لأنَّ الذي لا يحسُّ سعيدٌ دائمًا*

خاص- ثقافات

*فتحية الصقري

لعدّة أسابيع، كنتُ في وضعيَّةِ المستعدِّ لاستقبال شيءٍ ما، يُخرجُني من دائرة السؤال، ومن رأس الانتظار الضخم، الغرفة الواسعة والفارغة، المُضاءة بشاشة عرض كبيرة مثبَّتة على أحد جدرانها.
كنتُ في وضعيَّة المستعدِّ الذي يشاهد نفسَه كبطلٍ في مسلسلٍ من مئتي حلقة،  يستغرق فيه مشهدُ إجراء عمليَّة تنفُّسٍ صناعيٍّ للنهار من تسعٍ إلى اثنتي عشرة حلقةً تقريبًا، وعمليَّة تفكيك الأحلام الغامضة التي تصيب نومَه بنوبات قلق مفاجئة إلى خمسٍ وعشرين حلقة.
وبين حلقةٍ وأخرى تَظهر إعلاناتٌ، بالتحديد خمسةُ إعلانات عن خمسة أشخاص، جميعُهم شخصٌ واحدٌ يجلس في غرفةٍ واسعة مُضاءةٍ بشاشةِ عرضٍ كبيرة، بحوزته أدواتُ صيدٍ قديمة ترافقُه في رحلاته إلى البحر والغابة والبراري.
وفي نهاية المطاف تأتي بعكس ما يتوقَّع دائمًا، وكلُّ ما يحصل عليه، ويجمعُه يوميًّا يدفعه لتغيير وِجهته في اليوم التالي.
ليس لديه خبرة في تصليح الأحذية التالفة، ورعاية الذئاب الجريحة، وإعادة تدوير العُلَب المعدنيَّة الصَّدِئة، فيُمضي أيَّامَه في تغذية صمته، وتدليله، وتلميع أدواته المتآكلة التي لم تعُدْ تصلح لشيء. ينام ويقلِّبُ جسدَه الساخنَ الذي تعذِّبُه الحُمَّى على أرضيَّة البلاط البارد، يصحو متلكِّئًا يفرُك عينيه ببطء، كمَن يرفض فتحهما، ومغادرة النوم.
“العالم مخلوقٌ لمَن لا إحساسَ له. الشرطُ الجوهريُّ لوجود إنسانٍ عمليٍّ يتمثَّل في غياب الإحساس1”
لقد سقطتَ في قاع المحيط بضربة غيرِ متوقَّعة، مِن لاطمأنينة بيسوا، في نهار كنتَ فيه على وشك الموت،  وأنت تتابع غزالا بريًّا صغيرا، يتقافز بخفَّة وسعادة، قبل أن يهوي على قدمه الصغيرة حجرٌ طائشٌ أفقدَه القدرةَ على المشي والقفز.
وأنت تتابع الذئاب التي انقضَّت عليه دفعةً واحدة بمخالبها الحادَّة، ولمعان عيونها الشديد ولعابها الذي سال، وغطَّى الأرض.
لقد سقطتَ في قاع المحيط بجلدٍ هُلاميٍّ وجسم رخو، بثمانية أذرع، وعينين مركَّبتين ومتطوِّرتين، وفمٍ كامل مستعدٍّ لالتهامِ كلِّ شيء.
كان عليكَ أن تتمالكَ نفسَك، أنْ لا تبكي، أو تذرف دمعة واحدة، كان عليك أنْ تغطِّي عيونَ قلبك، وأذنيه، أنْ تغلق فمَه، أن تمنعه من الصُّراخ، أن تمنح نفسَكَ فرصةَ تقمُّصِ وحشَ الأعماق، وأنت تروي لنفسك قصة انهيار جبل شاهقٍ بفؤوسٍ كان يخبِّئها أشخاصٌ لا تعرف عنهم شيئًا، سوى أسمائهم، في جيوبهم.
لا تذهبْ، لا تأتِ، لا تحبّ، لا تعملْ؛ “لأنَّ الذي لا يحسُّ سعيدٌ دائمًا”2
أنت تركض، تركض مسرعًا، في كلِّ الاتجاهات؛ هربًا من صورة، صورةِ مجموعة من البشر، يقلِّبون غزالا بريًّا صغيرًا تحت نارٍ مشتعلة، مجموعة بشر، أو ربما مجموعة وحوش، يمكنها التهامُه حيًّا، ويمكنها تناولُه مشويًّا أيضًا.
كان عليكَ أن تبقى صامتًا، أنْ تكون مثلَ حائط المكتب، لا تتكلم، لا تفعل، لا تصغي، تقول الطريق.
كان عليك أن تكون شِرِّيرًا، شخصًا بأنياب ومخالب، أن تكون حادًّا وشرسًا أكثر من اللازم، أنْ لا تدَع أحدًا يقترب منك، أن تجمع شتائم العالم، وتُلقيها في وجوه أولئك الذين يحاولون تمزيقَك، اتهامَّك، قتلَك، اقصاءَك، تقول النافذة.
لقد جئتَ بسيطًا بثياب النهر، تحلمُ بزيادة محصول الحقول، تمرِّنُ العاطفة على ضبط النفس عند غضب الطبيعة،
تمرِّنُ صوتَك على العمل خارجَ الحروب، تمرِّنُ حياتك على اللعب في ساحة الحُبّ، لا شأن لك بالفخاخ التي ينصِبُها سكَّانُ الغابة، في كل مكان.
لا تحملُ مسدَّسًا، ولا فأسًا، ولا سكِّينًا، تحمل روحًا تحلم أن تصبح شجرة توت، يقول الباب.
لن ينتهي يومُك، لن ينتهي قلقُك، لن تنتهي آلامُ روحك.
تتصل بالحبّ، هاتفُه مشغول، تتصل بالأمل هاتفُه مغلق، تتصل بطبيبك، لا يجيب، تتصل بقوس قزح: “عفوًا الرقم الذي اتصلت به لم يتم توصيلُه”.
تمشي عكس الاتجاه، تقف تحت علامةِ ممنوعٌ الوقوف، ثم تقطع شارعًا مُخصَّصا لعبور الشاحنات، وتُجري اتِّصالًا عاجلا مع  مالكوم  دو شازال:
“اخترتُ العيش في موريس؛ لأنّ سكّانها لا يعرفوني، ومِن جهلهم بي حصلتُ على حريَّتي”.
“كائنٌ صعب المِراس، ويصعب العيش معه، وقيادته مستحيلة، كائنٌ لا يُساس، وغير مستعدٍّ للطاعة.”
كائن غيرُ اجتماعيٍّ بالمرّة، ويعيش بشكلٍ متواصل في تعارُض دائم مع المجتمع، يحبّ الناس، ويكرهُهم في ذات الوقت”3
___________

(1-2) العنوان  من كتاب اللاطمأنينة لفرناندو بيسوا
3 – مالكوم دو شازل – شاعر الشذرات ترجمة عدنان محسن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *