وجوه الحب الثلاثون..حين يتحول الحب الى لحظات قصيرة من الجنون

*علي حسين

تبدأ الحكاية  بلقاء رجلين ، في أمسية ماطرة، في إحدى الحدائق. الأول متخصص في علم الصوتيات  البروفيسور هيغنز . أما الثاني فهو الجنرال  بيكرينغ، المتخصص باللغات واللهجات الهندية.وأثناء حوارهما يتحدى هيغنز زميله في استخدام خبرته في علم الصوتيات، لتحويل الفتاة إليزا دوليتل، بائعة الزهور في الحديقة، الى سيدة مجتمع ، بمجرد تعليمها أناقة الحديث وأسرار اللهجة الراقية.

وإذ يقول له الكولونيل أن هذا غير ممكن، منطقياً، يقوم الرهان بين الرجلين. وعلى إثر ذلك، يتقرب هيغنز من بائعة الزهور عارضاً عليها أن يعلمها الحديث بصورة صحيحة مقابل بعض مال يعطيه لها. وهكذا يصطحبها ، الى منزله، وتبدأ التمارين على الفور، فيما يشعر هيغنز بأنه يسابق الزمن طالما أن الرهان مدته ستة أسابيع.
غير أن إليزا لم تخيّب أمل هيغنز، حيث نجدها تبدي استجابة سريعة للتعلم ما أذهل هيغنز . وهكذا خلال الفترة المحددة، تنجح إليزا في الامتحان الذي يجري لها، ويتحسّن نطقهاوطريقتها في الحديث، وسنرى إن النطق لم يكن وحده ما تحسّن لديها. وانما سلوكها ونظرتها للمجتمع ، ويصطحب البروفيسور هيغنز تلميذته إليزا ليقدمها في حفل يقيمه أحد السفراء على أساس أنها أميرة من البلاط ، من دون أن يكشف سرها لأحد، وتتصرف إليزا مثل أميرة حقيقية، نطقاً وأناقة ، وتبدو وسط ذهول هيغنز و صديقه الجنرال ، كأنها حقا تنتمي الى واحدة من العائلات الارستقراطية . ويهنئ الجنرال والبروفيسور نفسيهما بما حققاه من انتصار ، وتنتبه إليزا أن الرجلان يتعاملان معها مجرد تمثال جميل ساهما في صناعته ، ولا يحسبان حساباً لمشاعرها ، فهي خلال الأسابيع التي امضتها في بيت هيغنز ، وقعت في حبه ، من دون أن ينتبه هو للأمر ، وها هو الآن يتجاهلها كامرأة من لحم ودم، معتبراً إياها مجرد آلة أجرى عليها بعض الاختبارات الناجحة ، وتسأل نفسها هل هي مجرد دمية صنعها هيغنز ليتباهى بها أمام الجميع ، أم امرأة لديها مشاعر ومن حقها أن تحب وتعشق ، وأن تجد رجلا يهيم بها ، لكن البروفيسور يعيش في عالم آخر ، إنه سعيد بنجاح تجربته ، ولم يخطر في باله إن المرأة التي خضعت للتجربة يمكن أن تتحرك مشاعرها تجاهه ، وانها ستقرر في لحظة غضب مغادرة الحفل ، وينتبه هيغنز الى غياب إليزا ، ويكتشف إنه لايستطيع الاستغناء عنها ، وانها اصبحت جزءاً من حياته، لكن ليس كما تتمنى إليزا العاشقة ، وإنما كامرأة يكمل معها تجاربه . وعندما يخبرها بالأمر تثور في وجهه ، فها هو أخيراً لايقدر مشاعرها ، ولايفهم إنها تحبه ، فهي ليست بحاجة الى صديق وإنما الى حبيب ، وتقرر أخيراً أن تخرج الى الحياة لتواجه المجتمع بشخصيتها الجديدة ، بعد أن اصبحت تدرك جيدا إن الحب لايمكن أن يُطلب من شخص أناني .
كان جورج برنادشو في الستين من عمره حين نشر مسرحيته ” بيجماليون ” والتي استمد فكرتها ، من قصة الشاعر الروماني أوفيد “تحولات”. وفيها أن النحات بيجماليون يكره النساء، ويرى إن المرأة مخلوق كله عيوب وإنها وراء كل الكوارث التي تصيب الرجال ولم يكن موقفه هذا يحتمل المناقشة أو التغيير
لذلك أخذ على نفسه عهداً بألا يتزوج أو يفكر في النساء وقرر أن يهب حياته لفنه الذي أبدع فيه .
وبالرغم من موقف بجماليون من النساء فقد كانت أجمل تحفة فنية صنعتها يداه عبارة عن تمثال لامرأة فائقة الجمال ، ويجد بجماليون نفسه قد وقع في غرام تمثاله وأحبه حبا شديداً واصبح لا يقدر على فراقه لحظة واحدة ، كان ينظر الى التمثال وهو يعتقد انه أمام امرأة حقيقية وليس تمثالاً .
في 1898 تزوج برنادشو من تشارلوت باين ـ تاونزيند. وعلى الرغم من أن زواجهما استمر حتى مماتها في 1943، فقد قيل إنه طوال تلك الفترة التي أقام فيها شو علاقات عدة مع نساء أخريات. ومن هؤلاء الممثلة المسرحية ستيلا ـ بياتريس كامبل التي كتب لها عام 1913 القصيدة التالية :
أريد تلك الشقيّة المشرّدة كحالي
أريد سيدتي الداكنة، أريد ملاكي
أريد مغويتي بجمالها
أريد فْرِيّا بشجرة تفّاحها.
أريد الأخفّ وزنا بين مصابيح الجمال السبعة عندي
شرفي، ضحكتي، موسيقاي، حبّي وحياتي
وخلودي…
أريد إلهامي، ذنبي، حماقتي وسعادتي
ذاتي العليا، جنوني وأنانيتي
ختام سلامة عقلي وقدسيتي
تغيُّر شكلي وطهري
يا ضوئي على الطرف الآخر من الماء
يا نخلتي على الطرف المقابل من الخلاء
وحديقة أزهاري اليانعة
متعي المليون بلا اسم
راتبي اليومي
حلم ليلتي
حبيبتي ونجمتي الساطعة.
كان برناردشو يُؤْمِن بأن الحبّ الخيالي أهم من الحبّ الواقعي، فالخيال أقوى من الحقيقة ولا يمكن أن يحبّ الرجل من خلال الاحتكاك ما يقوم الأحلام الجميلة التي توحي بها النساء من بعيد. يكتب في إحدى رسائله إلى أليس لوكيت إذا كنتِ قد استطّعْتِ أن تجعليني أشعر فهل تنكرين أَنني أَفْلَحْتُ في أن أجعلك تفكرين.
************

الموت حباً
يبدو إن موضوع الحب الخالص هو موضوع يستهوي القراء منذ عصر الكلاسيكيات الشهيرة ، وانتهاء بقصص الحب الضائعة التي برعت السينما بتقديمها وكانت آخرها “تايتانيك”. ويكتب إريك فروم في كتابه “فن الحب” : إن الانسان يتوق الى الحب الضائع ، ويشغف به أشد الشغف . فما الذي كان سيحدث لو إن جولييت عاشت وتزوجت روميو ؟
في العام 2008 يكتب أريك سيغال مقالاً بعنوان “هل مايزال الحب حاضراً بقوة عند الشباب ؟” وكان قبل أربعين عاماً ، حين كتب روايته الشهيرة “قصة حب” يعيش حياة بسيطة كأستاذ جامعي يلقي على طلبته محاضرات في الأدب ، ويقرأ كل يوم فصولاً من روايته الأثيرة “ذهب مع الريح” ، ويحلم أن يصبح نجماً محبوباً من النساء مثل كلارك غيبل الذي أدى باحتراف دور “ريت بتلر” في الفيلم الشهير المأخوذ من الرواية.” لكن سيغال وهو يمسك بيد ابنته ، تساءل مع نفسه عما إذا كان في حياته إنساناً طيباً، أراد أن يقدم تفسيراً جديداً للحب الذي ظل الكُتّاب والمفكرون يضربون أخماساً بأسداس وهم يحاولون حل لغزه ، حيث لم يوفق “أوفيد” الذي ظهر قبل أكثر من ألف عام تاركاً القضاء والسياسة متفرغاً لكتابة موسوعته “فن الهوى” في أن يدرك سر العشق ، وحين عصفت الأهواء بشيخ مثل تولستوي انزوى جانبا ليسطر ملحمة الحب في “أنا كارنينا.”
ظل سيغال يشرح لطلبته ويحدثهم عن كبار الكُتّاب الذين تركوا لنا أحكامهم عن العشق . ومن خلال آثارهم نعرف أن ستندال كان مغرماً بزوجة جاره فقرر ان تكون بطلة عمله الكبير”الأحمر والأسود”، ونعرف أن د.ج.لورنس الذي كتب أعنف قصص الغرام ، لم يقبل أن يرى ضعفه سوى شخص واحد هو محبوبته ، وان شاعراً مثل لويس أراغون يضع آلاف القصائد ونحو 60 “رواية” من أجل معشوقته إلزا ، وكان مواطنه فلوبير قد قسّم الحب الى أربعة أشياء :عاطفة، وذوق، وحس ، وكبرياء .
لكن إريك سيغال لم يكن مغرماً بأراغون ، ويعترف إن الحب لايمنحك الحق بأن تصبح مجرد ظل لمحبوبتك ، ولا هو سبب للهلاك ، مثلما كتب أراغون يوماً لإلزا : “يا حبي العظيم، يا سبب هلاكي، الحب السعيد لا يمكن أن يوجد
كان الشاب الثري أوليفر باريت ، يدرس القانون في جامعة هارفرد، لم يتوقع أن تسحره الصبية الجميلة جنيفر كافيلري ، والتي كانت تدرس الموسيقى، هو ينتمي الى أسرة ثرية تمارس السياسة والاقتصاد ، بينما هي فتاة من عائلة فقيرة والدها خباز ، لكن الحب بدأ يأخذ مجراه ، ولا مكان لأن نقول إننا آسفون.
ورغم أن الأحداث تجري في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن أسرة ذلك الشاب ترفض فكرة زواجهما وتقف حائلاً دون تلك العلاقة، التي كانت تشعر كلاً من الشاب والشابة بالأمان والاستقرار والفرح ، حكاية على غرار روميو وجوليت لكن بصيغة اميركية ، الشاب يقرر تحدي أسرته فيتزوج من حبيبته ، ليجد نفسه يعيش في عوز مالي بعد أن عاش في امبراطورية مالية ، لكنه يواصل المشوار ويتخرجان من الجامعة ، وكان حلمهما أن يرزقا بطفل ، فيذهبان الى طبيب تحاليل بحثاً عن أسباب العقم ليكتشفا سراً خطيراً ، فجنيفر مصابة بسرطان الدم ، والموت يقترب منها ، إلا إنها تصر على مواصلة الحياة والحب بنفس المتعة والمسرة التي عاشتها مع حبيبها في الجامعة ، سيفرق الموت بينهما ، لكن الحب أقوى ، ولن يجعلنا نقول آسفون على أيامنا التي مضت ، وتموت جوليت الأميركية ، لكن الرواية التي لم يتجاوز عدد صفحاتها الـ 150 صفحة ترفض أن تموت فهي وعلى مدى سنوات، ظلت على لائحة الكتب الأكثر مبيعاً ، عشرات الملايين من النسخ توزع في كافة أنحاء العالم
ما السر؟ يتساءل الناقد الأدبي لصحيفة النيويورك تايمز.
الجواب : لأنها رواية بلا مغامرات ولا بطولات ولامطاردات ، مجردة قصة رومانسية مؤلفها لم يحاول أن يتبع الأساليب الحديثة في الكتابة ، لم يقترب من جيمس جويس ولا فرجينيا وولف ، وكانت أستاذته في الكتابة امرأة ضعيفة البنية اسمها مرغريت ميتشل ، كتبت على سرير المرض رواية وحيدة اسمها “ذهب مع الريح” ، وحين تشفى وتستعيد عافيتها وتتذوق النجاح والشهرة ، تنتهي حياتها تحت عجلة سيارة مسرعة .
ومثل رواية ذهب مع الريح التي كان سيغال مغرما بها ، نجده حائراً في الفصل الأول ، هل يبدأ الرواية بلحظة التعارف أ م يبدؤها من النهاية ، لتكن “ذهب مع الريح” مرشده الى هذا العالم العجيب والمدهش ، فتبدأ الرواية بلا فصل أول :”ما رأيك ياقارئي في فتاة ماتت في الخامسة والعشرين من عمرها وكانت جميلة وذكية ، أحبت موزارت وباخ وأحبتني” ، نحن أمام محاولة لإستثارة مشاعر القارئ ، وطوال صفحات الرواية يمضي المؤلف في وصف حياة الشابين ، يخصص الصفحات الأخيرة لوصف موت جنيفر بكل تفاصيله ، إنها قصيدة ألم، وليست قصة حب ، حتى أن قراء الرواية يظلون مسمّرين في أماكنهم تخنقهم العبرات ، وتخرج مجلة التايم بغلاف الرواية على صفحتها الأولى مع عنوان مثير : شباب أميركا يذرفون الدموع ، قصة حب تعيد الحياة الى روميو وجوليت .
لم يكتب سيغال رواية محكمة الصنعة ، ولم تدخله قصة حب الى قائمة الروائيين العظام ، لكنها جعلت منه لسنوات الكاتب الأكثر مبيعاً والأكثر شهرة ، يقول لمراسل التايم انه كتب رواية بسيطة جدا لكنه اعتنى بلحظات الحب والألم ، لقد كان يريد أن يقول للجميع إن الموت هو النهاية المحتومة ، ولكن رغم كل ذلك، يظل الحب هو الذي يرسم الحياة
لم تكن رواية سيغال “قصة حب” ، نموذجاً للفن الحقيقي، يبدو إن سرّ ظاهرة نجاح الرواية، الذي بدأت مؤشراته تتضح منذ صدورها، يكمن في انسانيتها وسمتها التراجيدية. فسيغال يذكّر القارئ بعدد من الحقائق البسيطة المعروفة أبرزها أن المال ليس كل شيء عندما يتعلق الأمر بالمشاعر الانسانية، وإن الحياة ليست سهلة وخالية من الهموم كما تقدمها الدعاية.وإن الحب سيظل يعيش معنا برغم كل الظروف ، وان كلمة آسف لامكان لها في مواجهة المصاعب ، بعد قصة حب كتب سيغال عدداً من الروايات أبرزها ، ” قصة أوليفر” ورواية ” رجل، أمرأة، ولد ” و ” الصف ” وكلها تدور حول ثمن النجاح وأهمية الحب، والزواج، والاخلاص الانساني، وتصور الإغراءات والضغوط التي تجعل من الصعب على الفرد أن يعيش على نحو ملائم.
في آخر حوار معه قال إريك سيغال : ” ان الحب جزء من نسيج وجودنا في الحياة ، ويجب أن نعيشه بكل تفاصيله
************

العاطفة الصادقة والمزيفة
في كتابه ” ساحرون ومنطقيون ” يخصص اندريه مورا فصلا بعنوان ” برنادشو والنفور من العاطفة التقليدية ” يكتب فيه :” الانسان العاطفي هو صاحب العواطف الصادقة ، وليس الذي يلجأ الى اصطناع عواطف زائفة يستر بها رغبة كامنة في نفسه ” ولكي نفهم ما يريد برنادشو علينا أن نعرف إن ساخر بريطانيا الشهير ، كان قد تأثر بالفيلسوف الألماني نيتشه، وظل يردد أمام النساء عبارة نيتشه الشهيرة: ” النساء يبحثن في الحب عن سعادتهن فقط “.
كان فيلسوف المانيا قد اطاحت به أمراة في الحادية والعشرين من عمرها التقاها في روما ، واستهل حواره معها بعبارة :”من أي نجم سقط كل منا على الآخر ، كان قد ترك التدريس لأسباب تتعلق بصحته المتعبة ، راح يتنقل في فنادق متواضعة بين نيس وروما ، باحثاً عن الإنسان الكامل. كان يكتب في الصفحات الأخيرة من كتابه (العلم المرح) ، يكتب الى صديقه بول ري :”حيّوا تلك الروسية باسمي فأنا متعطش لهذا النوع من البشر، وسأضع نفسي قريباً فريسة لهذا النوع من الشرك ، فأنا بحاجه إليه في السنوات القادمة “. ورغم أن نيتشه كان يعتقد إنه غير مؤهل للاتحاد مع امرأة ترغب في منح الراحة الى زوجها والبيت الدافئ المريح، لكنها تسلب وبإرادة كاملة زخم الاندفاع الداخلي للروح البطولية عند الرجل . ويكتب في مقال طريف عن الزواج أن سقراط وجد في نهاية الأمر المرأة المناسبة ، (انخا كسانتيب) القبيحة التي شجعته باضطراد مستمر على اداء مهمته العقلية حيث جعلت المنزل منفراً ، وحين كانت تطرده خارج المنزل كانت بهذه الطريقة تسهم في جعله أكبر مجادل في اثينا ، وهو يصف نفسه في ختام المقال مثل الطير الحر الذي يفضل الطيران وحيدا .
ونراه يتساءل في (زرادشت) عن معنى الزواج فتكون الإجابة إنه :”فقر الروح الذي يتشارك فيه اثنان ..آه ! قذارة النفس التي يتشارك فيها اثنان ، هذا الهناء الشقي الذي يتشارك فيه اثنان “. ويضيف : “إن ما تسمونه حباً هو عبارة عن الكثير من لحظات الجنون القصيرة ، ويضع زواجكم نهاية للحظات الجنون القصيرة تلك ويستبدلها بغباء طويل الأمد ” . عندما التقى فريدريك نيتشه بـ ” لو اندرياس سالومي ” ، فكر اكثر من مرة ان يجرب هذه الكذبة الصغيرة المهندمة ، انه الأمل في التخفيف من وحدة الفيلسوف ، وربما الرغبة في طمأنة شقيقته التي تراه غارقا في افكاره السوداوية ، والتي كانت تقول له دوما :”لابد أن تتزوج “، وكانت هذه الشقيقة تتقمص في مناسبات عديدة دور الخاطبة وتبحث له عن زوجة مناسبة ، وتضع أمامه كل اسبوع الكثير من المرشحات ، إلا أن هواجس الفيلسوف النزقة كانت شديدة الغرابة . ورغم أن الحلم بالعيش داخل منزل زوجي ظل يداعب خياله ، لكنه في عام 1877 سيكتب لشقيقته الكبرى : ” ارجوك لا تشغلي نفسك بالبحث كثيراً ، فإن المرأة الكاملة التي تناسبني أصبحت سلعة شحيحة ” . وفي رسالة أخرى يكتب لها :”إن الزواج يخلو من المعنى ، نحن نعيش لليوم ، نعيش سريعا جدا، ونعيش بطريقة غير مسؤولة ، وهذا ما نسميه تحديدا حرية ثم تتوالى الأزمات ويتوالد الكره ويصاب الأطفال بالخسارة ، ويختتم رسالته بقوله : “ينبغي أن يمنع على الانسان حين يكون عاشقاً ان يتخذ قراراً يكون ملزماً له طوال حياته”
ولم يكن البحث عن زوجة لنيتشه بالأمر السهل ، واذ كانت المشكلة عائدة في بعض الأحيان الى مظهره الفظ ، فإنها أيضا كانت مرتبطة بخجله الشديد وطريقته الخرقاء في التعامل مع النساء ، لكننا نراه في ربيع عام 1876 يقع في غرام ماتيلدا ترامبيداخ ، فتاة شقراء في الثالثة والثلاثين من العمر ، اثناء محادثة عن شعر هنري لونغفيلو . وبعد أيام فوجئت الفتاة بجملة طويلة يلقيها استاذ الفلسفة أمامها وعلى عجالة كأنه يريد أن يتخلص من أمر صعب . كانت الجملة عبارة عن عرض للزواج :” ألا تعتقدين أن كلاً منا سيكون أفضل وأكثر تحرراً لو كنا معاً مما لو كان كل منا سيفعله منفرداً ، فهل تجرؤين على القدوم معي في جميع دروب الحياة والتفكير”. سألها وهو يتلعثم ، لكنها نظرت الى شاربه الغليظ ثم اختفت ، بعدها تتابعت سلسلة من حالات الرفض المشابهة ، وفي ضوء اكتئابه وضعف صحته قرر ريتشارد فاغنر إن ثمة علاجا واحدا ممكنا : “عليك أن تتزوج من امرأة ثرية ” . ولم يخطر على بال الموسيقار الشهير ، ان المرأة الثرية الوحيدة التي كان يحلم بها تلميذه هي زوجته كوزيما . فلسنوات ظل نيتشه يخفي مشاعره نحو زوجة فاغنر بحرص تحت غطاء الصداقة ، ولم تكشف الحقيقة إلا بعد ان فقد عقله حيث كتب لها :”أنا أحبك يامعبودتي” في بطاقة معايدة أرسلها لها من المصحة .
عام 1888 اعتقد إنه وجد المرأة المناسبة “لو اندرياس سالومي” وهي حبه الأكبر والأشد إيلاماً ، فتاة جميلة وذكية ، مسحورة بفلسفته . قال لها بعد اسبوعين من تعارفهما : ” لم أعد أرغب بالبقاء وحيداً أبداً ” . كان في ذلك الوقت يعاني من مصاعب مالية ، لم يبع ايَّاً من كتبه سوى نسخاً قليلة ، وبعض المبالغ التي كان يحصل عليها من عائلته بالكاد تكفيه لحجز أرخص الغرف في فنادق بائسة وغالباً ما يتأخر في دفع الإيجار ، ولم يعد قادراً على دفع تكلفة طبق العشاء . وقد منحته سالومي في بداية علاقتهما الأمل الزائف ، رحلة الى مونت ساكرو. هناك اكتشفت رجلاً أشعث الشعر ، مثقل القلب دوماً ، شكاكاً ، وتدل هيئته على الجنون ، كتب الى شقيقته :”يبدو اني لم أعنِ شيئا بالنسبة لها أبداً”. وفي الخطاب الأخير الذي أرسله الى سالومي لم يطلب منها أكثر من شيء واحد :” أن نشعر إننا متحدان في كل ما لم تبلغه الأرواح “، ولكن حتى هذا رفضت أن تعِده به، ونراها تقرر في النهاية الارتباط بالشاعر رينيه ريلكه ، الذي أراد أن يتحرش به ويدفعه الى مبارزة من اجل تلك الخائنة الروسية .
بعد هذه الخيبات التي تركت في أعماقه جروحاً عميقة، صب غضبه على النساء في كثير من مؤلفاته. قال: ” النساء يتآمرن دائماً على نفوس أزواجهن الأكثر رفعة، يردن سلب مستقبلهم منهم لحاضر مريح بعيد عن الألم ” . في كتابه ” هكذا تكلم زرادشت” يكتب: ” يجب أن يهيأ الرجال للحرب، وأن تهيأ النساء للترفيه عن المحارب”.
وقد دفعه رفص سالومي لأن يعيش في أقصى درجات اليأس ونراه يكتب وهو يعيش اقصى حالات اليأس :”هذه اللقمة الأخيرة من الحياة كانت أصعب ما اضطررت الى مضغه حتى الآن ومازال من المحتمل ان أختنق بها ، إنني أعيش الآن في عزلة تامة ومحطماً على نحو لايطيقه إنسان ، ولو لم اكتشف الخدعة الكيميائية لتحويل هذا السماد الى ذهب ، لضعت ، انني هنا أمام أفضل فرصة لإثبات انها ليست لي ، فإن جميع التجارب مفيدة وجميع الأيام مقدسة”.
يكتب برنادشو إن :” النساء يتحدثن دائما عن العاطفة والحب العاطفي ، ولكن هذا مجرد حديث وحيلة مرسومة ، ذلك إن الهدف الأخير الذي تسعى إليه كل امرأة هو الزواج ” ونرى برنادشو يصوّر عواطف المرأة في مسرحيته ” الميجور بربارة ” على انها معادلة مقلوبة ، فالرجل هو الصيد ،والمرأة هي الصياد ، ولهذا فهي تواصل الصراع دون خوف و تردد حتى يستسلم الخصم ” إن الحب كما يؤكد عليه برنادشو هو تضحية تقدمها المرأة لقوة لاتستطيع حيالها شيئا ، انها تضحي بنفسها من أجل هذا الهدف ، وتضحي بالرجل أيضا وفي مقدمة المسرحية يكتب برنادشو :” إن العلاقة بين المرأة والرجل هي علاقة رجل الشرطة بالسجين الذي يمسك به ” .
ويضيف وهو يقدم لمسرحيته الشهيرة الزواج :” في صراع الحب ، نجد الرجل هو الخاسر دائماً بسبب أسرافه في الخيال”.
________
*المدى

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *