مخاوف القراءة في العصر الرقمي

*محمد الأسعد

حين نفكر بمصير الكتاب في العصر الرقمي الراهن، أي انتقاله تدريجياً من كونه لوحاً طينياً إلى كونه مخطوطاً، فمطبوعاً ورقياً، وأخيراً على شكل كتاب إلكتروني تحرر من أي إمكانية لإلقاء القبض عليه عند حاجز، أو عند تفتيش مكتبة أو بيت أوحقيبة، لا نفكر بهذا الجسد المادي، الورق بين دفتين، بل نفكر بالمحتوى، بالنص، لأنه هو ما يبقى بعد أن تكمل الأشياء دورتها من التراب إلى التراب. ونفكر أيضاً بنوعية هذا النص؛ هل سيبقى للنص الأدبي والفني مكان في عصر الكتاب الرقمي؟ وأخيراً لابد أن ينصرف تفكيرنا إلى القراءة بحد ذاتها، فالكتاب يستحضر فعل القراءة حتماً، وليس أفعال الكتابة والطباعة وتجليد الكتب وتزويدها بالرسوم الإيضاحية، فهل ستظل القراءة موضع شغفٍ في عصر بصري/ رقمي أيضاً، تحل فيه الشاشات والصور محل الكلمات؟
خلال متابعتي لهذه المسائل المترابطة، وما تثيره في الأوساط الثقافية، وجدت أنها تجد عناية على أوسع نطاق في عالم الثقافة الغربية، فهناك تؤلف الكتب، وتعقد المؤتمرات، وتنشغل دور النشر مثلما ينشغل الكتاب، في ملاحقة آثار التقانات الحديثة؛ وسائل الاتصال والفضاء الذي انفتح أمام مجتمعات يتسارع تحولها. لهذا اخترت أن تكون قراءتي للجوانب الثلاثة: الكتاب والقراءة، في خضم التغيرات العاصفة التي تبث تموجاتها التقانة الغربية، أي الذهاب إلى المنبع، وترك ما ترمي به على شواطئنا، وشواطئ العالم الآخر غير الغربي، إلى وقت آخر.
* * *

يتساءل الصحفي والناشر الأمريكي «ستيف فازرمان» في مقالة له عن مصير الكتب بعد عصر الطباعة، أو انقضاء عصر الطباعة المعتقد أنه بدأ مع الألماني «يوهان جوتنبرج» (1398-1468): هل الكتاب المطبوع في طريقه للانقراض؟ هل سيفوز الكتاب الإلكتروني؟ هل سيكون باستطاعة الكتّاب والناشرين وباعة الكتب كسب عيشهم؟ هل سيبقى قارئ في هكذا عالم؟ هل هناك حياة بعد انتهاء عصر الطباعة؟ وأخيراً، وبعد أن يلاحظ السرعة التي يحل بها النظام الجديد، وكيف أن الأرض تحولت تحت أقدامنا إلى رمال متحركة، يسأل ما الذي سيأتي به المستقبل؟
هذه الأسئلة وأمثالها يمكن أن نجدها لدى آخرين، فهي مما تتداوله حالة ثقافية عامة، ويبدو ألا أحد يملك أجوبة حاسمة؛ الماضي كما يقول هذا الناشر هو الأمر الوحيد الذي يمكننا امتلاك يقين بشأنه، ولكن حتى الماضي بحقائقه التي يطلقها مثل شظايا يظل موضع خلافات وتأويلات لانهاية لها. والحاضر ضبابي باعث على الغيظ، فالكثير من أجزائه تتحرك بسرعة خاطفة بحيث من المحال وصفها بدقة. المستقبل هو وحده من سيصدر حكماً ذا مصداقية، ولكنه الآن بلد غير مستكشف وغير قابل للمعرفة.
ومع ذلك يبدو المستقبل زاهراً بالنسبة للمؤمنين بعصر المعلومات الجديد، لأن وسائل الاتصالات التي توفرها الأدوات الرقمية، والبرمجيات التي تتقدم باستمرار، ستجعل النشر أكثر ديموقراطية، فتمد بالقوة أولئك الكتاب الذين تم تهميش كتاباتهم، أو أغلقت دور النشر أبوابها في وجوههم. ويرى هؤلاء أن عصراً جديداً من صناعة الكتب سينطلق، وسيحافظ الكتاب الإلكتروني على صناعة تحدّت فيها مناهج النشر التقليدية قوى ثقافية جديدة تجتاح الكرة الأرضية.
ويؤمن «روبرت دارنتون»، مؤرخ الثقافة الأمريكي، في كتابه «دعوى لصالح الكتب: الماضي والحاضر والمستقبل» (2009) أن المتضمنات بالنسبة لبيئة الكتابة والقراءة والنشر وبيع الكتاب، عميقة، لأن هنالك إمكانية أن تتوفر كل كتب المعرفة لكل الناس. على الأقل لمن تكون في متناولهم الإنترنت ومستلزماتها، ويتنبأ بأن تكون هذه المرحلة آخر المراحل في «دمقرطة» المعرفة، تلك التي انطلقت باختراع الكتابة، فالمخطوطة، فحروف الطباعة المتحركة، وأخيراً الإنترنت. ومن وجهة النظر هذه نحن نعيش في لحظة تاريخية مفصلية.
وفي هذا السياق ذاته، يقول الكاتب «جيمس أطلس» إن التقانة ما أن تُكتشف حتى يصعب إيقاف مسيرتها، ولهذا ستكون لدينا كتب إلكترونية، وتجارة طباعة حسب الطلب، والكلمة المفتاح في كل هذه المسيرة هي «التكيف» سواء أحببنا هذه الكلمة أم لا. وترى الناشرة «جين فريدمان» أن النشر الرقمي سيصبح مركز الكون، فقد تحطمت كل نماذج النشر التقليدية.
ولا ينسى «دارنتون» الإشارة إلى المأزق المركب الذي يواجه صناعة النشر. يتمثل هذا أولاً في التحدي الذي يواجه الناشرين في التكيف مع تقانات النشر الرقمية التي تحول مناهج الإنتاج والتوزيع التقليدية إلى أساليب بالية وتخفض هوامش الربح. ويتمثل ثانياً في التحول البنيوي الذي يلمّ بصناعة نشر وتوزيع وبيع الكتاب في عصر المزج والرقمنة. وثالثاً، يتمثل التحدي الأكثر إزعاجاً في التغير الواسع المحيط في ثقافة القراءة والكتابة ذاتها، إلى الدرجة التي تحوّل فيها ثقافتنا، التي تطغى عليها السرعة ويطغى ماهو بصري، القراءة إلى حاجة نافلة.
* * *
ويأتي كتاب «نهاية القراءة» (2010) للأستاذ الجامعي «ديفيد تريند» بشرح واف لهذا التحدي الثالث، من واقع تجربته مع ابنته ذات الثمانية أعوام التي كان يحبطها أن يقال لها إنها بحاجة إلى قراءة كتاب، أو عليها أن تحاول قراءة كتاب على الأقل، إلى أن وصلت بها الحال إلى أن بدأت تكره القراءة. لم يكن الأمر كما سيكتشف أنها تفتقر إلى الذكاء أو عدم القدرة على التعلم السريع، بل لأن لديها ما يسمى «مشكلة غامضة مع الكلمة المكتوبة». وهي مشكلة جعلته يبدأ التفكير بالقراءة في الثقافة بشكل عام، ويكتب كتابه هذا.
لقد تبين له أن مصدر إحباط ابنته الصغيرة هو أنها في معظم جوانب حياتها لا تحتاج إلى القراءة. فالعالم الذي تعيش فيه تتدافع فيه وتحركه الصور، ووسائط الإعلام والتقانات التفاعلية، وكلها تمتاز بالجاذبية الفائقة، وفي المتناول، إلى درجة جعلتها تشعر أن تعلم القراءة هو مؤامرة اخترعها الكبار والمدرسة.
هنا يترك الأستاذ جانباً مسألة ضغوط أنداد ابنته أو سخريات أصدقائها من عدم قدرتها على فك رموز القراءة، ويرى أن الأمر بكل بساطة يتعلق بتجربتها هي حين يبدو جزء من عالمها البصري/ السمعي خليطاً من حروف هيروغليفية. ذلك العالم المنقطع جزئياً عن لغة يأخذها معظم الناس أمراً مسلماً به.
ويصل إلى أن حدث القراءة يتم في كل مكان بطرق غير متوقعة. وأي نقاش لنهاية القراءة يتطلب نقاشاً للطرق التي يفسّر بها الناس العاديون الأفلام ومشاهد التلفاز التي يشاهدونها، والموسيقى التي يسمعون، والدمى والألعاب التي يلعبون بها. أو بالمعنى الأوسع؛ يمكننا القول إن الناس «يقرأون» وسائط الإعلام بطرق متباينة تبايناً تاماً. فهم يأتون إلى الواجهة، حين يفسرون، بتواريخ تعليمهم المتنوعة، وخلفياتهم الثقافية، ومستوى إجادتهم للأبجدية، وأيضاً أذواقهم وميولهم وآرائهم. إنهم مثقفو وسائط الإعلام، ولكن هذه الوسائط غير واعية غالباً، وتتطلب مهارات إدراكية وتحليلاً وتفسيراً وروحاً نقدية. ومثل هذا الواقع هو الذي يقف وراء القول إن ما يطلق عليه «جيل التلفاز» يمتلك مستوى من ثقافة وسائط الإعلام ما يتفوق به على جيل المطبوعات الذي سبقه. فإذا جئنا إلى الجيل المسمى «الجيل الرقمي»، نجده متقدماً على ما سبقه من أجيال نشأت من دون أن تتعرف إلى الحواسيب وشبكة الأنترنت.
هذا العالم الذي واجهته ابنة مؤلف كتاب «نهاية القراءة» كان محور تأملاته، ليكتشف في النهاية أنه عالم أصبحت فيه مسألة القراءة مسألة فيها نظر، وموضع تساؤل، أو أصبحت أكثر تعقيداً على الأقل. فيختم بالقول «نحن نعيش في عصر يمتاز بثراء وتعقيد بصريين، فيه أنواع كثيرة من المشاهد التي تتطلب«الرؤية»، وأبجديات من نوع جديد هي ما يطلق عليها«أبجديات ثقافة وسائط الإعلام».

________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *