هل هناك أفكار تافهة؟ غالبيتنا سيسارع إلى الإجابة عن هذا السؤال بنعم. كيف لا تكون هناك أفكار تافهة، والعالم مملوء بهذا القدر من السخف والتفاهة؟ وإذا لم نحدد ما التافه من الأفكار، فكيف السبيل لمعرفة ما الجاد والعميق منها؟، أليست الأمور تُعرف بالمقارنة؟
أقام ميلان كونديرا «حفلة للتفاهة» في روايته، التي تحمل الاسم نفسه. لم يكن الكاتب في هذه الرواية يهجو التفاهة، وإنما كان يمجدها، على الأرجح؛ حيث يكاد يبلغ بنا إلى الاعتقاد بلا جدوى كل ما حولنا، ساخراً من المعاني والأفكار والشخوص التي نعدها، أو كنا نعدها عظيمة.
هذه الرواية ذات منحى فلسفي، لا أريد لنفسي ولا لكم الغرق فيه في هذه العجالة، فما أنا بصدد الإشارة إليه هو أن الكثير مما نحسبه تافهاً قد لا يكون كذلك، إذا أحسنا مقاربته. وما حفزني على هذا الحديث ليس رواية كونديرا، وإنما كتاب صغير في غاية الإمتاع للكاتب جيروم. ك. جيروم، حمل العنوان الدال التالي: «أفكار تافهة لرجل كسلان»، عقد فيه الكاتب العزم على أن يجعل من أفكار نحسبها تافهة موضوعات لكتابه الشائق هذا.
هذا الكتاب يقول لنا، دون أن يجاهر صاحبه بذلك، إن «التافه» يمكن أن يتحول إلى جاد، أو للدقة إلى موضوع باحث على الاهتمام، كي لا نختلف على المقصود بالجاد.
كان الكاتب مهموماً بالفكرة التالية: الكتابة عن شيء جديد تماماً. شيء لم يكتب أو يتكلم فيه أحد من قبله؛ لكن هل ثمة من موضوع لم يكتب فيه من قبل؟ في بلدان المغرب العربي يقول المثل الشعبي: «ما خلو الأولين واش يقولوا الأخيرين».
ربما يكون صاحبنا جيروم انطلق من اعتقادٍ مفاده أن الكتّاب ميّالون إلى التسابق على الموضوعات الجادة، وبالتالي فإن ما أغفلوه سيدخل في خانة «التافه»؛ لكن ما وصفه هو في عنوان كتابه ب «الأفكار التافهة» لم تعد كذلك، بعد أن كتب عنها ما كتب.
ذات صباح كسلان، قال الكاتب لخادمته: أريدك أن تحددي لي موضوعاً لم يسبق أن كتب عنه أحد كلمة واحدة. ضحكت المرأة التي لا تقرأ شيئاً سوى الإنجيل ومجلة الأخبار الأسبوعية وأجابته: إنك رجل غريب الأطوار، وبعد أن رجاها بأن تفكر معه، فكرت ملياً، وقالت وهي تحمل صينية الشاي: «اكتب عن الطقس فلقد كان فظيعاً هذه الأيام».
وسأختم بالاعتراف لكم أني كنت أنوي الكتابة عن بهجتي بالنسمات العليلة التي بدأت تهب علينا بعد شهور الحر والرطوبة الخانقة، وتذكرت ما قرأته على لسان الخادمة في مقال جيروم، وحين عدت إليه وجدتني أكتب ما كتبت هنا، وأنسى الطقس.