لا أحسبُني مغالية إذا قلت أن العرفان ( وتوأمه التصوف ) يمثلان التجربة الأكثر أهمية في كامل الإرث الحضاري الحقيقي الذي إنتهى إلينا وسط كمّ هائلٍ من الممارسات البائسة المتسمة بالمبالغات والشوفينية والتخريب والتي أريد لها أن تكون السمة الطاغية على كامل تراثنا الإشكالي الذي لايمكن تبرئته من المساهمة ( مع عوامل مساندة أخرى ) في هذه الفوضى الحضارية الكارثية التي نعيش في خضمّها ، وقد نختلف بشأن موضوعة بعينها في إرثنا الإشكالي هذا ؛ ولكن في كل الأحوال ثمة إتفاق بين كثير من النقاد والباحثين في حقل الدراسات الثقافية وتأريخ الحضارات والأفكار – عرباً وأجانب – على أن حقل العرفان والتصوف يمثل التجربة المشرقة المظلومة المسكوت عنها ( باستثناء حالات قليلة كُشِف النقاب عنها في أزمان قريبة ) ، وأن هذه التجربة جديرة باعتمادها كأسمى منتجات الرأسمال الرمزي القابل للتوظيف في الإنطلاقة الحضارية المعاصرة لو صدقت النوايا وترفّعت عن الضغائن وصغائر الأمور .
لا اسعى في هذه المقالة إلى تناول العرفان كوسيلة أخيرة يلجأ لها المخذولون الذين رأوا العالم محض أرض خربة أو مكان شائن لايصلح للعيش وينبغي إحداث القطيعة الكاملة معه ؛ إذ في هذه الحالات يكون العرفان ملاذاً فردوسيا متخيلاً لهؤلاء يوفّر لهم مجالاً حيوياً للتنفس ومحاولة عيش تجارب حياتية جديدة تكون في معظمها مصطنعة وغير ذات جدوى في غالب الأحيان ؛ بل أنها قد تدفع المرء ليكون ذا خطورة مجتمعية ( sociopath ) أحياناً ، وللأسف فإن هذا المآل الذي ينتهي له الفرد ويسقط في هوته العميقة ماهو إلا تمثّل قبيح ومصطنع لروح العرفان وخطابه الجميل الأنقى ، ويستوي مع هؤلاء المخذولين عدد ليس بالقليل من الغربيين الذين ضاقوا ذرعاً بتعقيدات الحياة الإستهلاكية المادية التي جاءت بها الثورات الصناعية المتعاقبة وتقاليد الحداثة ومابعد الحداثة ؛ إذ كم سمعنا ( ولازلنا نسمع بين آونة وأخرى ) إنخراط ممثل هوليودي أو شخصية ثرية معروفة في تجربة روحانية لدى البوذيين في أعالي التبت مثلاً ، وربما لايعرف سوى القليل منّا أن معظم هؤلاء كتبوا عن خذلانهم في تجاربهم تلك وأنها لم تُضِف إليهم ماكانوا يتوقعونه أو يتمنونه منها . ربما تكون تجربة الممثل ( ريتشارد غير Richard Gere ) مثالا في هذا الميدان ؛ فقد تحدث في أعقاب رحلاته الكثيرة إلى التبت عن خذلانه وعدم حصوله على الإستنارة الذاتية الداخلية التي كان يتوقعها ، ولعل السبب الكامن وراء هذا الإنخذال هو البون الشاسع بين سقف التطلعات من جهة والإعدادات الذاتية المسبقة غير المتناغمة مع النزوعات العرفانية من جهة أخرى ، ومنها ترسبات الحياة التنافسية وانعكاسات الشهرة ونمط العيش المادي ، وفي هذه الموضوعة تطول الأمثلة وتتعدّد المُسبّبات .
يمكن في هذا السياق الإشارة إلى شيوع حالة الإنضواء تحت لواء حركات جماعية خاصة Cult Culture في العالم الغربي ( مثل حركة العلموية Scientology ) والتي يمكن إعتبارها نظيراً للعرفان المشرقي مع الفارق ، وهي في معظمها دلالات شاخصة على النزوعات الروحانية الدفينة للإنسان المعاصر ورغبته الملحّة في مغادرة أشكال التدين التقليدية التي فقدت جوهرها القيمي وماعادت تختلف بشيء عن التنظيمات المؤسساتية الحكومية البيروقراطية المتغولة ، وليس بعيداً ذلك اليوم الذي قد نشهد فيه رجحان كفة الإنشغالات الروحانية ذات الطبيعة العرفانية على كفة المؤسسات الدينية التقليدية التي عجزت عن إنقاذ البشرية من انحدارها المتواصل.
سأتحدث هنا عن تفاصيل معينة في ميادين محددة حيث يمكن للعرفان أن يكون رافعة حضارية تعمل بإتجاه فائدة الفرد والمجتمع معاً في سبيل بلوغ معنىً جديداً غير مسبوق للحياة البشرية :
العرفان : مقاربة مختصرة في الجوهر والطبيعة
يختص الكائن البشري – وربما الكائنات الأخرى أيضاً – بميزة فريدة تماما : تلك هي الوعي التام بأن السنوات التي يُحسَب بها عمر الكائن – مهما طالت – تبقى قصيرة وغير قادرة على تمثل كافة أنواع التجارب التي يمكن أن يتفاعل معها العقل البشري و يحولها إلى خبرات منتجة . ليس الأمر مرهوناً بقصر سنوات عمرنا فحسب بل بمحدودية الفضاءات الفيزيائية التي تُعَدُّ ميادين حقيقية لاكتساب خبراتنا ؛ إذ هناك محدوديات فيزيائية تقيد إمتداد وتنوع تجاربنا ، وهنا نواجه المفارقة القاسية التالية : كيف السبيل إلى تمثل تجارب غير مطروقة – بكل غناها وثرائها – ونحن نعيش تحت ضغط هذه المحدوديات وهي واقع حال معترف به ؟ يبدو لي أن الجواب ينحو ليكون حفراً واستكشافاً متواصلاً في الفضاء العرفاني ، الجواني ، الذي يتشكل من عناصر تحيل إلى أصول النشأة الاولى الناجمة عما يشبه الإنفجار الكوني الأعظم الذي هو مادة علم الكونيات الأثيرة وميدان أبحاثها الأرحب ؛ إذ هناك مضاهاة ومشابهة بين الانسان والكون في ظروف التخليق والإستحالات التطورية اللاحقة ، وربما كانت هذه المضاهاة هي الدافع النبيل وراء السعي المنظم للفرد إلى التماهي مع الرابطة الكونية ومحاولة الإنغمار الكامل فيها عبر وسائط غير مشخصة فيزيائياً تتجاوز عتبة معرفتنا الحسية المباشرة إلى فضاء ميتافيزيقي يوصف عادة بالإستنارة الداخلية والكشف الذاتي المدهش . إن واحداً من أهم ما يسم هذه المعرفة كونها عصية على التنميط prototyping و الضغط في خوارزميات جاهزة بسبب غرائبيتها واختلاف الدافع الباعث على الإنخراط فيها وتلونها بلون التجربة الفردية المضمخة بنكهة غير محددة ولا يمكن تمريرها للآخرين عبر الوسائط اللغوية المتداولة .
العرفان ولاهوت الارتقاء الحداثي
بول ديفيز Paul Davies فيزيائي نظري مرموق على الصعيد العالمي ومعروف باشتغالاته المركبة التي تمتد على طيف واسع من الإهتمامات المميزة للفيزيائيين المرموقين ، كتب الرجل مجموعة رائعة من الكتب وساهم في تحرير بعضها الآخر، وتُعدُّ موضوعة ( التصميم الذكي Intelligent Design ) ) والمقاربات بين العلم و اللاهوت واحدة من موضوعاته الأثيرة .كماكتب ديفيز كتاباً رائعاً – هو أحد كتبه العديدة في هذه الموضوعة – بعنوان : ( عقل الإله : أساس عقلاني لعالم منطقي ) جذبتني في مقدمته الممتعة العبارات التالية : ( ..فمن بين العلماء غير المتدينين بالمعنى التقليدي للكلمة نجد كثيرين يعترفون بشعور غامض بوجود ” شئ ما ” خلف سطح حقيقة الحياة اليومية – معنىً ما خلف هذا الوجود ؛ فثمة إحساس طاغ لدى أوساط أكثر العلماء راديكالية يجوز لنا ان نسميه : تبجيل الطبيعة ،افتتان و احترام لجمالها وأغوارها العميقة وحتى حماقاتها ، وهذا الشعور مماثل للرهبة والخشوع الديني . العلماء أناس حساسون جداً تجاه هذه الموضوعات ، على النقيض من سوء الفهم السائد بين الناس تجاه العلماء والحكم عليهمبأنهم أناس دونما روح ، قساة ، و باردون . …. ) ، ويمضي ديفيز في تأكيد فكرته قائلاً : ( أنا أنتمي الى جماعة من العلماء الذين لا يشتركون في دين تقليدي، لكنهم في الوقت ذاته ينكرون أن الكون حادثة لا غاية لها ، فمن خلال عملي العلمي توصلت إلى الاعتقادبقوةأن الكون الفيزيائي قد دُمِج سوياً بمهارة لاأستطيع قبولها كحقيقة مجردة فحسب، كما ينبغي لي أن أقول بأن ثمة مايوجب وجود تفسير أكثر عمقاً : فإذا أراد المرء أن يسمي ذلك المستوى الأعمق ( الله ) فذلك مجرد مسألة تعريف وميل شخصي . الأكثر من ذلك أنني توصلت إلى أن العقل – أي الإدراك الواعي للعالم والطبيعة – ليس سمة عرضية ؛ بل جانب أساسي تماماً من جوانب الواقع . أعتقد أننا – نحن البشر – موجودون داخل مخطط الأشياء بطريقة أساسية جداً … ) . حقاً يكاد المرء يندهش لفرط التهذيب ورقة الروح التي تنطوي عليها هذه العبارات المشعة شبيهة عزف الوتريات الموسيقية في السمفونيات الخالدة رغم أن الرجل يقارب موضوعة غاية في الأهمية و الحساسية : تلك هي الموضوعة التي توصف بالـ ( ربوبية Deism ) التي ترى أن ثمة عقلاً كونياً قادراً على اجتراح الأعاجيب الكونية في إطار ذلك المخطط العجيب المسمى ( التصميم الذكي ) الذي يميل اليه الكثير من العلماء المرموقين ولكن بلا أي توجه لمأسسة هذا الإعتقاد وتجسيده في اطار مؤسسات دينية بيروقراطية تميل حتما إلى فرض نوع من ثيوقراطية ( معلنة أو مضمرة ) ، وسيقود ذلك الإعتقاد حتما إلى نزع ستار اللاهوت الثيوقراطي المدعم بسلطة كهنوتية عن عقل الانسان ، و ستنحل المسألة الإيمانية من معضلة إشكالية – سُفِكت في سبيلها الكثير من الدموع والدماء – لتغدو محض قناعة شخصية تحكمها قواعد فلسفية وجمالية ترمي لرفع منسوب الدهشة المحفزة المفضية إلى الإرتقاء بنوعية حياة الانسان والكائنات الأخرى ؛ ومن هنا إستحقت تسميتها بجدارة : لاهوت الإرتقاء في مقابل اللاهوت الكهنوتي الذي يدور حول شروحات لمواضعات متلاحقة في إطار لعبة غير منتجة .
يحيلنا ( بول ديفيز ) ولاهوته الإرتقائي إلى فضاء مدهش من فضاءاتنا الإنسانية النادرة في رصيد تراثنا المثقل عسفاً وسطوة قامعة : ذاك هو الفضاء العرفاني وتوأمه التصوف الجميل اللذان شرعا منذ قرون عديدة في تهشيم صورة اللاهوت الكهنوتي وبث إشعاعات الحرية في علاقة الفرد بالقوة العلوية ؛ لكنما سيف القوة الغاشمة كان أسبق في لجم ذلك البصيص الضئيل من الأمل ، وأحسب أنّ مَنْ يقرأ في كتابات عرفانيينا الأعاظم من المعتزلة الكبار سيجد الكثير من الدعوات إلى اللاهوت الإرتقائي سواء في هيئة نثر جميل تخلص من الزوائد المعهودة في البلاغة العربية أو في هيئة قصائد باذخة في إنسانيتها الكونية التي تعلي شأن الجوهر الفردي وأسبقيّته على أي مواضعات لاهوتية كهنوتية .