أوجاع مايا آنجلو في «أعرف لماذا يغرّد الطائر الحبيس»

*فيصل الشهري

كتاب «أعرف لماذا يغرّد الطائر الحبيس» هو سيرة ذاتية روائية للكاتبة والشاعرة الأميركية التي تنحدر من أصول أفريقية مارجريت آن جونسون، والمعروفة بـ»مايا آنجلو»، تحكي فيه آلام وأسرار طفولتها حتى

سن السابعة عشرة.

السيرة صادرة عن دار ميلاد 2016 بترجمة متفردة ووحيدة من الشاب السعودي إياد عبدالرحمن، الذي استشعر أهمية نقل هذه السيرة للعربية لكي يستلهم الكادحون العرب التجربة ويملأوا الدنيا بنشيدهم. وقد حظيت هذه الترجمة بتقديم الإعلامية الأميركية المعروفة أوبرا وينفري.

تستعرض مايا آنجلو في هذه السيرة أهم أحداث طفولتها من سن الثالثة بكامل حرارتها وبشاعتها. وباعتبار الغلاف عتبة الكتاب وبوابته، نستطيع أن نقرأ السواد الذي يتملك الطائر ويطمس معالمه، ويحرمه حتى من عينيه. ويمثل هذا السواد العبء والمأساة التي على هذا الطائر أن يحلق بها. فهذا اللون الصامت جعله يسبح في سماء حمراء نارية أمدته بالقوة اللازمة للتمرد، والطاقة الإيجابية لكسر القيود، وفتحت شهيته لحب الحياة، فاللون الأحمر لون القوة والحب والجمال. كما أنه يُشعر مايا آنجلو ـ التي هي الطائر الذي يغرد في غير موطنه الأصلي ـ بالانتماء للمكان، ويمنحها التناغم والألفة مع هذه السماء الحمراء. وهو اللون المعمول به في النُزل الفارهة والاستقبالات الدبلوماسية عبر السجاد الأحمر.

ومن الجانب الآخر يمكننا القول بأن الأحمر لون الدماء، واهتزازات الأنا ومشاكلها النفسية، وكلتا الدلالتين واقعتين داخل هذه السيرة.

وبالانتقال للركن الأيسر السفلي للكتاب نجد شمسًا آفلة، يسطع ضوؤها في شكل حلقات دائرية وهو المعروف بالحيود فيزيائياً، الذي يحدث عندما يكون هناك انحناء للضوء عبر ثقوب محددة. ولعل هذه من الرسائل التي أرادت مايا ـ التي يعد الغلاف إجمالاً لها ـ بثها وإيصالها، وهي أن هناك إرادة لدى بعض البشر في التحكم بالضوء وحبس انبثاقه، وعندما يشاء له الظهور يكون ذلك عبر ثقوب محددة يوزعها كيفما اتفق له ذلك.

بعد ذلك يأتي العنوان بلون السلام الذي أُجتز من قصيدة تصارع العنصرية وتحاربها للشاعر بول لورانس دنبار، تأكيدًا للهمّ الأول الذي أرادت له مايا آنجلو أن لا يُشاع ويقتل. وفي سطور هذه القصيدة يبرر دنبار أناشيد الطائر المتوجع والمحبوس بأنها ليست سوى أدعية يغنيها للسماء والخلاص.

وبهذا يحكي الغلاف معركة الألوان، التي هي أساساً معركة بين جنس بشري واحد مهما اختلفت السحنات. فالأسود هو أساساً امتصاص لكل الألوان، بينما الأبيض ينمو حقيقةً من تداخل كل ألوان الطيف.

المترحلة

منذ سن مبكرة وهذا الطائر ـ مايا آنجلو ـ المرصّع بالسواد، واقع بين فكي العنصرية والتمييز، وعقدة تفوّق الأبيض، ولكنها ترفض أن تُطحن وتمزق فتحاول الانعتاق والتحليق بتغريدها. ففكرة أن تولد ملوناً، وتحديداً أن تكون مدبوغاً بالسواد، سترديك في الجحيم في ذاك الزمن.

بعد أن انتهت زيجة الأبوين وهي في الثالثة من عمرها، تقرّرَ شحنها من ولاية كاليفورينا كبضاعة زهيدة عبر القطار إلى جدتهم لأبيهم في مدينة «ستامبس» بولاية أركانسس. وفي بيت الجدة «هيندرسون» الملحق بمتجرها راقبت الطفلة تفوّق وذكاء الجدة وحفاظها على تجارتها، واقتربت من عمال مزارع القطن المسحوقين، وأنصتت لشعراء «التروبادور». وفي المتجر أيضاً شاهدت لأول مرة حمالات الصدر في سلال الغسيل مع الخادمات السود وهنّ يتبضعن للعوائل البيضاء اللواتي يعملن لديها، وشاهدت أيضاً «أطفال القمامة البيضاء» وحضرت سخريتهم من جدتها، التي قابلتها بالصمت والغليان. وتعرفت إلى السيدة التي أعارتها الكتب وعلّمتها بعض آداب الحياة.

وبعد غياب طال أمده، «أماتت» على إثره «مايا» والديها، وجدتهم أمامها من جديد، حيث انتصب والدها بضخامته المفزعة أمام متجر الجدة وبعد أن مكث معهم ما شاء من الأيام، ساقها وأخاها إلى والدتهم الجميلة، والتي تشبه «كاي فرانسيس» وتسكن في مدنية «سانت لويس».

ونزلت معهم في منزل جدتها لأمها «باكستر» صاحبة النفوذ الواسع، حتى انتقلت بهم أمهم إلى منزل آخر يشاركهم العيش فيه خليلها السيد «فريمان»، الذي تمكن أن يُلقمها رذيلته مغتصباً إياها وهي لم تكمل عقدها الثامن. حاولت الفتاة التستر على الألم ولكن جسدها النحيل لم يحتمل، وانتهت الأحداث بالعثور على السيد «فريمان» مقتولاً في إحدى الساحات وسط ظروف غامضة.

التلميذة

بعدها عادت الفتاة عبر القطار إلى جدتها لأبيها «هيندرسون» في «ستامبس»، وعملت لفترة وجيزة في منزل سيدة بيضاء، وحصلت على شهادة المرحلة الابتدائية. واستمر مسلسل التحقير لها وللونها، حتى قررت الجدة ترحيلها إلى والدتها في «أوكلاند»، حيث استقرت مع عائلة أمها، إلى أن تزوجت الأم من رجل أعمال فاضل وانتقلوا للعيش في «سان فرانسيسكو». ومكثت هناك حتى سافرت لقضاء الإجازة الصيفية عند والدها في جنوب كاليفورنيا، والذي كانت تقطن معه في المنزل خليلته «دولاريس». ومن هناك أخذها الأب معه في رحلة قصيرة إلى المكسيك من دون خليلته، التي اشتعل غيظها وغيرتها، فدار عراك بالألسن بين الخليلة والأب انتهى بمغادرة الأب للمنزل، ثم تحوّل العراك بين مارغريت ودولاريس ما تسبب بجرح لمارغريت التي خسرت الكثير من الدماء. بعدها نقلها الأب إلى منزل وضيع لجماعة من الزنوج، ومن ذلك المنزل قررت الهرب والتشرد، فسكنت شهراً كطفلة مشردة بسيارة قديمة في ساحة الخردة، وهناك تصالحت أقدامها مع الرقص، ومن ثم تواصلت مع أمها، حيث أرسلت لها تكاليف السفر والعودة إليها، وواصلت أقدامها الراقصة منحها الشهرة والمقاعد المتقدمة.

وفي سنّ الـ15 تمكنت بعزيمة وإصرار من انتزاع الوظيفة التي حلمت بها، فعملت لدى شركة عربات الكابل (المترو) مؤتمنة على صندوق الدفع واستخراج إيصال الإركاب في سان فرانسيسكو، كأول زنجية تعمل في هذه الوظيفة. إلى أن سارت بها الأحداث ووجدت نفسها أماً لطفل في سن السادسة عشرة.

التعيسة

ومن أهم الحوادث التي أوغرت قلبها واستثارت غضبها ضد تحقير لونها ودمامتها ووضعتها في مواجهة العنصرية وألزمتها بالانتصار لتعاسة هذا اللون، وجعلها تصل إلى الشك في حقيقة بشرية البيض، ما يلي:

ـ دفن عمها (الذي تشوهه العاهات الجسدية) بأكياس البطاطس والبصل في متجر والدته، حتى لا تصل إليه أيدي شباب «الكلان» الذين يبحثون عن رجل أسود اعتدى على امرأة بيضاء. إذ كانوا يسحقون كل ما يجدونه أسود في طريقهم حتى لو لم يكن هو الجاني.

ـ إن ذوي البشرة البيضاء في «ستامبس» يحرّمون على الزنوج تناول بوظة الفانيلا «البيضاء» طيلة العام، ويسمحون لهم بذلك فقط في يوم العيد الوطني. أما بقية الأيام فهم مرغمون على تناول مثلجات تشبههم «بنكهة الشوكولاتة».

ـ إن السود لم يكن مسموح لهم بالمشاركة في الرياضات. (لذا حلّت فرحة عارمة على جميع الزنوج عندما انكسر هذا القيد، وأصبح شاباً أسود بطلاً للعالم في الملاكمة).

ـ كلمة الرجل الأبيض التي ألقاها في حفل تخرجها في المرحلة الابتدائية، وبدلاً من أن يحفّزهم أخذ يقلل من شأنهم وحظوظهم أمام البيض.

ـ عندما أوجعها سنها وكان واجباً خلعه تعذر الطبيب الأبيض من وضع يده في فم زنجيه، مفضلاً وضع يده في فم كلب عوضاً عنها، ليتركها تكابد ألم سنها ولونها سوياً.

الناضجة

كما يمكننا إجمال الأحداث والأشياء التي ساهمت في إنضاجها المبكر، وصنعت منها قدوة وقدمتها للعالم كصوت نسائي ثائر ضد العنصرية في الأحداث التالية:

أولاً: متجر الجدة، الذي كان بمثابة المدرسة المفتوحة تلقنت فيها صنوف الفهم وشاهدت خلالها ألوان السلوك.

ثانياً: الجدات، وكانتا (جدتاها لأمها وأبيها) تشتركان في الانضباط والقوة والسطوة والمال والذكاء والإصرار، ولعل أكبر ما استمدته منهما هو الإصرار على الحياة الكريمة والثقة بالنفس. ومن أعظم كلمات التحفيز التي كانت تقولها لها ولإخوتها جدتها لأبيها:

ـ «جميع الأطفال الآخرين ينظرون إليكم كقدوة».

إضافةً إلى سلسلة الوصايا والحكم التي كانت تغسلهم بها ومنها:

ـ «ليس بوسع الأنقياء أن يعرفوا متى تتسخ أرواحهم، ولذا عليهم أن يغتسلوا مراراً».

ثالثاً: حادثة الاغتصاب، فقد ألزمتها هذه الحادثة أن تبقى قوية وألا تضعف وألا تشعر بالنقص. فكل ما كانت تخافه وتحافظ عليه كفتاة ضاع منها فلا خوف عليها بعده.

رابعاً: الترحال، غلب على طفولتها السفر من مدينة إلى أخرى فلا يزين لها المقام حتى تشد الرحال، وهذا منحها مزايا السفر الثقافية والاجتماعية والترويحية.

خامساً: تجربة التشرد، وهذه وحدها وإن كانت لفترة قصيرة لا تتجاوز الشهر، لكنها أوكلتها لنفسها، وجعلتها تواجه مصيرها الذي اختارته وتتحمل كامل عقبات قرارها، فشحذتها التجربة داخلياً وشدت من بنيانها وعجلت باستوائها. سادساً: دمامتها، بعدما أوقعها حظها المتدني من الجمال في الشك بأنوثتها وحقيقة كونها امرأة، وأخذت تختبر هذا الشك، وأفاقت على بطن مستدير يسكنه طفل يسير نحو الحياة، حتّم عليها ذلك أن تصبح أماً. وقد نجحت في هذه المهمة بسن مبكرة.

سابعاً: الأدب، قراءة الأدب التي لازمتها طيلة طفولتها جعلتها أكثر إدراكاً وأعلى وعياً وأجدر بتحمل المسؤولية، فالحياة والتجارب والخيال والمشاعر التي تضمنها الأدب منحتها حياة موازية تتلمذت فيها. وبدا واضحاً أنها نالت كفايتها من القراءة من خلال أسماء الكتب والروايات التي ضمّنتها في هذه السيرة.

ثامناً: الرقص، وهنا يسعنا القول أن أقدامها النحيلة المغموسة في الفازلين جعلتها تحت الأنظار وجالبة لدهشة المترقبين لخطواتها.

المبدعة

وفي هذه السيرة الروائية التي سردت بشكل متسلسل ونفس سريع لا تتوقف فيه الأحداث، والفضل يعود في جماليات السرد للقراءات الأدبية الواسعة التي تنعمت بها مايا آجلو، نجحت في تصوير حياة كل الأطفال المفلسين والمراهقين الزنوج في أميركا، وليس حياتها وحدها. تلك الحياة القاسية والملأى بالنظرة الدونية لكل ما هو أسود، فهي إعادة لما تعرضت له هي ومثيلاتها في ثلاثينات القرن الماضي من تمييز وعنصرية، والمحاكمة وفق اللون.

وقد نجحت مايا آنجلو في أن تولد من جديد، لتنجو من النهايات الموجعة، فجاءت للحياة كما تذكر ومعها البدائل التي تعينها على المجابهة، فخلعت عن نفسها عباءة الذلّة والمهانة التي ألبسها لها المجتمع الأبيض، وهي في طريقها لتشكيل وإعادة إعمار نفسها سلخت عنها كل الأوساخ التي قذفها بها مجتمعها، وصرخت في وجه كل ما هو تراتبي بغيض معلنة للعالم عن الضوء الذي بداخلها.

هي والطائر

اشْتَهَرَت مايا أنجلو، وذاع صيتها، بعدما نشرت مذكراتها سنة 1969 تحت عنوان «أعرف لماذا يغرد الطائر الحبيس». وكان هذا الجزء الأول من سلسلة من سبعة أجزاء لسيرتها الذاتية، التي سردت فيها معاناتها، ومآسيها خلال مرحلة الطفولة في جنوب الولايات المتحدة في حقبة الثلاثينيات.

وتحظى أنجلو باحْتِرام كبير، وذلك باعْتِبارها المتحدث الرسمي للأميركيين السود. وتعتبر أعمالها بمثابة جبهة الدفاع عن ثقافة الأميركيين الأفارقة. ورغم محاولات حظر كتبها من بعض مكتبات الولايات المتحدة، تم استخدام أعمالها على نطاق واسع في مدارس، وجامعات العالم، كما تم وصف الأعمال الكبرى لمايا أنجلو بأنها سير ذاتية روائية، غير أن العديد من النقاد اعْتَبَرَوا هذه الأعمال مجرد سير ذاتية.

وعند اخْتِيَارها للعنوان، لجأت مايا لبول لورنس دنبار، وهو شاعر من أصل أفريقي. واقْتَرَحَ عليها آبي لينكولن مطرب الجاز، والناشط المدني هذا العنوان من قصيدته «التعاطف»:

أعرف لماذا يغرد الطائر في قفص، وهو يتوجع،

عندما تظهر رضوض جناحه، وقرحه في صدره،

عندما يضرب القضبان، ويريد أن يصبح حراً؛

فهي ليست أنشودة للفرح، أوالغبطة،

ولكنها الصلاة، التي يرسلها من عمق قلبه،

لكنها النداء، الذي تصاعد إلى عنان السماء، وهو يحاول الهروب

أعرف لماذا يغرد الطائر في قفص.
________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *