بورخيس: أيّهما هو الأصل وأيّهما الترجمة؟

*ماجد الشّيخ

   إذا كانت الترجمة هي الأداة الفضلى للمعرفة، ابتداء من معرفة الذات لذاتها، أو تعرّف هذه الذات على ذاتها في ضوء معرفتها بالآخر، فإن الترجمة بهذا المعنى قد تكون في أهم تعريفاتها؛ الوسيلة الفضلى لتعرّف الذات على الآخر؛ لا سيما إزاء إدراكنا، وإدراك غيرنا؛ أن العالم لا يتشكّل من ذوات منسجمة على الدوام، كما أنه لا يتشكّل من آخر نسقي يقولب ذاته في انسجام دائم، في مقابل تلك الذوات التي يحاول بعضها شيطنة الآخر بشكل دائم، فيما المراد أنسنة كاملة.

 وفي رأي فلاديمير نابوكوف (صاحب الرواية المشهورة لوليتّا) أن أسوأ الترجمات الأدبية هي تلك التي تجرّد النص الأصلي من هويّته، وتقحم عليه معايير جمال اللغة المترجم إليها ليتلاءم مع ذوق جمهور معيّن. لكن وعلى رغم محاضراته في أصول الترجمة -على ما يقول أولندو فيجس أستاذ التاريخ في كلية بيركيبك اللندنية- لم تكن ترجمة نابوكوف الحرفيّة لرواية بوشكين (أوجين أونجين) من الروسيّة إلى الإنكليزية أمينة، ولم تحافظ على بنية النصّ الأصلي، ولا شك في أن الأذواق الأدبية الخاصة بثقافة اللغة المترجم إليها تؤثّر في عملية الترجمة وتترك بصمتها فيها.

  من هنا قد لا تكون الترجمة مجرد تقويل أو استنطاق للغة نقلاً عن لغة أخرى، بل تنويعاً وغنى ثقافياً أيضاً. فالترجمة كفعل إبداعي موازٍ، قد تكتسي طابعاً تفاعلياً في بعض الترجمات، وقد تكون انفعالية، إلا أن محدّدات مثل هذه العملية لا تتركّز في كون الترجمة حرفية أم لا، أمينة للنص الأصلي، أم أن هناك “خيانة” ارتكبت بحقه، وحتى مثل هذه “الخيانة” قد تكون معادلاً إبداعياً وجمالياً آخر في قراءتها للنص وإعادة تشكّله، وفق رؤية أخرى تتجاوز رؤية الآخر ما يقود هنا إلى تشكّل عملية إبداعية ثقافية، بعيداً من المصادرة للذات، أو القراءة الاستبدادية الاستبعادية لهواجس وتلميحات النص.

 إن كل نص منشور هو نص مفتوح بالضرورة على اللغة، وعلى الحياة، وعلى النقد، وعلى التشكّل الثقافي الممكن – قبولاً أو رفضاً – في سياق تطوّري للغة تعلن تجاوزها ذاتاً انغلاقية، نحو آفاق أرحب من انفتاح اللغات والثقافات، بل وانفتاحا على التاريخ وعلى الفكرة التي لا تكرّر ذاتها أو تنسخها.

  في ندوة “لغتنا الأم.. مقاربات في الممارسات والوظائف”، التي نظّمتها اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو 21/شباط/ فبراير 2008)، تساءل أمين عام اتحاد المترجمين العرب د. بسّام بركة “إذا ما كانت اللغة توفيقيّة أو توقيفيّة، مشيرا إلى أن الترجمة هي عمل لغوي ونصّي ومعرفي وفكري وتواصلي واجتماعي، وإلى أن الترجمة إلى العربية تهدف إلى صيانة اللغة الأم وتطويرها”.

 بهذا المعنى.. كل نص ينفتح على فضاء الآخر، فضاء الترجمة، التأويل، التعبير عنه بلغة أخرى، وإن اختلفت مفردات التعبير عن قيم البيئة المحلية، رغم أن الإحاطة بواقع النص وبيئته المحلية، عامل مساعد في فهم ما يكمن خلف النص من تلغيزات، وأشد التعبيرات خصوصية قد تكون عصيّة على الفهم والاستيعاب، والتمثّل لدى الطرف الآخر القائم بعملية الترجمة. وهنا بالضبط يمكن ان تقوم “الخيانة”، ولكن البريئة المتخفّفة من أثقال القصديّة المسبقة، في ترجمة مشاعر أو أحاسيس الفرد في خضوعها لمرجعية البيئة المحلية ثقافياً ولغوياً وتاريخياً. إلاّ إذا كنا أمام “خيانة” تتقصّد وبشكل مسبق التزوير والتدليس، وتتعمّد تقويل النص ما لم يقله أو يعنيه بالأساس، وتلك مسألة أخرى.

 في ملاحظات جريئة له حول الترجمة، عارض الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس المقولة الشائعة في عالم الترجمة التي تقول “إن كل ترجمة هي خيانة لأصل فريد لا نظير له”، معربا عن استغرابه من مثل هذا القول الذي يفتقر إلى الموضوعية، ويورد نصوصا تثبت أن ترجمتها تفوق النص الأصلي، وهو يبرّر شيوع مثل هذا التصوّر الخاطئ بالقول: “أفترض أننا إذا كنّا لا نعرف أيّهما هو الأصل وأيّهما الترجمة، فإننا نستطيع الحكم عليهما بتجرّد”. كما أن الترجمات الجيدة – وفق الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث- هي التي تفقد مع مرور الزمن وضعيتها كترجمات، فتقرأ كما لو كانت أعمالا مستقلة بذاتها، لا تنفي الأصل، لكنها تؤكده بطريقتها الخاصة في ضيافة لغة أخرى.

 من هنا أيضا فإن الكتابة بلغات أجنبية، وإذ لا تتقصّد “الخيانة”، إلا أنها تبقى أكثر تعبيراً عن لسان اللغة في بيئتها الأصلية، وهي تتفاعل وتتواصل مع بيئات أخرى، ذوات لغات أخرى تتثاقف معها، بل تتواصل في عملية إبداع بيئة إنسانية مشتركة، لحوار يتجاوز كل حدود يصطنعها الواقع السياسي في أبعاده الآنية.. أو التاريخية، حيث تشكّل اللغة تلك الحساسية المفرطة لعلاقة الكاتب/المبدع بتجربته الحياتية، تماماً كما في ارتباط حساسية الطفل مع لغة تجربته الحياتيّة.

 وقد سبق للكاتب النيجيري غينوا إتشيبي أن تساءل يوماً عن الصواب في أن يهجر المرء لسان أمه من أجل لسان شخص آخر، ليجيب “إن الأمر ليبدو خيانة مرعبة، ويثير الإحساس بالذنب، لكني لا أملك خياراً آخر.  لقد وهبت اللغة، وأنا مصمم على استعمالها”. وهذا ما قاد روائي كأمين معلوف لأن يكتب بلغة أخرى في تصميم جاد، وغير مبالغ فيه، للتعبير عن قضايا المشترك الإنساني، تلك المفتوحة على فضاءات لا متناهية، من أسئلة الثقافة والتاريخ والحضارة والنقد التاريخي، للمكوّن الحضاري المشترك لثقافاتنا المتعددة والمتنوعة.

 إن “قتل اللغة” عبر تجاهل ماهيتها الطفلية، كونها نطفة التثاقف الإنساني والتواصل البشري؛ وعماد استمراريته في نطاق التجمعات والمجتمعات الإنسانية، عبارة عن “قتل الأب” أو “قتل الأم”، ما يدخل العمل الإبداعي دائرة اليتم والتهويم، ويستبقيه قاصراً، فلا هو يمدّ يده إلى من يرعاه، ولا هو في مقدوره النضوج وإنضاج تجربته ذاتياً بذرائع الموضوعية الموهومة، ما يبقي قراءته لذاته سطحية – غائية في ابتعادها عن القراءة في أبعادها النرجسية أو الذاتية في احتكامها للنوايا الطيّبة. وقد سبق لبورخيس أن لاحظ أن “كل شعب يطوّر الكلمات التي يحتاجها، فاللغة ليست من اختراع أكاديميين ولغويين، بل جرى تطويرها عبر زمن طويل من جانب فلاّحين وصيادين وفرسان، فاللغة لم تنبثق من المكتبات، وإنما من الحقول، من البحار، من الأنهار، من الليل، من الفجر”.

  لهذا لا يمكن للغة أن تمارس حضورها وتجدّده، وتجدّد ذاتها، خارج اتصالها أو ثقافتها، بل إنها تتناسل من عمق هذا الاتصال ومن أعماق الثقافة. فإذا كان التواصل الإنساني من شأنه أن يخلق نطفة الثقافة، فالثقافة ذاتها تشكّل أكثر من وعاء للاتصال والتواصل المعرفي بين الأفراد، كما وبين المجتمعات. وحدها اللغة هي الإناء الحامل للثقافة، المحمولة بدورها في تجّذر الأعمال الإبداعية، وانسيابها في أشكال النصوص المختلفة المنتجة، من رواية وقصة وشعر وحكايات.. إلخ.

 اللغة هي القيمة العليا، وبمعنى ما للثقافة في انبنائها وانبثاثها في الأعمال الإبداعية المنتجة، وهي المجال الأول والرئيس لمجموع القيم التي ندرك بها ذواتنا ومواقعنا، وإنتاجنا وتأسيسنا لمفاهيمنا عن العالم، منذ عصور ما قبل التاريخ وبدء التدوين، وصولاً إلى وضعنا الراهن في عالم اليوم.

 _________
*ضفة ثالثة 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *