منذ صدوره قبل مائة عام، ظلّ إعلان وعد بلفور يتكرر كل صباح، نشيدا أسود، على أبواب بيوت الفلسطينيين داخل وطنهم، وفي منافيهم، وتحت شبابيك العرب، دون توقف.
في مثل هذا اليوم أعلن بلفور وعده الجائر، وإن كان حمل اسمه، إلا أن وراء الوعد والتحضير له، قوى كثيرة، مهّدت الطرق كلها، وقاتلت من أجل أن يتحقق، وفي النهاية كان لا بدّ لبلفور أن يذيّله بتوقيعه. وعلى الجانب الآخر، كان هنالك الضعف والهزال، والدول المريضة، والحياة السياسية المنهكة، والجهل، وذلك الإيمان الأعمى الذي يتحصّن خلفه أصحاب الحق، وهم يطمئنون أنفسهم، مسلَّحين بمقولة: أن الحق لا بدّ أن ينتصر.
كان يمكن أن ينتهي وعد بلفور، ويموت في اليوم الذي ولد فيه، كما ماتت قرارات دولية أكبر، وكما ماتت توصيات، وتصريحات، ومخططات أعدَّت في السرّ وفي العلن؛ لكن كل ما أحاط بالشعب الفلسطيني، من داخله ومن خارجه، كان يعيد تجديد صدور الوعد المشؤوم بلا توقف، ويمدّه بأسباب الحياة اللازمة لكي يتحقق، بل ويُنتج وعودًا بلفورية، ستحمل أسماء أخرى،ولكنها تنتمي وراثيا إلى الوعد الأول، رغم اجتهاد أصحابها في البحث عن مسمّيات مبتكرة لها:
انقسامات القيادات الفلسطينية، المتمثلة في صراع العائلات الكبيرة، خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، كانت تمهد الطريق لتحقق وعد بلفور.
سرقة ثورة الشعب الفلسطيني الكبرى عام 1936، كانت وعد بلفور. الثورة الفلاحية التي أجبَرت كثيرا ممن يرتدون طرابيش الباشاوات أن ينحنوا لرياحها في المدن. سرقة هذه الثورة والالتفاف والتآمر عليها داخليا وعربيا، مهّد الطريق لبلفور ووعده،حين تحالفت الطرابيش مع الأنظمة العربية، رؤساء وملوكا.
في اليوم الذي توقفت فيه ثورة 36 ، تحت ضغط وعود عربية مزيفة، ولِدت النكبة وتحققت، وليس في عام 1948، ووجد وعد بلفور الكمية الكافية من الهواء لكي يتنفس، ويعيش، بمجرد انتهاء الثورة. إن إنهائها بتحالف رسمي عربي، كان أول تدخل سافر للأنظمة العربية ضد حرية فلسطين واستقلالها، ودعما مباشرا لأعدائها.
كان إعلان قيام دولة صهيونية بعد ذلك، نتيجة من نتائج إنهاء الثورة، لكن النكبة كانت بحاجة إلى تدّخل جراحي أخير، لا لإنقاذ فلسطين، بل لإتمام مراسم تسليمها للصهيونية، حين تحركت جيوش عربية لدول مُستعمَرة، من الإنجليز بشكل خاص، لتحارب وعد الإنجليز لليهود بإقامة وطن قومي لهم!
وكان على الفلسطينيين البسطاء الذين صودرت أسلحتهم من قبل الجيوش العربية الزاحفة أن يصدّقوا، رغما عنهم، أن دبابات هذه الجيوش وطائراتها، ستحقق على الأرض نتائج لا تستطيع بنادقهم العتيقة ورصاصهم القليل تحقيقها!
مطاردة الفلسطينيين، وسحقهم في الخمسينيات في أماكن لجوئهم، وفيما تبقى من وطنهم، كان وعد بلفور جديد، وحرب حزيران التي جاءت لتسليم ما بقي من أراضي الفلسطينيين، ومناطق شاسعة من الأرض العربية للدولة الصهيونية، عززت وعد بلفور ببنود جديدة، تشمل ما لم يشمله من أراض.
كل محاولات سحق الثورة الفلسطينية، والمجازر التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين، حدثت لتكريس وعد بلفور، ووقوع الثورة الفلسطينية نفسها في مستنقع تمييع الحق، وطرح المبادرات لإيجاد حلّ عادل للقضية! كانت وعودُا تعزز في جوهرها الوعد المشؤوم، هذه المحاولات التي ظلت تتردد ويدافع أصحابها عنها، إلا أن تم تكثيفها في وعد جديد مقيت، هو اتفاقية أوسلو، التي هي وعد بلفور جديد، ما كان يمكن أن يتحقق إلا بعد سرقة انجازات الانتفاضة الأولى وانتصاراتها، سرقة أعظم ثورة شعبية في تاريخ الفلسطينيين منذ ثورتهم المسروقة الأولى عام 36.
كان الشعب الفلسطيني قد استطاع لأول مرة في تاريخه أن يوجد مؤسساته البديلة عن مؤسسات الاحتلال، وأن ينجح في تنظيم ثورة طويلة، تستمر سنوات، لكن، لا البلافرة الجُدد! ولا الدولة الصهيونية، ولا تلك القيادات الفلسطينية التي وجدت نفسها بعد بيروت، أسيرة المنافي، في العواصم القريبة والبعيدة، كان يمكن أن يقبلوا بهذا. كل هؤلاء، كانوا يدركون أن الانتفاضة استطاعت تجاوزهم، وتجاوز بلفور والبلفورية، وما كان من الممكن أن يسمحوا لها أنت تنتصر.
اتفاقية وادي عربة، وقبلها بكثير اتفاقية كامب ديفيد، تصديق على وعد بلفور وتوسيع سافر لبنوده.
الأنظمة العربية التي كتمت صوت كل من وقف إلى جانب فلسطين، وقضيتها العادلة، ولاحقته؛ الأنظمة التي أعلنت الأحكام العرفية، وأحكام الطوارئ، لأنها بحاجة للهدوء، كي تتمكن من التخطيط والإعداد الحقيقيين، لتحرير فلسطين! كانت تضع توقيعاتها بجانب توقيع بلفور وتعلن مباركتها لوعده، كلما اعتقلت مناضلا، أو عذبته، أو نفته، أو قتلته، أو حرمته من العمل والسفر والتعليم.
كل ما حدث بعد ذلك من تدمير للحياة المدنية العربية، بأيدي الأنظمة العربية أو الأنظمة العالمية الحليفة للصهيونية، أصبح اليوم، في طموحهم، الخطوة النهائية لكي يبلغ وعد بلفور مداه.
قبل ثلاثة أعوام، كتبتُ هنا، في هذه الصفحة، مقالا كان عنوانه، صهينة العالم العربي، طبعًا أعني الأنظمة، ولكنني لم أتخيل أن تهزم هذه الأنظمة خيالي، وأنا أراها اليوم تتجاوز كل حدود الخيال، انبطاحا، وتذللا، ورهنًا لمصائر شعوبها، ومقدّرات هذه الشعوب، وثروات الأوطان، من أجل نيل رضا هذه الدولة اللقيطة.
مائة عام عمر وعد بلفور، ومائة عام هو عمر الهوان العربي، والخراب العربي الذي اتسع ليَلْتَهِمَ البشر والحجر والمستقبل إلى زمن طويل، تحميه دكتاتوريات بوجوه كثيرة وقلب أسود واحد.
مائة عام، شهدت حروبًا عالمية، وزوال إمبراطوريات، ومولد أخرى، وموت طغاة أرعبوا العالم، لكن حقيقة واحدة ظلت حيّة، هي قدرة الشعب الفلسطيني على التجدد، والحياة، التي تنبثق دائما من قلب أشد الظروف سوادًا.
هل ثمة أمل..؟
– إيه، في أمل، كما غنّت فيروز، وغنّينا معها.
_______
*القدس العربي