*شوقي بزيغ نحن رحالةَ الوقت، حراسَ أعطابهِ في الخلايا وأفخاخهِ في المنافي، وسكانَ أنفسنا الغائبينْ، صوَّبتنا إلى غير مرمى سهامُ الظنون، ومالت بنا دفَّةُ العيشِ أبْعد مما أعدَّت متاهاتنا من هُوًى فنأينا بعيداً ولم نتمهّل لضفْر التفاتاتنا نحو حصباءِ ليل القرى بأكاليلَ صالحةٍ للتذكُّرِ، لم نتمهّل لوضْع النقاطِ على درب عودتنا المستكينْ ولكنْ، وقد بدت الأرض أقربَ من أن نحنَّ إليها، ارتجلنا لأوهامنا مدناً من دخانٍ مصفحّةً بزجاج الشرود المقوَّى، ورحنا نزيّن أبواقها بالصراخِ وأبراجها بالمنصّات، كيما نطلّ فرادى على موطئ سابقٍ للأمانْ قطعنا الطريقَ إلى العيش وثباً، على حدّ ما هتف المتنبي بأطلالهِ، ولكننا عند خط الدفاع الأخيرِ عن النفسِ في وهنها، لم نفكّر بأن الزمانْ دائريٌّ كما الأرضُ، لم نبتكر لمساقط أرواحنا وهْي تمعنُ في الثُّكلِ إلا قفيرَ صحارى مؤهَّلةٍ لاختراع السرابْ كان لا بد من أن نعود إذاً نحوها، نحو تلك البيوت التي أسْلمتنا طواحينها لهواء الغيابْ وها نحن نرجعُ كي نستردَّ، ظماءً و أنصافَ غرقى، ودائعنا من بريق النجومِ وحلوى النعاسِ، وما سيَّلتْه شفاه الحنان الأموميّ فوق وسائدنا من لعابْ وكي نستردّ، وقد غلبتْنا رياح الخواء على أمرنا، ما تركناه من رجْع أصواتنا عالقاً ببيوض الترابْ كان لا بد من أن نعود ولو عجَّزاً وحفاةً من الانتظارِ وصِفْر اليدينْ لندرك أن الحياة قطارٌ يسير على سكَّتينْ تُقلاّن أهواءنا وفق ما لا نخطّط: واحدةٌ للذهابِ وواحدةٌ للإيابْ ولكننا إذ تعود بنا الساعةُ القهقرى لا نكاد نرانا كأنّا نُسينا تماماً كأن الذي عاد من تيههِ أحدٌ غيرنا أحدٌ ربما كاننا ذات يومٍ ولم يعُد الآن إلا دليل تكاثُرنا في الظلالِ ونقصاننا في الصُّوَرْ والوجوه التي أُخليتْ من ملامحنا لم يعد لانعكاساتها في مرايا براءتنا من أثرْ فمن دوننا واصلتْ سيرها الأرضُ، من دوننا نشر الضوءُ نيئاً ملاءاتهِ فوق سيقان عشب السطوحِ، ومن دوننا واصلتْ عشراتُ الصراصيرِ تكرار معزوفة الليل، والصيفُ أبّنَ عريان ما أرّختْهُ أكفّ الظهيراتِ من وَفَيات الشجرْ نحن رحّالةَ الوقت، أيتامهُ وسباياهُ، مَن لوّحوا لطفولاتهم بالقناديل كي لا يحلّ الظلامُ على الضحكات التي خلّفوها وغابوا، ومن أطلقوا طائرات سماواتها الورقيةَ كيما تحلّق ريّانةً فوق أنقاض أعمارهمً وكيما تمدّ لهم مقْعدين يدَ العون، نحن الذين تعفّف دمعُ مناحات نسوتهمْ عن تبادُلِ ياقوتهِ مع مجاري المياه البعيدةِ إلا لماماً، تركنا الحياةَ إلى حالها وكبرنا بعيداً ولم ننتبه مرةً لاصطفاق السنابلِ إذ تتأوّهُ صفراءَ من لسعة الشمسِ، لم ننتبه لحرير الأغاني ومسْتنبتاتِ أنامل حمّى البلوغ العنيفةِ في عزفها المستمرّ على وتر الجنسِ، لم ننتبه لانعقاد رياحينَ فاغرة الفمِ حول تلمُّظِ نعناعها البرعميّ، ولا للأعاصير إذ تتلوّى بمفردها كالثعابينِ عند انحباس المطرْ فماذا إذاً نبتغي من بيوت الكهولةِ حين نؤوبُ إلى فيئها؟ أهْي محض افتتانٍ بما فاتنا من فراديسَ غائرةٍ في كهوف بداياتنا، أم لنجعل مما بنيناهُ مستودعاتٍ لتخزين خرْدة أعمارنا المهمله؟ أم انّا نشيّدها رغيةً في التخفُّف من ربق الأسئله؟ نحن نعرف في عمقنا أننا لن نعيش طويلاً لنشهد جدرانَها وهْي تَحفى من اللون خلف الطلاءْ وقد لا يتاح لنا أن نُعاين إلا قليلاً شحوبَ نوافذها حين تَبلى، وأشجارها وهي تكبرُ، لكننا لا نملُّ التأمُّل في ما أحطناهُ من سحرها بالكثير من الإعتناءْ ربما للإشاحة بالوجه عما يباغتُ أحلامَ يقظتنا من كوابيسَ مجهولةٍ، ربما لا نسوّرها بالحدائقِ إلا لنعصم أفكارنا من نيوب الهباءْ وكيما تُهدهد رغبتنا بالبقاءِ، وتلأم أنفاسَنا لاهثينَ ووحشتنا قانطينْ تركنا الحياةَ إلى حالها ثم جئنا أخيراً لتمشي الكهولةُ هوناً بنا وكي نتذكّر، إمّا تمادى بنا السهوُ، أن البيوت التي تمَّ تشييدُها لاحتساء السكينةِ ما هي إلا تماريننا إذ نشيخُ على فكرة الموتِ، ما هي إلا المقابرُ مقلوبةً والنكوصُ إلى مهدنا صاغرينْ وما هي، عند التخوم الأخيرة للعيشِ، إلا هدايا الطفولةِ للعائدينَ إلى أمسهمْ نادمين. _______ *الحياة