*د. عز الدين عناية
الحديث عن المثقف الغربي في المطلق دون التطرق إلى خلفياته الدينية والتراثية، نوع من الخداع للذات والتحايل على الواقع، فكلّ مثقّف تحكمه بنية ذهنية عميقة، وأبرز ما يتجلى ذلك في المكوَّن الأنثروبولوجي اليهودي المنضوي تحت الحضارة الغربية، لكن ذلك التنوع في البنى الذهنية لا يلغي الولاء إلى حاضنة حضارية جامعة والإذعان إلى هياكل مؤسساتية شاملة، ولا ينفي كذلك وجود مشترك واسع يلتقي فيه المثقف المسلم في الغرب مع نظيره المستند إلى التراث المسيحي والمنظور العلماني. وغالبا ما تعْمد الرؤى المغالية، على مستوى ديني وعلى مستوى سياسي، إلى طمس ذلك المشترك الرحب، وتحويله إلى مواجهة حادة مباشرة.
لعبت وسائل الإعلام والاتصال الحديثة في العقود الأخيرة، دوراً في فكّ العزلة عن المسلمين في الغرب. فبعد أن كان النظر إلى جموع المهاجرين المستوطنين بالغرب، على أنهم شذاذ آفاق، لا نفع منهم يرجى سوى ما يجلبونه من عُمْلة صعبة من المَهَاجر إلى بلدان الأصل، بات الانشغال بهم والتعويل عليهم حثيثا في العديد من الرهانات السياسية والاقتصادية، وربما الثقافية في المستقبل المنظور، بوصفهم رديفا لا غنى عنه في الحراك العام.
فتلك التحولات التي لحقت بالجموع التابعة فيما سبق إلى البلدان الإسلامية، أمْلت بالمثل إعادة نظر في دوْر شرائح المثقفين منهم أيضا، من حيث إسهامهم الإضافي والمرتقَب في مجتمعاتهم الأصلية، جنب أدوارهم الأساسية في مجتمعاتهم الغربية الحاضنة. بناء على أن تأثير المثقف وإشعاعه ما عاد رهين المجتمع الماكث فيه، بل يتعداه إلى غيره بفعل سرعة التواصل الحاصل اليوم. سوف لن ينصبّ حديثنا عن المهاجرين بشكل عام في هذه الورقة، بل سيتركّز حصرا في العامِلين في القطاع الثقافي. حيث يُشكّل الانتماء الحضاري الأصلي، لدى شريحة مهمّة من المثقفين المسلمين في الغرب، مرجعيةً مضمَرةً في الحضور في الغرب والتفاعل معه. ونقصد بالبُعد الثقافي الإسلامي وبالمثقف المسلم في الغرب، في هذه المداخلة، الانتساب الحضاري بوجه عام، وليس الإقرار الإيماني بمدلوله العقدي الفقهي، بما يجوز دمج المسيحي العربي وشتى أتباع النِّحل المشرقية غير المسلمة، التي احتضنها الفضاء الحضاري الإسلامي، ضمن هذا النعت العام. لِما بين تلك الشرائح المهاجرة والتي باتت مستوطِنة في الغرب من تواشج وتقارب في الملامح. فمن التسرّع القول، إن المسيحي العربي المهاجر هو أقرب إلى المسيحي الغربي بدعوى وحدة الدين، بل يبقى في الواقع أقرب إلى صنوه المسلم المهاجر والمستوطن، في هواجسه وتطلعاته وإشكالياته.
إذ يجد المثقف المسلم نفسه مشدودا إلى مجموعته الحضارية السالفة، حتى وإن شملته الحاضنة الكبرى للغرب. ورغم مساهمة ذلك المثقف في أنشطة المؤسسات الثقافية الغربية: رسمية كانت أو عمومية أو خاصة، والتي عادة ما توظف الخلفية الثقافية للمنتمي إليها، أو تستعين به لطبيعة تكوينه الأكاديمي المتميز، بقصد إحداث إضافة نوعية للمؤسسة، أكان في المجال الإعلامي أو التعليمي أو البحثي أو ما شابهه. فالمثقف المسلم الغربي وعلى غرار نظيره المثقف الكاثوليكي أو اليهودي، ينظر جميعهم إلى الواقع بشتّى تفاعلاته من خلال خلفياتهم التراثية، وهو ما لا يعني ولاء والتزاما بالمدلول العقدي والمحدّد الإيماني الضيق، وإنما هو مجرد مرجعية ثقافية رؤيوية لا غير. بَيْد أنّ ذلك الاندماج المشار إليه للمثقف المسلم، في النشاط الثقافي في الغرب، لا يلغي ما قد يشكّله الانتماء الحضاري الأصلي للمثقف المسلم من إشكاليات مركّبَة في لحظات التأزم. لتشهد أواصر الانتماء السالفة انتقادا، وقد تتطور إلى اتهام من طرف المؤسسة الجامعية المنتمي إليها أو جهات سياسية مناهضة. وبرغم المسافة المفترَضة -على مستوى تاريخي وواقعي- التي تفصل المثقف المسلم عن وقائع المجتمعات الإسلامية، فالمخيال الجمعي الغربي غالبا ما ينصّبه غصبا وعنوة ممثِّلاً لتلك الحضارة المأزومة وطرفا فيها.
العودة إلى الهويّة
ضمن ما أسلفنا الإشارة إليه في مستهلّ حديثنا بشأن ما لثورة الاتصالات من أثر في فك العزلة عن الجموع المسلمة المستوطِنة بالغرب، ترافقت تلك التحولات بحرص في العقود الأخيرة في أوساط الجاليات المسلمة على التشبث بعناصر الهوية الأصلية والسعي في تطويرها داخل الغرب. وقد تجلى ذلك في أوساط الجاليات العربية، خصوصا في الإصرار على تعليم الأبناء من مواليد المهجر العربية، بعد أن ساد إهمال لها طيلة عقود، حتى بلغ بالأجيال الأولى حدّ التفاخر برؤية الأبناء، وقد تناسوا لغة الأجداد، هذا فضلا عن الحرص على أداء الشعائر الإسلامية والاحتفاء برموز الهوية السالفة، وصولا إلى التزيي بأزياء البلد الأصلي بشكل مريع أحيانا، والتي قد تتحول إلى أضاليل وأوهام خادعة في المهجر. في هذه الأجواء مثّل العنصر الديني في الثقافة الإسلامية في الغرب عنصرا إشكاليا، جراء التعويل في استجلابه وتوريده من البلدان الإسلامية بشكل بضائعي، دون واقعية تنزيله في مجتمعات غربية يغلب عليها الطابع المسيحي العلماني ودون التنبه إلى شروط التعايش المطلوبة دون مغالاة.
والصواب أن الثقافة الإسلامية في الغرب تحتاج إلى تمتين عرى التواصل مع واقعها «الجديد»، من خلال خلق تفاعل مع المجتمعات الحاضنة، وألاّ يختلق المثقف المسلم الصِّدام المؤدي إلى الصراع مع الثقافة الغالبة والمهيمنة، بعد أن قطع شوطا في الانتماء إلى المجتمعات الغربية. وحتى في حال بروز خلافات أو تجاوزات ينبغي التعاطي معها برصانة، خالية من التشنج والانعزال. فالمثقف المسلم مدعو إلى الكف عن التعامل مع الغرب بمثابة الآخر، بل بوصفه جزءا منه، وإن تخللت انتماءه مصاعب أو عثرات، وهي بالفعل موجودة ومتفاوتة بين بلد وآخر، ينبغي أن يعمل من داخل مؤسسات الغرب لتغييرها وتحويرها.
الاندماج والاغتراب