتهاها الغرب وتحوي أكثر من خمسة عشر مليون نسمة. لكن تمرُّ السنوات سريعًا ويفترق الصديقان بعد حادثة البئر التي تعود ذِكْرَاها والضرر الذي سببه جام للأسطى محمود وهما يلاحقانه أينما حلّ. يعمل جام بعدها في مكتبة، وفي ذات الوقت يستعدُّ لامتحان القبول في الجامعة، وفي عام 1987 يلتحق بجامعة إسطنبول التقنية، قسم الجيولوجيا، وأثناء رحلة الذهاب والإياب للجامعة يتعرّف على عائشة الطالبة في الجامعة وتنشأ بينهما قصة حبّ، يذهبان إلى السينما معًا ويتبادلان القبل.
يصير جام مهندسًا وصاحب مقاولات، وقد تزوج وصارت له عائلة، كما كان كثير الانتقال إلى الخارج بسبب أعماله. لكن تحدث المفاجأة عندما تصل رسالة تهديد من أنور، يخبره فيها بأنه أبوه، يعود جام بالذاكرة إلى علاقته بجيهان ذات الشعر الأحمر، وبعد إجراء التحليلات يتأكد من صدق ادعاء الابن، لكن الأمر لم ينتهِ فالابن أنور يتمادى في العداء والانتقام من الماضي برفع قضية نسب وتعويض عن فترة الحرمان من الأبوة.
قتل الأب-الابن
في الحقيقة لا تأتي حكاية أسطورتي أوديب اليونانية ورستم وسهراب الشرقية بعيدة عن النص؛ وإنما يتمُّ توظيف الحكايتيْن المتناقضتيْن في إظهار العلاقة الصِّراعيّة بين الآباء والأبناء، والتي تنتهي في الأولى بقتل الابن لأبيه، وفي الثانية كاد الابن سهراب يقتل أباه في المُبارزة إلا أنّ الأب رُستم يَحتال عليه، ويخبره بأنه ليس من شيم الأبطال قتل المُبارِز من المرة الأولى التي يَسْقُطُ فيها على الأرض، وتستمر المبارزة بلا انتصار لأيّ منهما، فيطلب رستم من الله أن يمنحه القوة التي كان عليها في شبابه، وبالفعل يتمكّن من شقّ صدر الفارس المِغوَار الذي هو ابنه من “تَيهمة” ابنة ملك “سمنجان”.
تتجلَّى هذه الثنائية النقيضة في العلاقة الإشكالية أولا بين جام ووالده شيلك، فبعد دخول الأب السجن تنقطع العلاقة بينهما، حتى يلتقيه مصادفة وقد كبر في السن إلا أن الشيخوخة لا تظهر عليه، وقد بدأ حياة جديدة، ثريًا، قابله جام بنفور شديد، فهو بالنسبة إليه قد مات، وإن كانت العلاقات أخذت تعود تدريجيًا إلى حين وفاته بأزمة قلبية، والغريب أن مشاعره المتجمدة تظل على حالها حتى وهو يرى الأعداد المهولة التي التحقت بالجنازة.
ثمّ تتجسد الأسطورة الثانية في صراع الابن أنور والأب جام، فأول تواصل بينهما كان عبر رسالة أرسلها أنور لأبيه جام، عبَّر فيها عن عدم احترامه له، وأنه لا يُكِنُّ له أيّ مشاعر سوى أنه مجرد أب، ثم يرسل رسالة أخرى فيها تهديد له. تنتهي علاقة أنور بأبيه جام نهاية مشابهة من الأسطورة، حيث يقتل الابن أباه.
في لحظة تعارف جام بجول جيهان المرأة ذات الشعر الأحمر في ليلة من ليالي شهر يوليو، يخبرها عن فقده للأب الماركسي، وبحثه عن أب بديل، وكيف كان الأسطى محمود أبًا بديلاً له، لكنها بعد أن عدَّدت له لآباء الافتراضيين مثل الدولة والله والمافيا والباشا ختمت بقولها “لا أحد يستطيع أن يعيش بلا أب”.
ينقل باموق صورًا متعدّدة لأوجه العلاقة المتوترة بين الآباء والأبناء، ليس فقط وفق ما دبجه من تضمينات لقصة أوديب ورستم وسهراب، بل يعرض أيضًا لحادثة حقيقية وقعت ونشرتها الصحف الصفراء على حد وصفه؛ حيث تزوج أحد الآباء بعروس ابنه بعد ذهابه إلى العسكرية. وقد سببت هذه الحادثة في انتقادات كثيرة لأورهان باموق، واتهامه بعدم المصداقية في الكتابة، وأن ما يكتبه يُخالف الواقع ولا يمتّ له بصلة، كما ذكر المؤرخ التركي مُرَاد بَرْدَقْلِي في مقالة عَنَّفَ فيها باموق على ما ورد في روايته، حتى أنه وصفها بأنها “رواية خالية من المفاجآت، وإن كانتْ تخالف المنطق والواقع”.
سنوات الجمر
تأتي الرواية في 195 صفحة (وهي أصغر روايات باموق على الإطلاق) من القطع المتوسط، مُوزَّعة على ثلاثة أقسام، لا تأخذ الأقسام عناوينَ مستقلة، وإنما يكتفي بترقيم داخلي لا يقطعة انتهاء الأقسام بل يستمر في التتابع لتكون في جملتها 43 وحدة متصلة على الرغم من الانفصال الظاهري الذي تشير إليه كلمة قسم، يتساوى القسم الأول والثاني في عدد الوحدات، فيشغل القسم الأول حوالي 22 وحدة من مجمل الوحدات والباقي للقسم الثاتي.
أما القسم الثالث فهو الوحيد المستقل والمختلف على مستوى العناوين حيث يحمل عنوان الرواية “المرأة ذات الشعر الأحمر”، والاختلاف الثاني يكمن في أنه يأتي أشبه بدفقة واحدة متتبعًا فيه أسلوب تيار الوعي، فتتداعى ذكريات جول جيهان بدءًا من لقائها الأوّل بجام قبل 35 عامًا. وإن كان ثمة تدخلات وعودة للزمن الحاضر حيث حادثة قتل أنور لأبيه جام بالرصاص، ودخول جام السجن. شخصية أنور تبدأ في الظهور مع نهاية القسم الثاني، حيث صار محاسبًا حرًّا، ثم تستمر مع روي الأم ودفعها له على أن يكتب حكايته، وأسباب قتل أبيه. يتقاسم جام وجيهان السرد بالأنا في القسمين الأول والثاني ويكون السرد بلسان جام. ثم يأتي الجزء الثالث لتروي جيهان أو المرأة ذات الشعر الأحمر.
تتخذ الرواية من سنوات الجمر التي اكتوت بها تركيا، خلفية لها، خاصة انقلاب 12 سبتمبر 1980، لما مثّله هذا الانقلاب من صدمة نفسية عنيفة مازالت أثارها عالقة في ذكريات كل من عاصر الواقعة، ويبرز باموق من خلالها الآثار النفسية والعصبية التي عانى منها الشعب غير المنخرط في السياسة من انقلاب 12 سبتمبر 1980، كما أن نبرة الإدانة لكافة الانقلابات سمة بارزة في جميع أعمال باموق.
ومع حضور الجانب السياسي إلا أن الجانب الرومانسي هو الآخر حاضرٌ في علاقة جام بجول جيهان المرأة “ذات الشعر الأحمر” التي يلتقيها صدفة مساء أحد الأيام أثناء نزوله إلى المدينة بعد انتهاء عمله في موقع الحفر، تفتح الصدفة والفضول طريقًا للحب لجول جيهان بشعرها المثير والتي رآها في ميدان المحطة، وبالمثل في علاقة جام بعائشة. يتحول جام إلى عاشق لهذه المرأة والتي بدأت تشعر بالارتياح له، وأخذت تحكي له عن ماضيها وعن زواجها المبكر وهجرت العائلة إلى ألمانيا بعد الانقلاب هروبًا من الملاحقة، ثم عودتها من جديد إلى المدينة التي لم تغادر حياتها.
وفي أثناء حديثها عن الماضي ثمة نبرة حزن شفيف تسري في الحديث بينهما، يتخللها ندم من جانبها على حياتها السابقة وهو ما يقابله تعاطف من جانب جام الذي غرق إلى أذنيه في عشقها. لم تكن مصادفة المرأة ذات الشعر هي الوحيدة بل جام نفسه كان يريد أن يكون كاتبًا، لكنه انتهى إلى أن يكون مهندسًا جيولوجيا وصاحب مقاولات، ثم رسالة أنور التي تقلب حياة جام التي استقرت بعد زواجه وعمله المتنامي في الإنشاءات.