رغم مرور أربعة قرون كاملة على رحيله، لا يزال الشاعر والكاتب وليم شكسبير حاضراً بقوة في مختلف تجليات المسرح العالمي، ولا يزال شكسبير عند البعض يبدو وكأنه كتب خصيصاً لقرننا الحالي أو الذي سبقه مباشرة، ولا تكاد تخلو أعمال أي مخرج مسرحي عربي من عمل مأخوذ من إحدى روائع الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي الشهير، وعادة ما يكون هذا العمل إما إعادة قراءة لمسرحية من مسرحيات شكسبير، أو تمثيلها كما هي، فما السر الذي يجعل شكسبير حاضراً بقوة إلى هذا الحد؟، ولماذا هذا الشغف الكبير في الوطن العربي باستعادة شكسبير مسرحياً؟، وهل كان شكسبير يكتبنا كعرب في ما تركه من إرث مسرحي؟.
إن أفق تلك الأسئلة مفتوح على تحليلات وإجابات كثيرة ومختلفة، يرجع بعضها تلك الاستعادة؛ وذلك الحضور الشكسبيري البارز إلى أن شكسبير حين كتب ما كتب من أعماله المعروفة، كان يفعل ذلك وهو يستحضر كونية القيم الإنسانية التي يجسدها أبطاله، وبالتالي صارت نصوصه مفتوحة باستمرار على إمكانية إعادة التجسيد مهما اختلفت الجغرافيا الثقافية المحتضنة لها، عن البيئة الثقافية البريطانية التي أنتجت أعمال شكسبير وكانت إطاراً لها.
غير أن البعض يرجع انتشار شكسبير إلى أمور أخرى مرتبطة بانحيازه الدائم للسلطة وتمجيده لقيمها المتفوقة المتحكمة، وهو ما أدى إلى إطالة عمره الثقافي؛ لأنه بدا في كل عمل يمثل له في أي مكان في العالم خادماً للديكتاتوريات، التي تحتكر الثقافة والإعلام، وتسخرهما لمصالحها بالتعاون مع فئة من المثقفين تجيد ذلك.
وفي إطار هذين الرأيين المتناقضين يبقى شكسبير شاعراً ومسرحياً متمكناً جداً من ناصية اللغة ومطوعاً لها، واستطاع بمزيج من الشعر والصور المسرحية، أن يبني شخصيات شكلت وتشكل نسقاً للفرجة ما زال يحتفظ بألقه حتى اليوم.
«الخليج» في إطار بحثها بما وراء ألق شكسبير المستمر حتى اليوم، استطلعت آراء نخبة من المسرحيين من النقاد و المخرجين والممثلين والباحثين حول شغف استعادة شكسبير.
أسامة حلال مخرج سوري ثائر على التصنيف الضيق، يعد نفسه في تقديمه لها من المنتمين للعالم كله؛ بل يذهب أبعد من ذلك حين قال إن وطن الممثل هو المسرح، أسس فرقة «كون» المسرحية في لبنان، وتضم جنسيات مختلفة، سورية، لبنانية، فرنسية، وغيرها، يرى أسامة انطلاقاً من اعتباراته التصنيفية تلك لمسرحه أن شكسبير يشكل بالنسبة لأي مسرحي عربي حصان طروادة الذي يختبئ فيه، ويقدم من خلال النقد لكل مستويات تحكم السلطة بكافة تجلياتها في الإنسان العربي أينما كان، ويعد أن سر استعادة شكسبير هو أنه كتب نقداً فائقاً لكل ترسيمات السلطة أبوية كانت أم سياسية، وأنه فعل ذلك بطريقة مفتوحة على المطلق؛ بحيث أتاح للمخرج العربي الذي سيأتي بعده أن يستغل فضاءه المسرحي؛ لكي يمارس دور المسرح الديمقراطي التنويري، وإن تخفى خلف قصص شكسبير ورموزه.
ويؤكد حلال كذلك، أن شكسبير ليس مناسباً فقط ولا مستعاداً من العرب، وإنما هو يستعاد في عدة أماكن من العالم مختلفة ثقافياً جداً، يقول أسامة: هو يستعاد في تشيلي ليعبر عن الثورة في تشيلي، ونفس الشيء تجده في اليابان المختلفة عن تشيلي جغرافياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً، في فيلم «ران» للمخرج الياباني المعروف أكيرا كوروساوا المأخوذ عن مسرحية الملك لير، ويخلص حلال من ذلك إلى أن شكسبير صالح للمنطقة العربية؛ لأنه كتب عن قيم مناسبة لكل منطقة مهما اختلفت هويتها.
وفي تجربة مميزة جداً مرتبطة بهوية مختلفة ثقافياً هي الأخرى، وفي منطقة الخليج العربي، يحكي الممثل الكويتي نصار النصار عن حكاية استعادة شكسبير هناك؛ حيث عمل مع المخرج سليمان البسام الكويتي- البريطاني، وهو عضو في جمعية ملكية بريطانية متخصصة في فنون شكسبير، اشتغلت على عرض «الليلة الثانية عشرة»، الذي تحول بإعداد البسام إلى عرض بعنوان «ودار الفلك»، ويقدم ذلك العرض حكاية تدور في دولة عربية «افتراضية» يحكمها نظام يحرّم كل أشكال الفنون ومن بينها المسرح، إلّا أن هذا النظام يحاول تحسين صورته وإظهار انفتاحه، فيكلّف مخرجاً مسرحياً كان أصلاً محترماً وصاحب مبادئ، ثم أصبح مدجّناً وموالياً للنظام بأن يعيد تركيب مسرحية «الليلة الثانية عشرة» المحظورة منذ ستينات القرن الماضي، وبطبيعة الحال يفشل المخرج في تنفيذ فكرة النظام؛ بسبب تقيده الحرفي بلائحة المحظورات.
ويعد الممثل نصار عرض «ودار الفلك» مناسباً جداً للوضع الحالي المعاصر لمجتمعاتنا العربية وما تعانيه من مشكلات سياسية واجتماعية، واستخلص نصار من تجربة البسام أن نصوص شكسبير هي نصوص متطورة، وأنه لا يجب المحافظة على شكلها، بقدر ما ينبغي الأخذ بفكرتها فقط.
ويتسق نصار النصار مع الفكرة التي تمجد شكسبير في رؤيته البعيدة المدى، وشرح ذلك قائلاً، إن سر بقاء نصوص شكسبير صالحة لنا وكأنها كتبت خصيصاً لواقعنا العربي، هو أنه حين كتب ترك لنا بعداً ثانياً وثالثاً ورابعاً كي نكتشفه.
فرضية ارتباط شكسبير بظروفنا العربية الحالية، وهل كان كأنه يكتبنا، يعمقها من وجهة نظر تنبع من اشتغالاته الأدبية الأكاديمية مصطفى آدم أستاذ الأدب الإنجليزي، حين يحكي عن الأسئلة الوجودية التي تطرحها مجمل أعمال شكسبير وخصوصاً في التراجيديات والمسرحيات التاريخية، هي أسئلة في صميم الوجود الإنساني العابر للجغرافيا وللزمان، ويضيف مصطفى آدم مدللاً على ذلك بأمثلة من مسرحيات شكسبير، إن «هاملت» تطرح حتى الآن أسئلة لا زالت حية ومباشرة وتعني الإنسان بمطلقه،
و«ماكبث» تتحدث عن السلطة بمطلقها، وعن النزوع المدمر لامتلاك تلك السلطة، وليست محصورة في المملكة الاسكتلندية فقط.
ومن هنا، يقول آدم، تأتي عالمية شكسبير، واستعادته عربياً في إطار أسئلته المطروحة علينا وفي واقعنا الحالي تحديداً، ويرى آدم أن الوطن العربي محاصر حالياً في وجوده كوحدة ثقافية ومكانية تاريخية، وهو معرض الآن للتفتت، وبالتالي يصبح للأسئلة الشكسبيرية مبرراتها المفاهيمية.
تلك النظرة التي صاغها من سبقت الإشارة إليهم من ممثلين ومخرجين وأكاديميين، التي تربط استعادة شكسبير عربياً بملاءمته لواقعنا الحالي، لا يبدو أنها مسألة محسومة عند البعض الآخر، فالدكتور غانم السامرائي المختص في الأدب المقارن، والباحث في الأدب الإنجليزي والترجمة الأدبية، يرفض أن يكون الواقع الذي عبر عنه شكسبير متماهياً مع الواقع العربي الحالي، ويرى أن استعادة شكسبير عربياً تتم من منظور أدبي صرف؛ وذلك لأن شكسبير اعتمد في كتاباته على سجل وإرث تاريخي كلاسيكي يختلف كلياً في البناء الثقافي عن نظيره العربي، ويضيف الدكتور غانم، إنه برغم المحاولات التي تجري لإسقاطات سياسية لشكسبير على واقعنا، إلا أن ذلك لا يعد الاتجاه السائد، وكل التفاعل في الوطن العربي مع شكسبير هو من باب التفاعل الثقافي ليس إلا.
وعن سر الشغف باستعادة شكسبير من قبل المخرجين المسرحيين العرب، يرى الدكتور غانم بأن ذلك ارتبط من جهة بتأثيرات المركزية الغربية على الأطراف التي من بينها الوطن العربي؛ إذ تقلد الأطراف غالباً ما ترى المركزية الغربية في بعدها الثقافي بأنه الأفضل
والأجمل وهذا ما تحقق في حالة شكسبير.
لا يمكن الإجابة عن سؤال استعادة شكسبير عربياً وارتباطه بمدى ملاءمته لواقعنا ببساطة وبطريقة انطباعية، هكذا يختزل المخرج الكويتي ناصر كرماني المسألة، ويذهب أبعد من ذلك؛ إذ يقول إن السؤال الآنف الذكر أخطر من أن تتم إجابته انطباعياً، وأنه يحتاج لدراسة مسحية شاملة تأخذ شريحة من المسرحيات التي تعاملت مع نصوص لشكسبير، ثم نحدد الزمن الذي أنتجت فيه، ثم ندرس الإسقاط الذي تم في إعداد النص على واقعنا العربي، لكي نحدد بعد ذلك بشكل أكاديمي إجابة محتملة لذلك السؤال.
ويرى كرماني أن أغلب الفنانين العرب حين يشتغلون على مسرحيات لشكسبير، هم يفعلون ذلك؛ لأنهم يريدون نصاً مشهوراً يتمسحون به.
طرح آخر ورؤية مختلفة عن كثير مما يسود في أوساط المسرح والأدب العربيين عن شكسبير، وهوس استعادته ليشكل تفسيراً لأزمات الواقع العربي المعاصر؛ ذلك ما يجسده الناقد والمخرج المسرحي الشاب خالد رسلان؛ إذ لا يتردد رسلان في اعتبار مسرح شكسبير في معظمه كان ممجداً وحليفاً للسلطة، وعدواً وغير صديق بالمرة للشعب وللجماهير المتطلعة للتغيير، ويدعو رسلان إلى أن يطرح أي مشتغل عربي على نصوص شكسبير أسئلة يراها تأسيسية لأي عرض موجه للعرب وهي: ماذا ستقدم؟ ولماذا تقدمه؟ ولأي جمهور ستقدمه؟.
ويرى رسلان أنه لا بد من فهم وقراءة الظروف التاريخية التي ظهر فيها شكسبير، وكذلك البيئة الطبقية التي ينتمي إليها، كي يستطيع أي مخرج فهم نصوصه وخلفياتها قبل أن يقدمها للجمهور العربي، ويخلص رسلان إلى أن شكسبير الذي ظهر في عصر تحول سياسي وفكري في أوروبا، كان ربيب السلطة الملكية وصوتها آنذاك.
وشدد رسلان على أن المخرج المسرحي العربي لا بد أن ينظر من زاوية مراكز القوى في الدراما لشخصيات شكسبير، ولا بد أن يتصرف فيها انطلاقاً مما يريده هو لا ما كان يروج له شكسبير، فلا يعقل، يقول رسلان، أن نقدم «عطيل» مثلاً على أساس أنه عربي أهوج همجي ولا يمتلك سوى قوة جسدية كما صوره شكسبير؟، ولا يعقل أن نقدم مسرحية «يوليوس قيصر» في عز ثورة يناير في مصر، وهي تمجد الحاكم قيصر وتزدري الثوار وتصورهم على أنهم من مشعلي الفوضى.
ويؤكد رسلان أنه من زاوية أدبية صرفة ليس ضد أن يقدم شكسبير مسرحياً في الوطن العربي، لكنه يشترط لذلك أن يقدم في معاهد وكليات المسرح الأكاديمية كنوع من الدراسة النظرية والتطبيقية، أما حين ننفتح على جمهور خارج الإطار الأكاديمي فعلينا يقول خالد رسلان، أن نؤسس إجابات واضحة للأسئلة الآنفة الذكر.
يمكننا بعد كل تلك الآراء ونقائضها الوصول إلى نتيجة محددة ومختزلة وهي أن وليام شكسبير سيظل كما هو في الأصل لا ينتمي إلى ذهنيتنا العربية مهما بدت بعض القيم التي يطرحها من خلال أعماله كونية إنسانية تجمعنا بباقي البشر، وربما لهذا علينا قبل أن نفكر في طرح أسئلة حول شغف استعادة شكسبير، وما يمثله مسرح أو أدب شكسبير من مطابقة لهمومنا وواقعنا الحالي، أن نسأل سؤالاً أعمق: هل حقاً يمكن عولمة التجربة الثقافية وفصلها عن سياقاتها التاريخية المحلية لتصبح نموذجاً إنسانياً يتم تداوله عبر العالم ولو بقراءات مختلفة في الجزئيات؟؛ ذلك هو سؤال جدوى استعادة شكسبير في مسرحنا العربي.
_________
*الخليج