صدر عن دار “كتاب ناشرون” التابعة لدار الكتب العلمية ببيروت، كتاب موسوم بـ: “مفهوم الطبيعة عند ابن العربي: بحوث حول مرتبة الطبيعة في رؤية الشيخ الأكبر” تأليف مشترك، بين الشيخ عبد الباقي مفتاح، الجزائري، رائد العرفان الأكبري في العالم، وصاحب اكتشاف المفاتيح القرآنية والوجودية للفتوحات والفصوص، وبين الباحث التونسي في مجال الإسلاميات والتصوف محمد الصالح الضاوي، في تجربة متميّزة شكلا ومضمونا عن التآليف السابقة التي اكتفى فيها الضاوي بالتأليف والشيخ مفتاح بالإشراف والمراجعة.
ويعد هذا الكتاب: الثالث في السلسلة المعرفية التي تتناول الحقائق الوجودية الكبرى في التراث النبوي الأصيل، سبقها: كتاب: أولى الحقائق الوجودية الكبرى، وكتاب حقيقة العرش في رؤية الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، عن نفس الدار، ضمن مشروع ضخم يتناول بالإخراج والتعليق كنوز الصوفي الأندلسي ابن العربي، ويضع أمام الباحثين والطلبة مجموعة من المواضيع المتعلقة بالعلوم الروحية.
والكتاب من الحجم الكبير، يقع في 176 صفحة، ويحتوي على مقدمة وخاتمة، وقسمين من البحوث، تولى الشيخ مفتاح تحرير القسم الأول المتعلق بالطبيعة في رؤية أهل العرفان، حيث بيّن في الفصل الأوّل مرتبة الطبيعة وآثارها عند الشيخ الأكبر (ت 638 هـ)، ويبدأ بتعريف مفهوم الطبيعة وكنهها، فيجعلها مجموع حقائق أربعة، لأملاك أربعة، تعلقت بالحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة. ومجموع هذه الحقائق يعطي حقيقة خامسة تسمى: الطبيعة، فهي مرتبة معقولة من مراتب الوجود، تأتي في الرتبة الثالثة بعد القلم واللوح المحفوظ، وهي كالرحم للعرش وما حوى. وركّز الكاتب على طبيعة الطبيعة، المتسمة بالمعقولية والانفعالية كما جاء في فتوحات الشيخ ابن العربي. فمعقوليتها يعني انعدام وجودها العيني، وفيها يقبل العالم العدم لهذه الخاصية، كما قبل الوجود من الحق لوجوده العيني والعقلي. وانفعالها يعني قبولها لتكوين الأشياء فيها، بأمر الله تعالى، حتى غلط بعضهم، فنسب إليها الخلق والتكوين، وأنصفها البعض الآخر، فنسب إلى الله التأثير والوهب، ونسب إليها القبول وظهور الآثار.
ثمّ يشير الشيخ مفتاح إلى رؤية الأمير عبد القادر (ت 1300 هـ) في كتاب “المواقف” عن الطبيعة، باعتبارها حقيقة إلهية أعلى من العالم، تفعل بباطنها، الصور الأسمائية ومادتها العماء، والصور الروحية (القلم اللوح) ومادتها النور، وصور الأجسام غير العنصرية (العرش والكرسي وفلك البروج وفلك المنازل) ومادتها الجسم الكل، وتفعل بقية صور ما حواه العرش ومادتها معروفة… وبالتالي: فإن ما يظهر في الطبيعة هو آثارها لا عينها، وحقيقتها سارية في كل مستويات الوجود، من اللطافة إلى الكثافة، فهي “أمر الله، وأمر الله باطنها”.
وينتقل الشيخ مفتاح إلى رؤية عبد الكريم الجيلي (ت 832 هـ) من خلال كتابه: “مراتب الوجود”، الذي تحدّث عن مرتبة الطبيعة، التي يسميها: الطبيعة المجردة عن الاستقصاءات (الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة) والأركان، فهي، بالنسبة إلى هذه الحقائق الأربعة، كالمداد للحروف، وكالصوت للحروف اللفظية، أي كنهها وباطنها وحقيقتها. ثم يختم الفصل الأوّل بنصّ للقونوي (ت 672 هـ)، أبرز تلاميذ الشيخ الأكبر، يفسّر فيه الحديث النبوي المتعلق بالرحم وتعلقها بالعرش، باعتبار أن الطبيعة كالرحم للكون.
وأما الفصل الثاني، فقد خصّصه الشيخ مفتاح، في بيان نضد العالم على الظهور والترتيب، وترتيب العالم بالمكان الوجودي في عالم الدنيا، ثمّ عالم الآخرة، وترتيب العالم بالمكانة، وأخيرا، المضاهاة بين مراتب الكون ومستوياته، وحقائق الإنسان المناسبة، والحضرة الإلهية.
وألحق الشيخ عبد الباقي مفتاح، في آخر القسم الأول، نصوصا من كتاباته السابقة، كشف فيها مفاتيح فصوص الحكم، من خلال الربط بين مستويات الوجود والسور القرآنية وعنوان الفص المناسب.
أما القسم الثاني من الكتاب، فقد أثثه الباحث محمد الصالح الضاوي، الذي تتبع مسائل الطبيعة في الفتوحات، ودقائقها، ومختلف اللطائف المتعلقة بها، فبدأ بعلوم الطبيعة عند الشيخ الأكبر، ثمّ حقائقها، وحكمها وأثرها، وتكلّم عن علاقة الطبيعة مع كلّ من البروج والزمن والملائكة والميزان والنشأة الآخرة والحبّ والتجلي والصور والظلمة، كما تحدّث عن طبيعة الطبيعة، فذكر عدّة أسرار عرفانية أكبرية، من ذلك علم الحلاج المتعلق بطول العالم وعرضه، وكذا في عالم الحروف، ومعناه فعله في عالم الروحانيات (الطول) وفعله في عالم الطبيعة (عرضه) لاشتراك العدم بين الطبيعة ومصطلح العرض. ومثل التناسب بين الطبيعة والعقل، حين يتحدّث عن عوالم أربعة: الحس والطبيعة والمعاني الروحية والعلم الإلهي. ومثل الحديث عن الطبيعة المجهولة، والطبيعة وخاصية التربيع (استنادها إلى حقائق أربعة)، ومثل اعتبار الطبيعة أصل الحقائق كلها، ويجعل منها: الطبيعة العظمى، التي من صورها: العماء أو النّفس الرحماني.
ويخصّص المسألة الأخيرة (رقم 19) لذكر عشرين لطيفة أكبرية، منها: الهواء نَفس الطبيعة، والطبيعة أم والروح أب، والتربيع في الوجود، السماع الطبيعي، والطبيعة والمسبعات، والطبيعة ورؤى الشيخ الأكبر، وأصل الطبيعة، وخلق الإنسان من قبل الإنسان، وهو موضوع جريء يؤكده الشيخ الأكبر، ويعلن إمكانيته النظرية بشروط، ويذكر حتى تجربة عملية وقعت، فيقول ص 164: [وقد ذكر، أنه وقع مثل هذا، وذكر في الفلاحة النبطية، أن بعض العلماء بعلم الطبيعة كوّن من المني الإنساني بتعفين خاص، على وزن مخصوص من الزمان والمكان، إنساناً بالصورة، وأقام سنة، يفتح عينيه ويغلقها، ولا يتكلم، ولا يزيد على ما يغذى به شيئاً، فعاش سنة ومات، فما يدري، أكان إنساناً، حكمه حكم الأخرس؟ أو كان حيواناً في صورة إنسان؟].
وفي الخاتمة، قال الضاوي ص 173-174:
[يمكننا، بعد أن اطلعنا على الرؤية الأكبرية للطبيعة، أن نستنتج، أن الشيخ الأكبر لم يخالف الفلاسفة الإغريق والعرب فقط، بل قام بإرجاع الطبيعيات إلى العلوم النبوية الأصيلة، بعيدا عن تدخلات النظر الفكري التي، ما فتئت تشعب الموضوع ولا تقدم إلا حقائق مبتورة. وهو بالتالي قد ساهم في حل الإشكالات التي نقلها الفكر الفلسفي، وفض التناقضات التي ما فتئت تقض مضجع العلماء الطبيعيين.
فعلى المستوى الأنطولوجي، قدم لنا الشيخ الأكبر رؤية متكاملة، تبدأ بتحديد المرتبة الوجودية، وطبيعتها المعقولة، مع شرح لامتدادها الوجودي إلى النفس الرحماني وأم الكتاب، أي إرجاعها إلى الذات الساذجة (الذات بلا تعين)… كما علمنا أن الطبيعة، في مستوى الرتبة، هي العنصر الخامس الجامع للعناصر الأربعة الروحانية الوجودية، وأن الصور الطبيعية تفتقر دائما للقوى الروحانية الفاعلة فيها…
أما على المستوى الأبستمولوجي، فقد بينا في مسائل الطبيعة، كمّا هائلا من المعارف العرفانية والحقائق الحقية، أظهرها الشيخ الأكبر، وأبدع في تفاصيلها، مما قطع مع النظرة الفلسفية السطحية للطبيعة، ودعم منظومة معرفية متكاملة، يدل تدفقها الإلهامي على استقلالية المصدر الأكبري وعلوه، وعلى قوة حجته وعمق حقائقه. والدارس لهذه الحقائق، يجعله متيقنا من أن ابن العربي يعد بحق، الشيخ الأكبر للعرب والإغريق، وللمتكلمين والفلاسفة والصوفيين على السواء.
ولسنا نبالغ، إذا أكدنا أن مقام الفلاسفة أمام الشيخ الأكبر، لا يعدو أن يكون مقام المريد أمام شيخه، بل مقام الوهم أمام مقام الحقيقة…
فالطبيعة مع الشيخ الأكبر، أخذت حظها من الحقائق، في التعريف والتأصيل والترتيب الوجودي، والأسباب والمناسبات، والخصائص والصفات، وفي مقتضياتها وسريان حقيقتها في مختلف المراتب والمقامات، وفي علومها…. ويكفي الاطلاع على نظريات الفلاسفة اليونانيين في الطبيعة، لنعرف الفرق بين الرؤية الإلهامية والنظر الفكري… ولنعرف سخافة الرأي القائل أن الشيخ الأكبر تأثر بالفكر الفلسفي اليوناني… ].
وأخيرا، يمكننا الجزم، أن الكتاب جهد متميّز من كاتبين تخصّصا في الدراسات الصوفية وفي تراث الشيخ الأكبر، حيث تضمن جملة من الحقائق واللطائف الجديدة في عالم العرفان، تجاوزت النظرة الفلسفية والكلامية والحسية للطبيعة… كما قدّمت رؤية إسلاميّة مستقلّة، لموضوعّ، لم يحض بالبحث والدرس من زاويته الصوفية… والكتاب جدير بالقراءة والمتابعة العلمية، لأنه بحقّ يمثل مرجعا فريدا للباحثين، وإضافة متميّزة، وثراء للمكتبة الصوفية.