*خيري منصور
ظاهرة ما يسمى التحاسد بين الأدباء والكتّاب أو عداوة الصنف لم تكن حكرا على ثقافتنا العربية، رغم أن هناك حالات أفرط فيها البعض في النيل من زملائهم، كما في النقائض، أو بما واجه الشاعر أبو تمام من نقد يصل حدّ النقض لمحاولاته في التجديد، حين اتهم بالغموض وبقول ما لا يفهم، واستقصاء هذه الظاهرة في التراث يتطلب حيزا آخر لكثرة الأمثلة وتكرارها، لهذا نتوقف عند أمثلة معاصرة، منها رأي طه حسين بروايات وقصص البير كامو، فقد قال في لقاء متلفز أجرته الإعلامية ليلى رستم بمشاركة عدد من أشهر الأدباء في ذلك الوقت منهم، عبد الرحمن بدوي ومحمود أمين العالم ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي، إن قصص كامو تعبر عن إفلاس فكري وفني، وإنه لم يفهم ما قرأه منها باستثناء رواية «الغريب». وكان طه حسين نفسه هدفا لنقد راديكالي من هذا الطراز لعباس العقاد، لأنه قال في الحوار ذاته إنه لم يفهم عبقريات العقاد خصوصا «عبقرية عمر».
وتكرر الموقف على نحو أشد راديكالية بين العقاد وسلامة موسى، فقد أطلق العقاد على سلامة وصفا نعفّ عن ذكره، أما سلامة فقد قال إن العقاد يحسبه الشعراء على النقاد والعلماء، ويحسبه العلماء على الشعراء، رغم أن العقاد أصدر عشرة دواوين. وأذكر أن الشاعر العراقي كاظم جواد كتب مقالة عن عبد الوهاب البياتي في مجلة «الآداب» انتهى منها إلى الحكم على البياتي بأنه لولا الواوات اللعينة لما كتب شعرا، وكان يقصد تكرار حرف الواو في قصائد البياتي المنظومة على البحر الكامل. وكتبت نازك الملائكة في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» عن محمد الماغوط بأن ما يكتبه ليس شعرا، لكن جبرا إبراهيم جبرا الذي كان قد اتخذ موقفا راديكاليا من الشاعرين الجواهري ونزار قباني، وكانت مقالاته عنهما بمثابة اعتذار، رغم أن البياتي ظل متمسكا بموقفه عن جبرا، وهو اعتباره ناقدا ومترجما فقط، وليس شاعرا على الإطلاق، ولكي لا توحي هذه الأمثلة بأن العرب وحدهم من مارسوا مثل هذا الإعدام الرمزي، لا بد أن نتذكر ما كتبه تولستوي عن شكسبير، فرغم الإجماع في مختلف الثقافات حول أهمية شكسبير كان تولستوي راديكاليا حتى النقض، وأنكر على شكسبير ما كتب عنه وما ناله من مكانة في تاريخ الأدب. وهذا ما تكرر في أمريكا اللاتينية حين اجتذبت الانظار إلى ما أطلق عليه النقاد الرواية السحرية، فقد أنكر كل من بورخيس وأستورياس قيمة ماركيز، وكان رأي أستورياس أنه عديم الموهبة، وليس روائيا جديرا بالقراءة، وهذا ما كتبه جان بول سارتر عن خصمه الأيديولوجي فرانسوا مورياك، فقد كتب عنه مقالة انتهت إلى عبارة شديدة التوتر واقرب إلى النقض من النقد، هي أن مورياك ليس مبدعا، لكن في المقابل هناك كتّاب أنصفوا زملاءهم أحياء وموتى، واعترفوا لهم بالفضل ومنهم، أهرنبورغ صاحب رواية «ذوبان الجليد» الذي قال عن همنغواي أنه المبدع الأعظم في عصره، وإنه كان يقرأه كما لو أنه يتعاطى علاجا شافيا ضد الكآبة والاغتراب، وحين توفي ابنه قال أهرنبورغ إن آخر ما قرأه هو رواية و»داعا للسلاح» لهمنغواي في ليلة شديدة البرودة وكان يتدفأ به وهو يقاوم قشعريرة الروح.
وما كتبه هنري ميلر عن رامبو في كتابه «زمن القتلة» بلغ حدّ الافراط في العشق والتماهي، قال مثلا إنه لو قرأ رامبو في صباه لما كتب حرفا واحدا، وأضاف أنه كان مستعدا لأن تقطع إحدى يديه من الكتف مقابل أن يكون صاحب فصل في «الجحيم» لرامبو، وتكرر ما يشبه هذا الثناء في مراسلات ميلر ولورنس داريل.
وحن نحلل هذه الظاهرة ذات الوجهين قد نتوصل إلى استقراء سيكولوجي للمبدعين عندما يكتبون عن بعضهم، لأن منهم من تضخمت لديه الذات حتى تسرطنت وأصبح بالفعل نرسيس الذي افتتن بصورته على سطح الماء، وحين حاول الإمساك بها غرق، بعكس مبدعين آخرين لم يكن الآخر بالنسبة إليهم جحيما أو خصما بالضرورة، فاحتضنوا الأقل شأنا ورعوه كما فعل إزرا باوند، الذي قال عنه همنغواي بأن من احتضنهم باضوا كالأفاعي في جيوب معطفه.
وهناك مثال ذو دلالة تتجاوز ذلك كله، هو ما كتبه ماثيسين الماركسي عن أليوت الكاثوليكي، وهو بعكس ما كتبه سارتر عن مورياك، يقول ماثيسين رغم اختلافي الفكري مع شاعر يعلن بأنه ملكي في السياسة وكاثوليكي في الدين وكلاسيكي في الأدب، إلا إنه من أهم الشعراء عبر العصور، وبذلك عبّر ماثيسين عن مناقبية تصل حد الفروسية، ولم يجد في الكتابة عن خصم أيديولوجي فرصة للثأر أو العقاب النقدي وقد تكون الجوائز، خصوصا نوبل وما يقاربها، أحد الأسباب التي ضاعفت من التحاسد بين الأدباء، كما حدث ليوسف إدريس عندما نال نجيب محفوظ جائزة نوبل، وما رواه الناقد جابر عصفور مؤخرا حول تلك الواقعة يؤكد صحتها، فقد شعر إدريس بأن الجائزة من استحقاقه وقد سلبت منه لأسباب سياسية، أو أي أسباب أخرى.
المبدعون ليسوا حلاقين أو خياطين أو نجارين يتنافسون على الزبائن وحين ينالون من بعضهم لأسباب لا صلة لها بالثقافة فذلك أمر آخر يحتاج إلى محلل نفسي وليس إلى ناقد.