ثلاث خسائر مُني بها العرب دفعة واحدة في معركة اليونسكو الأخيرة. الأولى لبنانية وقد تمثلت في عدم ترشيح لبنان المفكر غسان سلامة إلى منصب الامانة العامة واختياره مرشحة شبه مجهولة تدعى فيرا خوري لاكويه، نصفها لبناني ونصفها الآخر فرنسي. وكانت صحيفة لوموند الفرنسية أعلنت خسارتها مسبقاً في تحقيق أجرته حول معركة اليونسكو، وذريعتها أن من يدعمها هو رجل أعمال «ذو سمعة سيئة». أما الخسارة الثانية والثالثة فهما مصرية وقطرية، مع أن وزير الثقافة القطري حمد الكواري تمكّن من استقطاب ثمانية وعشرين صوتاً مقابل الأصوات الثلاثين التي حازتها المرشحة الفرنسية الفائزة أودري أزولي، وقد نافستها المصرية مشيرة خطاب في الدورة ما قبل الأخيرة، منافسة «ندية».
إنها المرة الثالثة التي يخسر العرب فيها معركة هذه المنظمة الثقافية العالمية وخسائرهم لم تكن فادحة انتخابياً، فهم كادوا يصلون ولكن… الوزير السعودي الراحل غازي القصيبي نافس عام 1999 المرشح الياباني كوتشيرو ماتسورا وكادا يتعادلان. وفي عام 2007، نافس الوزير المصري فاروق حسني المرشحة البلغارية ارينا بوكوفا بشدة لكنها ربحت والفارق كان قليلاً.
هل هو حظ العرب يعاكسهم أم أن الحالة العربية الراهنة هي التي تحول دون هذا «الفوز»؟ كل الأجوبة ممكنة، لكنّ ما يدعو إلى الأسف أن العرب لو فازوا في هذه الدورة لكان فوزهم كبيراً، غداة إعلان الولايات المتحدة وإسرائيل انسحابهما من منظمة اليونسكو، متهمتين إياها بـ «معاداة إسرائيل» وآخذتين عليها قرارها الشهير الذي صدر قبل أشهر وقضى بإدراج المدينة القديمة في الخليل وقبر البطاركة ضمن الأراضي الفلسطينية. وكان معيباً وصف بيان مكتب نتانياهو اليونسكو في كونها «مسرح عبث»، مضيفاً أنها «بدلاً من أن تحفاظ على التاريخ تقوم بتشويهه». ومعروف جيداً، حتى في نظر بعض المؤرخين اليهود، أن السلطة الإسرائيلية هي التي تمعن في تزوير التاريخ والجغرافيا، وقد اعتمدت أساليب ماكرة لـ «تأسرل» الأراضي المحتلة. لكن الأركيولوجيا ما برحت تخيّبها ولم تمنحها حتى اليوم ذريعة أثرية تؤكد أسطورتها الواهية. لم تشف إسرائيل بعد من الجرح الذي أحدثه فيها فوز فلسطين عام 2011 بعضوية كاملة في اليونسكو، والأمل أن يسلك هذا الفوز الكامل طريقه إلى الأمم المتحدة. لكن ما أن أعلنت إسرائيل قرارها الانسحاب من اليونسكو حتى عمد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تقديم الفوز الفرنسي إليها، مذكراً إياها، وفقاً لصحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، بأن أودري أزولي يهودية وأنها المرة الأولى التي يفوز فيها يهودي بهذا المنصب. هذا أمر معيب حقاً. هل يجوز تقديم الهوية الدينية على الهوية الوطنية في فرنسا، بلد العلمانية والحرية والمواطنة والإخاء، كما علمنا التاريخ؟ أليست أودري أزولي وزيرة الثقافة السابقة، مواطنة فرنسية قبل أن تكون يهودية؟ ألم تفز كمرشحة علمانية؟ منذ متى يوصف المواطن في فرنسا بطائفته أو مذهبه؟ لكن كرمى لإسرائيل، كل الأخطاء ممكنة. أما المفارقة فهي أن المرشحة اليهودية الفرنسية لم تكن لتفوز بالمنصب لو لم تتنازل لها المرشحة المصرية مشيرة خطاب فتمنحها أصواتها كاملة. وكان مستحيلاً أن تمنح المصرية أصواتها للمرشح القطري حمد الكواري، بعدما بلغ الصراع أوجه بين قطر ومصر ودول مجلس التعاون الخليجي.
كانت الخسارة اللبنانية فادحة جداً، لا لأن لبنان لم يفز، وهو لم يكن متوقعاً له الفوز أصلاً عبر مرشحته أو مرشحة وزارة خارجيته، بل لأن الخسارة عبّرت عن تهالك الدولة اللبنانية وتراجعها الثقافي. تجاهل وزير الخارجية جبران باسيل، المفكر غسان سلامة، ولعله يجهل من هو، وسارع إلى ترشيح فيرا خوري لاكويه، مخالفاً رغبة المسؤولين الآخرين، وهي أصلا نائبة ممثل جزيرة سانتا لوتشيا في اليونيسكو. وعندما فقدت رصيدها الذي بالكاد حصلت عليه ولم يبق لها سوى ثلاثة أصوات، نصحها الرئيس سعد الحريري ووزير الثقافة غطاس خوري بالانسحاب، لكن باسيل أصرّ على خوضها المعركة إلى النهاية، فخسرت وخسر معها لبنان… وما زاد من حجم خسارتها تصريحها الهزيل وغير المبرر، وهو أنها انسحبت «بعدما أخذت المنافسة أبعاداً سياسية». وكأن المنافسة تاريخية أو فنية أو جمالية وغير سياسية.
_________
*الحياة