موريس بلانشو : الأسلوب و”الحق في الموت”

خاص-ثقافات

ترجمة :سعيد بوخليط

كتب بلانشو : “يستبعد الأدب التاريخ،مراهنا على لوحة أخرى”.هاهو إذن  ناقد تفضل بمنح عطلة للتاريخ، لكن هذه المرة، ليس من أجل إبراز جمالية التجربة،وفق طريقة بيكونPicon،ولا الاستفسار عن أفخاخ الكتابة، كما فعل جان بولهان،ولا قصد التذكير بعدو ودود، مثلما  الحال عند بارت، لكن فعلا من أجل مواجهة لغز الأسلوب لدى هولدرلين أو كافكا، لوتريامون أو روني شار.لننتظر كي نرى مافعله هذا المختص في سراديب الكتابة متصديا في نهاية المطاف لقضية جوهرية.

نلاحظ على الفور بأن أسلوب بلانشو،يكشف عن المسار الأساسي للناقد كما جسده :وإن اختار فلسفة، فانحيازه ذاك يعتبر جماليا في ذاته،متنكرا بالتالي للفلسفة.إذا أراد بلانشو أن يكون الأسلوب”حقا في الموت”،فإننا نفتتن بذلك ضمن نطاق أن أسلوب بلانشو، تحديدا، بمثابة ”حق في الموت”مقترحا علينا بحسبه، ”شيئا أبعد من الكتابة”يعتبر شخصيا بالنسبة إليه.لكن شكرا للسماء أن الكتّاب وقد تعلموا في مدرسة الفيلسوف،كون  الأسلوب بمثابة ”حق في الموت”،لم يشرعوا في الاعتناء بهذا “الحق في الموت”الشهير، الذي لايهمنا سوى عند الكاتب موريس بلانشو.

يلزم إذن أولا الحديث عن بلانشو باعتباره كاتبا :جورج بولي،باشلار،ألبير بيغان،يكتبون وفق هذا الأسلوب دون أسلوب،والذي ليس سوى باللغة الصحيحة  خلال حقبة ما.أحيانا، كما أظهر بيكون بين طيات نص بارع الأسلوب،بأن مالرو فريد مطلقا،ويختبر بارت  إدغاما محايدا ومكثفا، أما جان بيير ريشار فهو صانع مذهل:لكن وحده بلانشو اليوم،من بين النقاد، يوظف أسلوبا يتجاوز الكيفيات ،والحيل،والعادات ،واللقاءات السعيدة،يتجاوز النوع والكيفية التي تستعملها لغتنا المتعبة – مانسميه موهبة- سنصادف هذا “المابعدي”،ثم”طفل الصمت”، و”المُضَاعف” الذي تركناه بما يكفي قاصدا تأسيس ماهو خاص بالأسلوب. ويتأتى لنا التساؤل،إن كانت  ملاحقة ”ميتافيزيقا اللغة”عند بلانشو في أعمال كافكا، باسكال أو فاليري ،بمثابة فعل كاتب يبحث عن أسس  أسلوبه الخاص،ويكدّ من أجل تعضيده كونيا.المؤكد،عثوره على  أسلوبه الخاص،وبأن هذا الأسلوب على وجه التحديد يعتبر حقا في الموت بحيث يلتمس له الدعم أو الحجة لدى باسكال أو روني شار.

إذن، ما هو الأسلوب عند بلانشو؟ هو عمل مذهل في إطار الارتقاء بالكلمات والتحول بها عن موضعها.بالتأكيد، تعلق الأمر دائما بتوافق الكلمات مع المعنى الذي يمنحها لها المعجم الصغير.لكن سيتعلق الأمر أيضا بأن يتواصل انسياب  مجموعها على امتداد الصفحات ضمن اقتراح شيء جيد أكثر عمقا، وضعية أو موقف أمام  هذا ”الصمت”وهذه “الليلة” اللذين انتزع منهما بلزاك أفكارا وكلمات.الكلمات التي لم تنتزع من هذا العدم  الأصيل،محيلة على هذه الوضعية الأولى للكلام لا تنفذ نحو أسلوب.إلى حد الآن،لاشيء خاصا جدا :نجد عند راسين أو جاك بوسيت، أو شاتوبريان، هذا البعد الغريب لكلمات يجد من خلالها عَالَم أدبي نفسه منضَّدا على الشيء الذي قيل :الروعة عند جاك بوسيت،الشفافية لدى راسين،ثم الطيّة عند شاتوبريان،بحيث تبذل منهجيتنا قصارى جهدها كي تظهر بأنها رموز سلوك أصيل يميز الكاتب.لكن عند بلانشو،لا يتعلق الأمر بشفافية  أو روعة يلزم إدراكهما بالأسلوب،مهما كانت  الدلالة الرمزية لهذه السلوكات الأصيلة(شفافية،روعة،الخ).بل يتعلق الأمر أولا عند بلانشو ، محو عالم الأشياء وعالم الكلمات :هذا الأسلوب بمثابة عملية محو.لنقارنه للحظة مع سلوك باحث عن الذهب يتأبط غربالا.المؤمن بأفكار التيار البرناسي سيرجّ الغربال كي لا يحتفظ منه سوى بالتبر الذي يرصع به قصيدته :تطفو كلمات قليلة وعجيبة بعد فرز دقيق.فلوبير سيحرك الغربال،ثم يلقي به مع التبر; لأن ما يهمه، الاكفهرار الذي مر عبر الغربال،حيث الكلمات بمثابة حبات مستديرة جدا ومتساوية الحجم.بينما الجوهري عند بلانشو،ليس ما يحتفظ به الغربال- التبر- ولا الذي صار كومة مثالية،بل الاختفاء المدهش للمادة المألوفة خلال التصفية،ثم هذا الابتلاع اليقيني المتواصل الذي يطمس الحقيقة المشتركة للمادة المضطربة منتهيا عند ترك الغربال شفافا. ليس الأمر باليسير،لأنه أثناء الفرز، يعمل اهتزاز الكلمات وسط الغربال على تبلور تراكمات شاردة ،وأنواع من الشموس متوهجة ومعطلة.بالنسبة لبلانشو،لا كلمة مميزة إذا لم  تُدحض على الفور، ويمحوها الترنّح.يلزم كي يوحي  بمحو العالم المشترك، تواصل هذا الفرز المتتالي  للسكب على الغربال الذي يقذف بها صوب هاوية .

لكن لما هذه الحاجة إلى إزالة العالم والكلمات؟ألا يتعلق السعي ببلوغ  تلك العذرية،والبراءة الآدمية التي حلم بها رولان بارت.بلانشو شاعر مفرط كي يقف عند الاكتفاء بتثمين بعض من “درجة الصفر في الكتابة” للكتابة،لأن العلامات المجتمعية أودت إلى تحجر اللغة،وفسدت مع ألف معتقد ضمن حدوده الجازمة. حتما،بالنسبة إلى بارت كذلك- لقد قرأ بلانشو- فالأسلوب لا يمحو سوى ليضيء، فينبغي لسلبه أن يكشف عن الشمس.لكن بلانشو أبعد ،من الإبهام الأساسي لبارت، وهذه اللغة الآدمية التي حلمت بها ماركسية مستحيلة.

مع  بلانشو،إذا لزم التخلص من البنيات المستهلكة للجملة،وإعادة توزيع الكلمات غير المنتظرة، ثم العمل على إبرازها وفق تحولات طارئة،كي تنسج شبكة تعمل على احتوائك،فمن أجل بلوغ حقيقة لغة صارت ،مادة،  موضوعا،ومعجزة.ينبغي التخلص من”النثر الدال”.لكن بغية العثور على القصيدة، هذا”الرافد الثاني”للأدب : ((بكيفية عامة يتجمع في إطارها مانسميهم بالشعراء.لماذا؟ لأنهم يهتمون بحقيقة اللغة،ولايهتمون بالعالم،لكن ماذا ستكونه الكائنات والأشياء إذا لم يوجد عالم،لأنهم ينقادون وراء الأدب مثل سلطة لاشخصية لاتبتغي سوى الابتلاع والاكتساح .إذا كانت القصيدة كذلك،فعلى الأقل،هل تمثلنا لِما عليها الانسحاب من التاريخ،وتسمع على هامشه طنينا غريبا لحشرة ،وسندرك أيضا بأنه كل عمل سمح لنفسه الانسياب فوق هذا المنحدر نحو الهاوية لايمكنه أن يسمى عملا نثريا)).

هاهي أخيرا القصيدة قد تموضعت في بؤرة أبحاث حول الأسلوب :لم يبتغ بلزاك في نهاية المطاف أساسا سوى أن يكون شاعرا.يبقى أن نعرف إن كانت القصيدة فقط، انزلاقا دائما نحو الهاوية حيث تكمن وظيفتها  في ”الكشف”بالمعنى العميق.

إن أهمية النقد عند موريس بلانشو،ضمن المنظور الذي يشكل موضوعا لهذا البحث،تتأتى من كونه كرس نفسه تماما لقضايا الأسلوب.قبله، اهتم فاليري كثيرا بهذا الأمر.لكن تم ذلك في إطار البحث عن وظيفة فكر،وليس سعيا نحو البحث في ماهية الأدب.تكمن جدارة بلانشو في انكبابه على هذا الشيء الرهيب الغامض متقصيا طبيعته.بالتأكيد،لا يوجد مسلك بالنسبة للنقد المعاصر لم يرسمه فاليري :صلات المؤلف بالقارئ،جانب الغش في الإبداع،ثم مقتضى”أدب صعب”،والتمييز بين مؤلف يستهلك لغة مشتركة،وآخر يوظف لغة خاصة،كل ذلك حظي سلفا باهتمام فاليري،مع تنازل عن المنهجية البيوغرافية وكذا التاريخ.غير أن إسهام بلانشو تمثل في بحثه ضمن طبيعة الكلام نفسه عن هذا السلب الجذري وأحيانا الحماسي للوجود الذي ينتهي إلى الأسلوب.بالنسبة لفاليري ،الأسلوب هو عبقرية أن تتفرد وفق الإخلال بآثاره، إنه خاصية آسِرة للكتابة،وثمرة تأثيرات متشابكة جدا لا تتجلى قط للعيان :باختصار،الأسلوب ”خلق” ،إذن معرفة عليا، نبلغها بمناهج يقينية ثم وعي رفيع بالذات :لاتوجد ميتافيزيقا بهذا الخصوص.عند بلانشو، إذا لامس الكاتب مابعدية الكتابة،فلأنه يكسر قشرة الكلمات المخادعة للغة مشتركة،موحيا بحضور الموت في الكلمات وكذا اكتساح نور انطلاقا من انكشاف الموت. تعود جدارة بلانشو إلى بحثه في القضية العامة للأسلوب أبعد من هذا ”الخلق”المنهجي،لكنه مجزأ وحِرفِيا عند فاليري :من هنا،يجري وراء الخطر الأساسي بالانغلاق ثانية ضمن فلسفة واقتراح جمالية انطلاقا من هذه الفلسفة،مجازفة تجنبها فاليري بنوع من الشغف طيلة كل حياته،مختبرا فكره بالمناهج والقدرات،لقاء لعناته ضد باسكال،الصفحات الوحيدة المفتقدة للعمق في عمله .لكننا سنُستدرج كي نتساءل عن ماهية المجازفة الأكبر :التمسك بالمناهج والوسائل،مما يمنع كل بحث عام حول الأسلوب،أو تشييد فلسفة ستُدحض دائما خلال يوم أو آخر.حيث نجد مرتكزا يكون عبره للفن مبررا في الوقت نفسه باعتباره واحدا وعاما؟.

لقد أردنا أولا توضيح فلسفة بلانشو من خلال أسلوبه ذاته.لكن الموضوع مهم جدا كي نتناوله ثانية من زاوية أخرى.هاهو أخيرا ناقد يميز فطريا،اللغة المتداولة والأسلوب.لقد سبق لبرجسون،أن شكل بهذا التمييز جانبا من فلسفته :لكنه إذا اعتبرها مخادعة تلك اللغة المتداولة،فلأن المعتاد أفسدها(رولان بارت)وأنه يكفي تهشيم شوائب النمطي حتى تصير ثانية الكلمات بطراوتها نوافذ مفتوحة على الحقيقة.كل كلمة عند بلانشو،بطبيعتها كذبا،فاللغة المتداولة هي فقط التي تخفي كذبها عن ذاتها :((يكمن الهدف في التعبير عن الأشياء وفق لغة تحددها حسب معناها.الجميع يتكلم هكذا،فالكثيرون يكتبون مثلما يتكلمون.لكن، دون ترك هذا الجانب من اللغة، تأتي لحظة يدرك خلالها الفن عدم استقامة الكلام الشائع ثم يتنحى عنه.ماذا يؤاخذ عليه؟افتقاده المعنى :يبدو له جنونا الاعتقاد بأنه مع كل كلمة سيكون شيئا حاضرا على الوجه الأكمل)).

باستمرار يلح بلانشو على هذه النقطة.لذلك يورد استشهادا لبيير نيكول،استقاه من كتابه المعنون ب :” Traité de la grâce  générale” ،وتوخى إعادة توثيقه:((ليست الكتب غير ركام أفكار،فكل كتاب هو بشكل من الأشكال مضاعفا،يلقي  في الذهن نوعين من الأفكار. يرسخ داخله ركاما من الأفكار التامة ،تم التعبير عنها وأُدركت على نحو جلي ،ثم علاوة على هذا، يرسخ تركيبا آخر من الرؤى والأفكار المبهمة،التي نحس بها،ونصادف صعوبة للتعبير عنها،بالتالي من المعتاد أن تقوم جمالية الكتب وماهو مكتوب تبعا لهذه الرؤى التي أثيرت دون التعبير عنها)).

إذا كان الأدب إذن بمثابة اللغة التي تخلق غموضا،فهذا لايعني أن اللغة الجارية تتخلص من الغموض الأدبي،فهناك أحيانا”سوء تفاهم”و”التباس”بالمعنى العميق للكلمة.لكن اللغة المتداولة تحد من الالتباس : ((إنها تحتجز بمتانة الغياب ضمن حضور،وتضع أجلا نحو التوافق. الأخير محدد لكن سوء التفاهم كذلك محدد)).

أن تكتب بمثابة شيء ثان،أي العمل على إخضاع اللغة لتحول جذري :((لا يدرك قط الكاتب الكبير الأمر بهذا المجهود المتفق عليه الذي تكلم عنه فاليري :يمكنه توجيه مجهوده جهة موضع آخر ويبلغ مع ذلك، تقريبا دون أن يعلم، هذا التحول المدهش)).

إذا قارنا رأي فاليري حين حكمه على فلوبير باعتباره شخصا غير متفق عليه بما يكفي، افتقد ”آلة كبيرة ”،مع رأي بلانشو حول كافكا،سنرى هنا سمو،نقد يبحث عن أسس أسلوب ضمن طبيعة الكلام ذاته عوض المجهودات المقصودة للكاتب :((إن روائيا يكتب وفق النثر الأكثر شفافية ، يصف أشخاصا يمكننا أن نلتقيهم، وحركات هي حركاتنا;يتمثل هدفه وقد أفصح عنه، في التعبير حسب طريقة فلوبير،عن حقيقة العالم البشري.والحال،ماهو في النهاية،الموضوع الوحيد لعمله؟فظاعة الوجود  الخاص بالعالم،المحاكمة التي من خلالها يستمر في الوجود ما توقف على أن يكون موجودا،ثم الذي مات لن يلتقي سوى استحالة أن يموت،والذي بوسعه إدراك المابعدي ودائما من جانب آخر . هذه المحاكمة،معناه أن اليوم صار لعنة،ثم وعي لم يعد نوره صحوة أرق بل سبات غياب النوم،إنه الوجود دون أن يكون  مثلما تريد القصيدة  بإعادة تملكه وراء معنى الكلمات التي تستبعدها)).

يتناول، بلانشو هنا عالما خفيا؛ ويبدو بأن سطوره  هاته  تخاطب فاليري، مختزلة السجال : ((كل واحد يدرك عدم إمكانية تقاسم الأدب وبأنه يختار تحديدا مكانه،يقتنع حقا بأننا هنا حيث أردنا أن نكون، ويتعرض لأكبر التباس،لأنه أصلا قد انتقل بكم الأدب بمكر من منحدر إلى ثان،ويعمل على تغييركم نحو ما ليس أنتم عليه.هنا خداعه،وهنا أيضا حقيقته المحتالة)).

بالتأكيد،هذا ما توقعه بدوره فاليري ،لكنه تبين ذلك في إطار سوء الفهم الذي ينم عنه المستقبلي،وليس ماهية الأدب.لكن في نهاية المطاف،أي معنى لهذا ”الما- بعدي”للكتابة، و”الطفل الصامت”،ثم هذا ”الكتاب المزدوج”لنيكول؟ أي تعريف لهذا الغموض عند بلانشو، أو ما ندعوه  بكل بساطة ،أسلوبا ؟

هنا نلج إلى مجازفات الفلسفة :((الفعل الأول الذي من خلاله جعل آدم نفسه سيدا على الحيوانات تجسد في فرضه لاسم عليهم ، بمعنى دمر وجودهم باعتبارهم موجودات)).يشرح بلانشو فكرة هيغل هذه على النحو التالي :((توخى هيغل القول أنه انطلاقا من هذه اللحظة تتوقف القطة على أن تكون قطة فقط واقعيا كي تصبح كذلك فكرة.تقتضي دلالة الكلام إذن،كتمهيد لكل كلام،مذبحة ما  هائلة،ومقدمة مستفيضة ،يستغرقها بحر يتمم كل الإبداع.لقد خلق الله الكائنات، لكن اقتضى الأمر من الإنسان تعديم وجودها .هكذا اكتست معنى بالنسبة إليه، ثم خلقها بدوره انطلاقا من هذا الموت الذي توارى خلفه؛ فقط،عوض كائنات،وكما نقول موجودات،فليس هناك سوى الكائن،والإنسان حُكم عليه بعدم تناول شيء ولا أن يعيش هذا الشيء سوى بناء على المعنى الذي يلزمه أن يخلقه)).

نرى بجلاء بروز فضاء أدبي وفق رؤية فلسفية.صحيح أنه بالنسبة للفلاسفة المعاصرين،لا يمكن للفكرة، والاسم، التقدم على الحقيقة الغامضة، المعتمة،والسديمة للعالم الذي نسميه وجودا.لكن بلانشو سيستخلص من ذلك صدى أدبيا :يوحي بموقف تراجيدي معين أمام الرؤية.أولا سماها الموت،أو حضور الموت،هذه القدرة التجريدية التي تحذفنا من الوجود،ومصطلح الموت هنا بمثابة مغالاة لغوية، ووصف ذاتي كليا،لأن التجريد لم يقتل أبدا شخصا،فقط يمكنه أن يتم الشعور به كمباشرة لموت الوجود.هذا الاختيار للمأساة انطلاقا من قوة تجريدية مرتبطة حتما باللغة هو اختيار للروح،وللكاتب موريس بلانشو.

ينطوي هذا الاختيار على قيمة أدبية كبرى،موحيا ب”ارتعاشة جديدة”،إنه جميل،فهو اختيار استيتيقي.لأنه انطلاقا من الظاهراتية المهيمنة على الفلسفة الحديثة،أضحت اختيارات أخرى ممكنة :ما تعلق بغثيان سارتر،ثم برجسون الذي لايرى مأساة، ولكن عادة مزعجة ضمن استهلاك لمجرداتنا.هناك طلاق أساسي بين الفلسفة والاستيتيقا :لن تشكل أبدا فلسفة مرتكزا مقبولا للإستيقا الأدبية،لأن الفلسفة من صنف المعرفة بينما الأدب من صنف الصدى.بعض المعاينات الفلسفية كانت لها أصداء أدبية خصبة، يشهد هذا التعدد على حرية جوهرية للوعي أمام كل ”إثبات ” يكتب بلانشو :((عندما أنعتُني باسم،فكما لو أتلفظ بنشيد مأتمي :أنفصل عن ذاتي،فأنا لست أبدا حضوري ولا حقيقتي، لكنه حضور موضوعي، لاشخصي،ذاك المتعلق باسمي الذي يتجاوزني يقدم إلي تماما سكونه المتحجر وظيفة شاهدة القبر التي تثقل على الفراغ)).هاهو تنسيق أدبي،إذا لم أبالغ !((بالتأكيد،لغتي لا تقتل شخصا.مع ذلك،حينما أقول ”هذه السيدة”، فقد أعلنت عن موت واقعي ثم حضر سلفا ضمن مضمار لغتي :تعني لغتي أن هذه السيدة، الماثلة هنا حاليا،ربما انفصلت عن ذاتها.تنسحب من وجودها وحضورها ثم تنغمس فجأة في اللاوجود واللاحضور : تعني لغتي أساسا إمكانية هذا التقويض، إنها في كل لحظة،إشارة مصممة العزم على واقعة ما.لغتي لا تقتل شخصا.لكن إذا لم تكن هذه السيدة قادرة فعليا على الموت،ولم تكن خلال كل لحظة من حياتها مهددة بالموت،مرتبطة بها ومتوحدة معها حسب صلة ما هوية، فلا يمكنني إتمام هذا الإلغاء المثالي،وهذا الاغتيال المؤجل الذي هو لغتي. من الصواب تحديدا القول حينما أتكلم :الموت تتكلم من خلالي.كلامي إنذار بأن الموت خلال هذه اللحظة ذاتها،منفلتة في العالم)).

نرى النبرة التوراتية،وأصداء القبر،ثم الرؤية الاحتفالية :هي استتيقا تتجلى.سمو افتقدناه ، ذاك المتعلق بأدب ينهض على الموت :في أوج القرن العشرين،ثأر باسكال من فولتير،من هنا عبر هيدغر!

لكن الفلسفات دائما تعيسة تقريبا ،حينما تُتناول في ذاتها. خصوبتها الفنية متغيرة جدا.إنها ثمار جيدة، ينبغي قطفها أحيانا، بالنسبة لكاتب، شريطة انتقالها به نحو ما لم تبلغه بعد، المعرفة.هذه الأفخاخ الملغزة، التي يمكن لأي شيء  نزع طعمها، تتوخى بشكل أفضل النفاذ نحو العدم، ثم هاهي فلسفة للموت لا تحلّ على الأقل شيئا، مما شكل امتيازا هائلا بالنسبة لبلانشو.مادام يطارد الموت عبر الكلام، ومادامت الموت،بالمعنى الذي يقصدها، حاضرة في الكلام بكيفية لاتدحض،تستميلنا  الشهب النارية التي استمدها منها، لُعب الضوء،الأهوال والإيقاعات، والأفراح كذلك.هاهو إذن الخطر الأصلي في الكلام، هانحن قد أخرجنا ثانية من الجنة ونطارد مثل بهائم :الكلمات مريضة،الموت يلغمها،فأية شموس إذن ننتظر؟وقد أقمنا على امتداد إمبراطورية هذا الموت الهائل،نحصي ثرواتنا.

أولا، يمنحنا الموت مجالا حيال شعيرة التقنية.تحرير الأدب عند بلانشو من هذه الشعيرة، لايقل إلحاحية بخصوص تحريره من كُتّاب السير، والمؤرخين، والتيولوجيين، والأخلاقيين :((فالكاتب المدعي بأنه لايهتم سوى بالكيفية التي يتجلى بها العمل، يتورط اهتمامه في العالم، ثم  يتيه كليا بين ثنايا التاريخ :لأن العمل يتم كذلك خارجه،وكل الصرامة التي وضعها في وعي عملياته التأملية،وكذا بلاغته المتبصرة،فقد استغرقتها على الفور لعبة إمكانية حدوث، بحيث لايكون قادرا سواء على التمكن منها،بل وملاحظتها)).

لكن أيضا تمنحنا الموت مجالا بالنسبة للسياسة.بالتالي، لن يكون الكاتب ملتزما :((لأنه إذا لم يكن أولا منتبها لما يقوم به، ولم يهتم بالأدب كعملية خاصة به،فلا يمكنه مجرد أن يكتب :ليس هو من يكتب،بل ولا شخص)).

لذلك فعلاقاته مع القِوى دائما مزيفة :((مثلا،يكتب روايات،تنطوي هذه الروايات على بعض التأكيدات السياسية،بحيث يظهر كما لو أنه على صلة بهذا السبب.بينما يحاول الآخرون… أن يروا في عمله دليلا على أن القضية هي فعلا قضيته.لكن ما إن يسعون إلى الاهتمام بنشاطه وتملّكه،حتى يدركوا بأن الكاتب ليس متواطئا،وبأنه تواطؤ لا يتم سوى مع ذاته،ثم ما يهمه في القضية تلك،عمليته الخاصة،بالتالي هاهم قد انخدعوا)).

لكن ماذا نقصده إذن بالابتهاج والنور والأمل،إذا كانت الكلمات مريضة ثم التقنية،بالمعنى الذي قصده فاليري،والتاريخ ليس في مقدورهما منحه ملاذا ضد الموت؟مع ذلك فتجربة الكتابة جد” مُبرَّرة”بحيث ينبغي أن تكون لها مع الكلمات بعض :((خلفيات الموت التي تجعلها باهرة))وهذه الخلفيات، تعمل أولا على إبراز الموت في قلب الوجود،إنها نشوة ”التسمية”.فالوجود بمثابة ليل خالص وعمى؛  بحيث يعمل الكاتب على إبراز المعنى.مثل دون جوان يقدم وجها تراجيديا ومصيرا للمادة،أنثى كامنة مزقتها أخيرا صرخة، هكذا الكاتب :((ينتزع كلمات من الصمت))،حسب التعبير العميق جدا لبالزاك.يعمل الكاتب على انبثاق الكائن في العالم ثم يمنح ذاته سعادة خالصة :((لنفترض العمل مكتوبا :معه يولد الكاتب.قبل ذلك،لم يكن هناك شخص لكي يكتبه؛انطلاقا من الكتاب يوجد كاتب والذي يمتزج مع كتابه.عندما كتب كافكا صدفة الجملة التالية :((إنه ينظر عبر النافذة)) ،وجد نفسه – يقول- ضمن نوع من الإلهام مثلما هذه الجملة رائعة سلفا. هو مؤلفها، أو أكثر تحديدا،يعتبر مؤلفا بفضلها: يستمد وجوده من خلالها،لقد أوجدها ثم خلقته بدورها،إنها ذاته  ثم ما عليه كليا.من هنا سعادته، سعادة  بلا مزيج، ولاشائبة(…).بوسعنا القول أن هذا اليقين كالجنة الداخلية للكاتب)).

هكذا فدون جوان الأسطورة الخالصة يخلق الكائن على منوال صورته مثلما يفعل الكاتب مع لغته؛ لكن يوجد الله كمنافس ويعيد المخلوق المتشكل إلى الدير.لاشيء من هذا القبيل عند الكاتب حسب موريس بلانشو.إذا لم يكن الله قط،ماذا سيفعل الكاتب بهذا المعنى،ب:((الحركة الرائعة التي من خلالها يأتي ما هو موجود في الداخل إلى الحقيقة المدهشة لما هو خارجي؟))،((هكذا إذن يبدأ اختبار مضطرب)).فلا يمكن للكاتب تحدي بعض أصحاب الرتب،والغوص في اللجة عبر بعض الأبواب الأرضية المفتوحة في اللحظة المناسبة، ولا أن يطرح بعيدا عنه عمله مثلما يستبعد غاو كائنه المخلوق الذي تمت صياغته كي يعود صباحا،فالكاتب ضمن الشخصيات إلى جانب عمله :((يرى المؤلف اهتمام الآخرين بعمله،لكن ما يضمرونه له من اهتمام هو غير ما صنعته به ترجمته الذاتية ،فهذا الاهتمام من طرف الآخر يغير العمل،ويحوله إلى شيء ما لهذا الآخر)).

مع عزلة الكاتب لا يوجد مكان لمأساة الغاوي المثالية ،هذا القديس الفاشل الذي يصنع،ثم يحطم ماصنعه، يجد ثانية ليله فيذهب ثانية،يحاكي المجانية الأليمة لإله ثمل بصورته الخاصة : يلزمه أن يعيش،لكن لم يمكث سوى الغموض.بالنسبة لبلانشو،تتجلى ماهية الأدب في هذا الغموض الذي تتخلص منه تحديدا الدونجوانية من خلال اطراد اغواءات،وكوارث مبدعة،ثم بفضل موت مثالي يرسخ وحدة مصير.هذا الغموض،في الأدب :((كما لو انقاد وراء تجاوزاته بفضل التسهيلات التي وجدها ثم استنفدت جراء تمدد التجاوزات التي أمكنه ارتكابها))،((ليس فقط،أن تصير كل لحظة للغة غامضة وتقول شيئا آخر لا تقوله،لكن غموض المعنى العام للغة ،بحيث  لانعرف هل توضح أم تشخص،إذا كان شيئا،أو تدل عليه،إذا كان هنا كي ينسى أو يحدث لنفسه النسيان  حتى نراه، إذا كانت شفافة جراء قلة معنى ماصرحت به ،أو واضحة نتيجة الدقة التي قالته بها، معتمة لأنها أفرطت في القول،ثم مبهمة لأنها لا تقول شيئا:الغموض في كل مكان،من خلال المظهر التافه،لكن الأكثر تفاهة ربما يتمثل في قناع الجدية :مع اللامبالاة،بل خلف هذه اللامبالاة،تكمن قوى العالم التي يتحالف معها بتجاهلها،أو أيضا،في إطار اللامبالاة يتم الاحتفاظ بالخاصية المطلقة للقيم التي بدونها يتوقف الفعل أو يصير مميتا)).

يلزم الإقرار أن بلانشو ينظم كابوسا جيدا للكاتب،هو كابوس أبعد ما يكون عن المجانية.إذا استحضرنا باستمرار أسطورة دون جوان، فلأن دون جوان الصرف يجسد فعلا كاتبا تتخلص أعماله من الاحتمال ثم يتخلص هو نفسه بعد ذلك من أعماله،بتحويلها إلى تراجيديا حية : أعمال دون جوان، أي اغواءاته،بمثابة تشكلات مجانية تماما لكائن مخلوق، تنتزعه – بالشغف- من عالم الآخرين،ودون جوان باستبعاده لهذا الكائن نحو العدم – بالتخلي – يتخلص من أخطائه الذاتية :دائما يذهب دون جوان ثانية خلال صباح أليم.لكنه مصير ليس عبثيا،يتجزأ بألف وثلاثة معنى تعطى على التوالي إلى تشوش الأنفس قبل الكلام،مادام أن آمرا سماويا تأتى له،العمل على توحيد تحدي مصير بعقاب فظيع ثم تحليق نموذجي في الغامض.

الكاتب تحديدا هذا الدونجوان الفاشل الذي يعلم بأن فتوحاته ألقي بها إلى مرعى أمام أنظار الآخر؛ويعرف عزلة انتزاع معنى خلال الليل ولا يوجد كدون جوان،تماما، سوى خلال هذه اللحظات القصيرة،لكنه لا يعرف ما يفعله،بين لياليه،جراء انعدام سيف،ونزاع، وفارس آمر ثم إله الغيور.السلطان الخبير بالشتائم القاسية،حيث بوسع دون جوان أن يتجاهل لدى قروييه كل ما يبقى فيهم غريبا عن الاعتبارات التي وضعها فيهم،وتتغذى مجانيته من حالات نسيان مذهلة بحيث يعجز الكاتب المتعلق بروائعه ويتردد عن تفنيدها حينما تتشكل.

لكن بلانشو عرف كيف يربط تراجيديا الكاتب بتراجيديا اللغة نفسها.العمى المتوحد للغاوي،أيّ مسرح،وأيّ شخصية ! الكاتب نفسه،ينمحي،أمام سر اللغة جراء تكلمه دون  أن يلاقي مصيرا.محتجز ضمن دوامة إعطاء معنى يقتل – مثل دون جوان الأسطوري يموت بعد ارتقائه صوب المعنى- الكاتب،للأسف !لن يلتقي موته الذاتي  سوى من خلال الكلام.

مع ذلك هو فضاء بالنسبة إلى بلانشو قصد تحقيقه لانتصار واسع من خلال المتخيل،يكتب: ((ماذا بوسع كاتب؟كل شيء : إنه بين طيات أغلال، تضغط عليه العبودية ،لكن أن يجد كي يكتب، بعض لحظات الحرية ثم هاهو حر من أجل خلق عالم بغير عبيد،عالم يصبح معه العبد سيدا،فيؤسس قانونا جديدا،أيضا وهو يكتب،يحصل الشخص المقيد فورا على الحرية سواء بالنسبة إليه وكذا الجميع….لكن لنتأمل ذلك عن قرب أكثر.لهذا وقد كرس نفسه للحرية التي افتقدها،سيهمل الشروط الحقيقية لانعتاقه،ثم ما يلزم أن يتم واقعيا حتى تتجسد الفكرة المجردة للحرية)).باختصار،ترتبط حريته بالوهمي الذي تحتجزه تجريدية الكلمات ذاتها ،فيقرع باب هذا الوهمي عبر كل ما يلمسه.ولا يصبح حقيقة حرا سوى في ظل الثورة، حينما تُتناول الكلمات المجردة بجدية،وينتصر اللاواقعي في التاريخ :((بحيث يندفع الفعل الثوري بنفس القوة وذات السهولة ثم لايحتاج الكاتب من أجل تغيير العالم،سوى إلى رص بعض الكلمات)).

أحيانا،يمر الأدب إلى التاريخ وينتصر عليه : إنه الرعب.ماهو إن لم يكن هذه اللحظة عندما :((يتوقف كل شخص على أن يكون مجرد  فرد  ثم يعمل لصالح مهمة محددة،فعّال هنا وفقط الآن كي يصير حرية كونية لا تعرف لا هناك، ولا غدا، ولاعملا، ولاصنيعا)).والحال أن الكاتب،ضمن امبراطوريته من الكلمات الحرة،يٌقارن بالإرهابيين،يعني هؤلاء الأشخاص الذين :((منذ حياتهم،يعملون ليس كأشخاص أحياء وسط أشخاص أحياء،لكن ككائنات افتقدت أن تكون،أفكارا كونية، محض تجريدات،تحكم وتقرر من الجانب الآخر للتاريخ،باسم التاريخ عموما)).

بما أن الكاتب لايدير العالم،فما هي الحقيقة التي بوسعه إدراكها؟حقيقة الكلمات،بل ومادتها ذاتها.هكذا تصير الجملة موضوعا،وتولد مادة خاصة من فعل الكتابة.”أقول ”وردة”. لكن حينما أستشهد بها في الغياب ،ثم بالنسيان مستبعدا الصورة التي تقدمها إلي،في عمق هذه الكلمة الثقيلة تنبثق هي نفسها مثل شيء مجهول،أستدعي بولع عتمة هذه الوردة،والعطر الذي اكتسحني دون أن أتنفسه أبدا،ثم هذا الغبار النافذ إلي دون أن أراه،واللون باعتباره أثرا وليس ضوءا.حيث يقيم إذن طموحي قصد بلوغ ما أصده؟في مادية اللغة،ضمن إطار أن الكلمات كذلك أشياء ،طبيعة،ما أعطي إلي فمنحني أكثر مما أفهم…. يلعب كل ماهو فيزيائي الدور الأول : الإيقاع، الوزن، الكتلة….نعم، من حسن الحظ، أن اللغة شيء)).

إذن ها نحن نعثر ثانية على معنى الحقيقة اللفظية التي كشفناها تحت الأساليب ابتداء من نيكولا بوالو وتوقفنا كي نعثر عليها ثانية عند كل بؤر التاريخ الأدبي. هذا الهاجس،الأولي جدا الذي يبدو شبه فطري لدى كل كاتب حقيقي،هل يفقد قيمته باستناده على ”الموت”؟إطلاقا،شريطة أن لا تكون هذه الفلسفة مجرد حجة لإمكانيات جمالية عديدة.كي لا نقدم سوى مثالا،فقد أثار العديد من النقاد انتباههم تذوق الكلمات في ذاتها عند فرانسوا رابلي :لكن،شكل ذلك بالنسبة إليهم، لعبة جذابة مع القاموس،بحيث أن بيير دو رونسار، نيكولا بوالو،استشعرا بامتياز الحقيقة العميقة للأسلوب بغير التفاهات النقدية للقرن التاسع عشر.من البديهي أن يجيب الأسلوب،عند رابلي،على السلوك الجوهري للكاتب،وكذا إرادته اللاواعية لمجاراة تكاثر المادة بخلقه مادة لفظية،مضيفا مثل شلالات نياجرا إلى ثراء عالم غمره تحديدا عمله،واستغرقه كي يتغلب عليه بشكل أفضل.

تتمثل جدارة بلانشو هنا،في كونه الأول،الذي استند حول العلاقات الأصيلة بين الإنسان والكلام حيث الكلمات مادة بالنسبة للكاتب : يبحث كي يلامس من خلالها،رمزيا،هذه الحقيقة للأشياء التي تلغيها الكلمة تحديدا حينما تتأكد كمعنى.لكن الأسلوب الشخصي الذي يستخلصه من ذلك ينتج عن اختيار حر،وتعايش بين مزاجه وإيحاء ما سيذهل شخصا آخر بشكل مغاير تماما . بينما يسعى راسين،على العكس،للتخلص من المادة المعتمة للكلمات بإعطائها شفافية غريبة،فإن باسكال يسحقها بمنطق يقوض المادة.ألف تصرف ممكن- وسنرى في مكان آخر كيفية توطيد تراتبية بين هذه التصرفات – لكن تبقى الكلمات سواء بالنسبة إلى رابلي، راسين،باسكال أو شاتوبريان ،مادة تندرج ضمنها أكثر مشاريع الكاتب اعتبارا. بلانشو،مع كل مناسبة – فيما يتعلق بالسورياليين،وروني شار،إلخ- يؤكد ثانية أولوية الأسلوب هاته المسماة عنده لغة – باحثا بامتياز على حضور للموت أكثر من سلوك عبقري،وطبيعة الكلام بدل تعدد للجماليات.لكن لم يكن الأسلوب أبدا مفهوما بشكل أفضل أبعد من المهارات والوسائل ثم اللعب.

فيما وراء الأدب، تقوم الموت بكل بساطة: ((إنها التمزق الجوهري بالنسبة للإنسان)).ألا ينضم بلانشو باعتباره فيلسوفا للموت،إلى الفلاسفة القدامى الذين شكلت لديهم الحياة شهادة دائمة أمام الموت؟ :((يلزم لغة الأفكار،كي تكون صحيحة،أن تكون لغة يملؤها الوجود)).من المهم، لدى بلانشو،أن يكون باسكال شاهدا على عمله :((نفهم كيف أن التبرير اللاهوتي  لدى باسكال يفترض باسكال الموجود،والمؤمن)).عمله ”الأفكار” :((تلك اللغة المتكئة على لحد))،لا تجد جل معناها سوى عبر التجربة الباسكالية مع قبر المسيح،حيز تمثَّل معه حياة جديدة.ذلك أن باسكال كاتبا يمكنه فعلا التصميم على كتابة تحفة ممتازة،حيث بوسع كل العالم الانتصار، بوالو، أنطوان أرنو، لويس السادس عشر بل الله نفسه.لكن الوجود المعتم يضع حضورا للموت في العمل الرائع و:((أحدث ركاما من الأوراق الصغيرة أو بالأحرى يتلف عوض أن يكتب)).هذا : ((الكتاب المتأكد جدا من خلوده)).

لاينبغي الاندهاش من بحث بلانشو عن هذا الاتصال بعمل ضمن مصير نموذجي حسب الذوق القديم :((لاشخص يمكنه القول بأن الموت التي جعلت من التبرير اللاهوتي أفكارا،مجرد  طارئ لاعلاقة له بالنص  الذي عرف النور وقتها.ينفجر النقيض ببداهة.إذا كان باسكال الحي من صمم وهيأ العمل،فباسكال الميت من سيكتبه أصلا)).

لاشخص آخر،أمكنه كتابة ما دبّجه بلانشو بصدد باسكال.إننا أمام التعسف المذهل للاختيار الذي يتبناه كاتب.أمام هذا الكتاب : ((المتأكد جدا من بقائه))،فإن بلانشو حيال هذه الجملة المدهشة :((لكن إذا وجدت ثانيا اللغة حقيقتها التي هي عبقرية الموت الغامضة،ثم تصغي إليها،وتلاحقها،إلى حد أن الفصاحة ليست قط فصاحة،بل عوزا مطلقا،وبأن الرعب الخاص بالكلام، يستمر في أن يكون رعبا حتى مع الكلام الأكثر يقينية والأكثر إبهارا)).

لنذهب،غاية إتيقا  تصل الفيلسوف بالشاعر قصد مطاردة الموت بأسلحة حديثة وسط عالم بدون إله.

*مرجع النص :

Manuel de Diéguez :l écrivain et son langage ;Gallimard ;1960.PP149- 172.

_____________
* http://saidboukhlet.com/

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *