«صخرة بيتهوفن» … أزمة الخلاص الفردي

*يسري عبدالله

في روايته «صخرة بيتهوفن» (ميريت)، يبدو المصري محمد داود مشغولاً بتشريح الحالة المجتمعية الراهنة، مسائلاً هذا القدر الهائل من الخراب في بنية المجتمع وذهنيات المجموع المكبل بالفقر، والجهل، والخوف، والميتافيزيقا، والذي يمارس الاستبداد المتبادل بين شخوصه الغارقين في المأساة، والمعبرين عن ذوات مقهورة تعد مجلى لذات جماعية مأزومة، ومقموعة في آن.

يختار داود فضاءه الروائي بعناية، فثمة «ميكروباص» ينقل الركاب (شخوص الرواية) من البلدة إلى المدينة، والعكس، على رغم أنه ليس فضاءً إبداعياً جديداً، فحضور الناقلة/ المكان حيث عدد من البشر المأزومين، موجود مثلاً في مسرحية «سكة السلامة» لسعد الدين وهبة، ورواية «ميرامار» لنجيب محفوظ. في «صخرة بيتهوفن» ثمة خصوصية للفضاء الروائي، تتمثل في الوعي بالبيئة المحلية، ومشكلات المكان، وأنماط التفكير داخله، وبخاصة نمط التفكير الريفي الذي يسكن وعي الشخوص، والخليط المدهش من السخرية والمأساة. يضع الروائي متلقيه في متن الحدث مباشرة، فلا مقدمات زائدة، ولا افتتاحية تبتعد بالعمل عن بنائه الأساسي، ومن ثم يحضر المكان على نحو بارز، محطة الباصات، التي تحوي عشرات النماذج الإنسانية، وتتحدد المدة الزمنية هنا بالفترة التي تسبق ركوب الباص ثم خلاصهم بالركوب، وانطلاق السيارة صوب مبتغاها. خلال ذلك؛ يحدث التفاعل بين الشخوص، ونتبين حركتهم داخل النص، وينفتح الزمن الروائي على مساحات يتجادل فيها الماضي والحاضر، ويصبح الفلاش باك من التقنيات الفاعلة في النص، ويحضر أيضاً الاستباق في بعض مواضع السرد. يبدو السارد الرئيسي هنا متورطاً في الحكاية، إنه سارد من داخلها، وليس منفصلاً عنها، لكنه ليس بطلها المركزي. إنه يشبه عين الكاميرا التي تختار لنا ما تريد، وتمر على الشخوص والأشياء والأحداث: «أسبقنا في الحضور للموقف رجل يجلس على رصيف جانبي، بعده في ترتيب الحضور امرأة تحمل قفة، ثم بقيتنا، ذلك لا يعني شيئاً في الزحام، قد يركب أولاً آخر من حضر، بل ومن أول محاولة. واحد آخر منا مميز بصلعة مبقعة، توقف عند كشك الجرائد المجاور للمحطة، حمل صحيفة، وتمهل أمام الصحف المعروضة يطالع العناوين، ثم انتقل إلى موضع قريب من القفة ذاتها، لا يعرفها ولا تعرفه، ومن جيبه يظهر سلك رفيع إلى سماعة في أذنيه» (ص5).

في النص ثمة شخوص متنوعون لا يأتي الكاتب على ذكرهم بل على صفاتهم السائدة، وكأنه يحيل على العام، فيشير إلى الخيط الواصل بين الذات الفردية وكونها صدى لذات جماعية وتعبيراً عنها، ومن ثم نجد أنفسنا أمام: (رجل الرصيف/ المرأة ذات القفة/ الحبيبين أو عاشقي الميكروباص/ ربيع القعيد/ الرجل المتين/ الرجل الصاعق/ الرجل الصلب/ المرأة الثدي)، وبما يعني أن الرغبة صوب رصد النموذج الإنساني مهيمنة على وعي الكاتب. وفي متن الحكاية نرى التفاعلات الاجتماعية التي تحيل على حيوات متعددة لأصحابها الذين لا يدينهم الكاتب ولا يتعاطف معهم، بل يكتفي بتقديمهم، تاركاً مساحات التفاعل لقارئه. فرجل الرصيف يدرس الفلسفة، ويبدو نموذجاً لذلك البطل الإشكالي الذي ينفصل عن الواقع ويتصل به في آن، فقط يراقب المشهد ولا يتورط فيه: «ولا أحد في المحطة يجلس مدخناً هكذا بلا محاولة للركوب، سوى رجل الرصيف، كأنما يتفرج على فيلم، يتأمل ألوان الأمس في نفسه، مختنقاً بما يشعر أنه غبار الأحجار المجروشة في الطاحونة. فرَّت من خاطره فكرة ما، فشل في تذكرها مرة بعد أخرى، كرغبة أثيرت من دون إشباع، قرّر الإقلاع عن مطاردتها، فيما تلوح له نادية؛ زميلته في الدراسة، شبحاً، يذوب ويتكوّن في غبار الذكرى» (ص8).

تعد تيمتا الرفض والمساءلة للواقع المعيش بمثابة البنية المهيمنة على الرواية، فعبرهما تتحدد رؤية العالم، سواء بخطاب الراوي الرئيسي دائماً، أو بخطاب البطل المركزي (رجل الرصيف) أحياناً، الذي يسخر من واقعه، ويتندر عليه، وإن ظل حاملاً بعض ملامح عدمية في شخصيته، فحينما يُقتل الرجل القروي الطيب «حمدي» على يد راكب آخر «الصاعق البلطجي»، يستأنف «رجل الرصيف» حياته بعدها بلحظات: «عبثَ بالهاتف، اتصل بربيع بضع مرات غير مجابة، وكفَّ عن المحاولة، تنبَّه لتلوث حذائه بالدم، وأرسل بصره إلى الجهة الأخرى مِن الطريق، هناك بعض القمامة، وقليل من طيور أبي قردان الهزيلة، متسخة البياض، أعاد السمَّاعة إلى أذنه، وأطلق الموسيقى» (ص 176).

يبدو الحوار في مركز بنية السرد، فعبره تتعدد لغات الشخوص، فتعبر عن تصوراتهم للعالم من جهة، وانحيازاتهم الفكرية من جهة ثانية، فيما الفضاء الروائي يشهد تفاعلاً منتجاً. وتمثل لغة النص إجمالاً إحدى أهم خصائصه الأسلوبية والدلالية هنا، فاللغة المحكية تستخدم في الحوارات، ولا يأتي السرد كلاسيكياً فصيحاً دائماً، بل يضفره الكاتب أحياناً بدوال عامية ابنة البيئة المحلية، فتصنع إيهاماً بواقعية الحدث الروائي مِن جهة، وتكشف عن ذهنية المكان الريفي وناسه مِن جهة ثانية.

يسائل الكاتب الموروث في مواضع عدة، ويأخذ الخطاب الروائي نزوعاً جسوراً في كشف الزيف الاجتماعي، والأقنعة المستترة، ولا يلجأ في ذلك إلى الصراخ الأيديولوجي ولكن يصنعه عبر المواقف السردية.

يمهد الكاتب للحادثة الروائية «مقتل حمدي على يد البلطجي» كثيراً، حتى أنها تأتي نصاً في نهاية الرواية، ويبدو (الرجل الصاعق) بمثابة الشخصية الحافزة أو المحركة للموقف السردي الراكد إلى الأمام، مثلما يمثل انطلاق الميكروباص مِن المحطة نقطة التحول الدرامي، نحو جملة من الأحداث المتواترة، والتذكر للفائت، والمونولوجات الداخلية، والحوارات المتبادلة.

قدَّم محمد داود خمس روايات مِن قبل، منها «قف على قبري شوية/ السما والعمى/ أمنا الغولة»، مسكونا بدأب وتطور لافتين، إذ نجد التوظيف المغاير للغة السرد، ومساءلة الوعي الماضوي، وتشابك الحكايات الفرعية مع المتن الرئيسي، والاختيار الدال للفضاء الروائي، واللعب على المفارقات الساخرة. وفي «صخرة بيتهوفن» تبدو الموسيقى عازلاً إنسانياً ضد القبح، يقدمها الكاتب بوصفها قادرة على أن تحول بين بطله المركزي وواقعه البائس، في محاولة للخلاص الفردي بعد أن بدا الخلاص الجماعي مستحيلاً.
________
*الحياة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *