الرواية والتاريخ..الجدل مستمر

*محمد الأسعد

في العام 1976 نشر كاتبُ الروايات الخيالية الأمريكي «مايكل كرايتون» (1942- 2008) سيرة متخيلة حملت عنوان «آكلو الموتى..مخطوطة ابن فضلان تروي تجاربه مع الرجال الشماليين في العام 922 ميلادية»، وغيّر اسمها في طبعتها الثانية إلى «المحارب الثالث عشر» اتساقاً مع تحويلها إلى فيلم سينمائي حمل هذا العنوان نفسه في العام 1999.
وذات يوم وقع في يدي كتاب للدكتور حيدر محمد غيبة عن رحلة ابن فضلان، يقول في مقدمته أن زوجه لفتت نظره إلى رواية كرايتون، فرأى فيها صفحات مجهولة من مخطوطة ابن فضلان الأصلية التي حققها ونشرها د.سامي الدهان (1910- 1971) في العام 1959. وبتأثير رؤيته هذه قام بجمع نص المخطوطة المحققة على يد د.الدهان إلى النص الذي تخيله كرايتون، وأصدرهما في العام 1991 عن الشركة العالمية للكتب في دمشق، وفي طبعة ثانية في العام 1994، مع مقدمة، في كتاب واحد حمل عنوان «رسالة أحمد بن فضلان، مبعوث الخليفة العباسي المقتدر إلى بلاد الصقالبة، عن رحلته إلى بلاد الترك والخزر والصقالبة والروس واسكندنافيا في القرن العاشر الميلادي»، معتقداً أنه استكمل بعمله هذا رحلة ابن فضلان.
لأنني كنت على معرفة برواية كرايتون، وأنها من القصص المتخيلة، ولأنني كنت مشغولاً بمتابعة أخبار ابن فضلان وعصره وأنا أتهيأ لكتابة روايتي «شجرة المسرات.. سيرة ابن فضلان السرية»، كتبتُ مقالة قصيرة حين وقع في يدي كتاب د. غيبة، ونشرتها في مجلة «الزمن» الأسبوعية في الكويت (مطلع العام 2001) نبهت فيها إلى الخطأ الذي وقع فيه، ولكن يبدو أن تلك المقالة لم تُقرأ على نطاق واسع، ولا وصل التنبيه إلى المجتمع الثقافي العربي.

وواصلت إضافة كرايتن المتخيلة إلى سيرة أحمد بن فضلان رحلتها في اللغة اللغة العربية، فانتقل ظنُّ أنها صحيحة تاريخياً إلى الكاتب والشاعر من المغرب، أحمد عبد السلام البقالي (1932-2010)، فالتقط رواية كرايتون من بائع كتب مستعملة كما يقول في «طنجة»، وانتابه شعور أن هناك نقصاً في النسخة العربية (النسخة التي حققها د.الدهان) وفي نسخة كرايتون الانكليزية، فجمع بين النصين، كما فعل د. غيبة قبله، وأخرج كتاباً عنوانه «مغامرات سفير عربي في اسكندنافيا منذ ألف عام» طبعته مكتبة العبيكان في العام 2003، من دون أن يعرف حتى أن هناك من سبقه إلى ظنه في المشرق العربي.
وانتقل الظن ذاته إلى د.أحمد أبو مطر (1944- 2016)، فقرأت له مقالة من جزأين على صفحات الموقع الإلكتروني «إيلاف» تتناول رحلة ابن فضلان إلى بلاد البلغار والترك والصقالبة والخزر (الرحلة الأصلية) ورحلته المتخيلة إلى البلدان الاسكندنافية على أساس كتاب د. غيبة، وأنها رحلة صحيحة تاريخياً، فأرسلتُ له رسالة بوساطة البريد الإلكتروني كررت فيها التنبيه، وأوضحت له أن ناشر رواية كرايتون نفسه لم يدرجها تحت بند التأريخ أو التوثيق بل وضعها تحت بند الروايات الخيالية. وكان أن اعترف د. أحمد (12 يناير 2006) بأنه أخطأ واعتذر، بل وأضاف معلومات تؤكد صحة ما ذهبتُ إليه؛ مستقاة من رسالة وصلته من الشاعر المقيم في الدنمارك، جمال جمعة، ومن مقدمة الكاتب والشاعر شاكر لعيبي لمخطوطة ابن فضلان الأصلية الصادرة عن دار السويدي في الإمارات، بالاشتراك مع المؤسسة العربية للدراسات والنشر في العام 2003.
وانتقل إغراء ما تخيله كرايتون إلى كاتب نصوص المسلسلات «حسن م. يوسف»، فترجم كما قيل إضافة كرايتون الخيالية ودمج معها فقرات من رسالة ابن فضلان الأصلية، وخرج بمسلسل تلفازي تاريخي من 30 حلقة، حمل مسمى «سقف العالم» في العام 2007، يكاد يكون اقتباساً لفيلم «المحارب الثالث عشر»، أو نتاج قراءة، على الأرجح، لكتابي د.غيبة وأحمد البقالي، ويتجاهل في الوقت نفسه أن تسمية «سقف العالم» تطلق كما هو معروف على مرتفعات التيبت الصينية، وليس على البلاد الاسكندنافية.
* * *
إن أي استعراض للتواريخ، سواء تلك التي نشرت فيها فصول رحلة ابن فضلان المتخيلة على أنها وثيقة تاريخية تكمل نقص مخطوطته الأصلية، أو تلك التي تم فيها التنبيه على هذا الخطأ في مقالتي أو مقدمة شاكر لعيبي أو اعتذار د.أبو مطر، يظهر حاجة الثقافة العربية إلى بحث أزمة غير مسبوقة في تاريخها؛ فاللسان الواحد، وتطور وسائل الاتصال عبر الأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت، وما تسمى وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار مشاهد العاكفين على هذه الوسائل في المقاهي والمضافات والديوانيات، كل هذا لا يبدو أنه يؤمن توصيل معلومة ثقافية واحدة بين أجزاء عالم عربي واحد، فما بالك بما يموج به العالم الأكبر من تيارات وأفكار ومعلومات.
والآن، ما هي إضافة كرايتون الخيالية التي اجتذبت كل هذا الاهتمام، إلى درجة وقع في وهم بعض العرب معها أنها تروي جزءاً نفيساً من تاريخهم؟ وما هي صلتها برحلة ابن فضلان؟
الواضح من قراءة الإضافة الخيالية ومشاهدة الفيلم الذي يؤدي دور ابن فضلان فيه ممثلٌ ذو ملامح أندلسية، أن الإضافة والفيلم يقومان على أساس فكرة ما بعد- حداثية، أي على أساس النظر إلى الأحداث التاريخية، ليس كما وقعت فعلاً، بل كما كان من الممكن أن تحدث، أو وفق ماهو محتمل، أي إعادة صياغة الموروث في ضوء إمكانياته المتعددة. وتخلق حرية التخيل هذه نصاً جديداً، أو واقعاً تاريخياً جديداً، يتصالح فيه المتدين والوثني، ويخوض الاثنان صراعاً مشتركاً ضد المجهول، أو ماهو شر مجهول يواجه البشرية سواء اتخذ سمة العنف الذي لا معنى له أو الخرافة أو الهمجية.
تتألف إضافة كرايتون، أو نصه الجديد هذا، من حكايتين تمتزجان ببراعة؛ الأولى: جزء من حكاية ابن فضلان في رحيله إلى مناطق القوقاز، ولقائه بالشعوب القاطنة على ضفاف نهر الفولجا (بالبلغار الذي أسلموا لتوهم، والترك الخزر المتهودين، والروسية القادمين من الشمال للغزو أو للتجارة)، والثانية: أسطورة البطل الملحمي «بيوولف»، بطل أقدم ملحمة في اللغة الانكليزية تروي مغامرات تقع أحداثها في اسكندنافيا. في هذه الملحمة ينطلق «بيوولف» لمساعدة الملك الدنمركي «هورثغار» الذي يهاجم قاعدة ملكه وحش يدعى «جريندل». وبعد أن يقتل البطل هذا الوحش، تهاجمه أمه فيتغلب عليها، ويعود بعد ذلك إلى بلاده، إلى قبيلة من قبائل الشمال تتوجه ملكاً.
هذا ما يقوله كرايتون عن تقانة روايته، ولكنني لمحت فيها استدخالاً لأسطورة ثالثة أيضاً من أساطير الشمال الاسكندنافي شهيرة باسم «محارب الفايكنج إيريك»، أساسها رحيل مجموعة من المحاربين بحراً للوصول إلى ما يتخيلون أنه حافة الأرض، ومعرفة ماذا هناك. وتكاد تكون هذه الأسطورة جوهر المغامرة، حين تصل المجموعة إلى قوم يستنجدون بها لصد عدو مجهول يرتدي محاربوه، كما سيكتشف فيما بعد، أقنعة ذئاب تبث الذعر والخوف، فيتصدى إيريك ومجموعته لهؤلاء الأعداء، وينجح في القضاء عليهم بعد أن يكشف عن وجوههم البشرية تحت الأقنعة وهذا هو ما يحدث مع مجموعة الثلاثة عشر محارباً ومعهم ابن فضلان الذي يضمونه إلى فريقهم مع حصانه العربي الرشيق.
في رواية كرايتون لايكمل ابن فضلان رحيله إلى ملك البلغار كما حدث في مخطوطة رحلته الأصلية، بل يأخذ منها مصادفته للفايكنج، أو الروسية حسب تعبير ابن فضلان، على ضفاف النهر، وشهوده لبعض عاداتهم، وأبرزها إحراقهم لزعيم من زعمائهم في سفينته بعد وفاته. ثم يختارونه للذهاب معهم لإنقاذ ملك من ملوكهم يتعرض لغارات أعداء مجهولين، لايهاجمون القرى والمدن الشمالية إلا حين ينتشر الضباب، وهم يرتدون أقنعة دببة وثيران. ويكشف العربي حقيقة العدو؛ فهم بشر يمكن أن يموتوا أيضاً، إلا أنهم من آكلي اللحوم البشرية، وتنتمي «ديانتهم» إلى أقدم ديانة عرفتها البشرية؛ عبادة الآلهة الأم أو الأرض.
ويضع ذكاء ابن فضلان وقوة مراس الفايكنج حداً للخوف بعد قتال عنيف، وبعد قتل معبودة المتوحشين الأرضية، مصدر قوتهم، ومقتل زعيمهم، فيطويهم الضباب؛ ضباب التاريخ، مثلما طوى كل المخاوف والأساطير.
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *