*أحمد مغربي
الأرجح أن خيال شهرزاد الأسطورة يشي بأنّ السرد كلامٌ يساوي الحياة. تنجو شهرزاد بالكلمات، بل لا يكفي الليل لقصة تحكيها. لا تكتمل الحكاية المتشابكة، فلا تنتهي حياة شهرزاد. لكن الحكاية صارت رواية منذ ظهور المجتمعات الحديثة في الغرب. وخرج الحكّاء من ليل الأسطورة، ليدلف إلى ليل المدينة المنغرسة في المجتمعات الحديثة. وفي وصف شائع للكاتب الهنغاري جورج لوكاش، تكون الرواية ملحمة معاصرة لتلك المدينة وإنسانها أيضاً. وتكاد المعادلة في الرواية، كفن أدبي، تقول أن كل رواية تعادل حياة حكائيّة كاملة، بمعنى الزمن الروائي ومدلولاته أيضاً. وكذلك تتشابك مع حياة الراوي- الكاتب الذي يبقى بديهيّاً ليروي، بالتفارق كليّاً مع شهرزاد الأساطير.
ترتسم تلك المعادلة مع الصفحات الأولى في رواية عبده وازن “البيت الأزرق” (عن “منشورات الضفاف” في بيروت- 2017). إذ تستهل بمرايا متقابلة للحكّاء المتقمّص بإصرار، دور الروائي المنشغل بصوغ مرآتين، إحداهما لبول أندراوس (محور “البيت الأزرق” وعلّته الحكائيّة)، وجانيت التي هي بطلة رواية لا يكف الكاتب-الراوي عن الإيهام بأنه بصدد كتابة روايتها كاملة. لا تتكسر المرايا المتقابلة إلا بلعبة حكائيّة عن الموت والحياة والرواية. إذ تُكسر مرآة أندراوس بالموت اختياراً، فتتساوى روايته مع حياته. وينتقل ظل الموت اختياراً إلى مرآة جانيت، لكنه هذّه المرة اختيار مَن يكتبها، بالأحرى هي تنويعات ثلاثة (يسمّيها تمارين) على ذلك الموت الحكائي. ولأن حكايته المفترضه عنه كراوٍ تبقى ناقصة، يبقى هو حيّاً في مرآة الرواية.
إذا جُمِعَت الخواتيم الثلاث التي تحلّ بتعاقب سريع، تبدو كأنها مشهدية النهاية المفتوحة في فيلم فرنسي من “الموجة الجديدة” في سينما ستينات القرن العشرين. وتزامنت تلك الحقبة مع صعود جان بول سارتر وفلسفته الوجوديّة التي رأت في الحياة مأزقاً إشكاليّاً يتصدّى له الإنسان عبر انخراطه في صراع لتملّك خياراته.
مرآة إنجيليّة معكوسة
في ستينات القرن العشرين عينها، ناقش علم النفس وطِبّهُ فكرة الموت كخيار للفرد. كم رواية عربيّة ناقشت ذلك أو نسجت حبكتها حوله كعلّة حكائيّة؟ ربما القليل أو أقل. وفي “البيت الأزرق”، هناك سررد مكثف عن موت يختاره أندراوس بنفسه، بل يصرّ عليه. يختار الهرب من سجن “أزرق” يفترض أنه مخصّص “بيتاً” للمرضى نفسيّاً. يختار الصمت لصوته، بل لا ينطق بما يساعد في براءته، فيكون خياراً أيضاً لأن يكون القاتل لفتاة ليل اسمها سامية. ويختار أن يصمت عن قول أنّه لم يفعل سوى البكاء قرب جثتها وسَحْبِ خنجرٍ كان مغروساً في صدرها. لا يقول أبداً أنّه صادفها ذات فجر أثناء تجواله الهذياني في شوارع المدينة، بل يحرص على أن يسير بخيار صمته ليلاقي خيار موته. وخارج “السجن الأزرق”، يختار ألا يأكل ولا يشرب، وألاّ يلفت النظر إلى ذوائه وعطشه. إنّه وصف حكائي كثيف للموت خياراً وجوديّاً.
ويكتب أندراوس لحظات موته المتوالية على أوراق مبتذلة يحتفظ بها سراً في سجن عادي، لدى شخصيّة “غير عادية”، بمعنى أنها اختارت هويّتها الجنسيّة المثليّة والملتبسة لتكون الفتى جورج والفتاة جورجينا سويّة.
ثمّة مرآة إنجيليّة في رواية “البيت الأزرق”، لكنها معكوسة. إذ يبدو موت أندراوس شخصيّاً، فلا يفتدي به إنساناً أو قضية، بل هو منغلق على دائرة ذاته. أليس ذلك معاكساً كليّاً لما ترسمه الأناجيل عن موت المسيح فداءً لخطايا البشريّة جمعاء؟
في تلك الثنية عينها، تبرز أفكار أندراوس عن المسيح التي جعلته نافراً وبعيداً (بل مستلباً) من محيطه الاجتماعي، بما فيه الجامعة والمُدرّس الأب ألبير طربيه. يرى الكاهن في أفكار تلميذه أندراوس أصداء لأفكار إلحاد، خصوصاً نيتشه. لكن، ألا يذكّر ما يورده أندراوس عن مسيح بلا بنوة إلهيّة، بل إيمان خالص الحب لله ومرتفعٍ إلى حدٍ لا يصله البشر، بما عُرِفَ عن الكاهن القديم آريوس (256- 336)؟ ألم يبدُ الأخير نافراً في عين محيطه ومجمّعات الكنيسة وآبائها، إلى حد إدانته بالهرطقة؟ وتذكيراً، ترسم أفكار آريوس مسيحاً “بشريّاً” منحه الله صفات خاصة، لكنه لا يكون موازياً لـ”الأب” ولا ممتداً في الزمان من الأزل إلى الأبد.
في معانٍ كثيرة، يبدو أندراوس كأنه يسترجع صدى نقاشات المجامع الكنسيّة الأولى عن الآريوسيّة التي لم يبعد عقابها آنذاك عن خيار… الموت!
حبكة خياليّة لرواية-التحقيق
في رواية “البيت الأزرق”، ترسم صفحات مخربشة في سجن قاسٍ، أفكاراً لبول أندراوس، تجعله شبيهاً بـ”آريوس” من القرن 21. وكذلك تجعله محبطاً إلى حد أبعد من كآبته. إذ يعلم أنّه أقل من أن يصنع مذهباً جديداً، بل من القدرة على الاستمرار في خيار أن يعيش حياته فرداً، فيختار موتَ وجوده إنساناً.
في التلفزيون، باتت شائعة مشاهدة الأشرطة التي تعتمد في صنع حبكتها على مزيج من تصوير وقائع فعليّة من جهة، ودراما تمثيلية لها حوادثها وشخوصها وأبطالها من الجهة الثانية. ربما يتوجب القول بأن السينما استهلت ذلك الفن “المتمازج”، لكن التلفزيون سار به شوطاً طويلاً. وصار متداخلاً مع صنعة الأشرطة المرئية- المسموعة على الشاشة الفضيّة، بل أنه صار جزءاً حتى من الأخبار والتغطيات والتحقيقات فيها. وزاد انتشار كاميرا الخليوي في تكاثر الأشرطة ذات الحبكة المتمازجة، وهو ما برز عربيّاً بوضوح في تعامل التلفزة مع مجريات “الربيع العربي”.
وتستند الدراماتولوجيا في “البيت الأزرق” على حبكة تحاول أن توحي بأنها تمزج ما يفترض أنّه واقعي ومستند إلى تحقيق يجريه الكاتب من جهة، وحوادث الرواية (بالأحرى الروايات الثلاث المتداخلة) ورموزها وأبطالها المنسوجين على الطريقة المألوفة في الرواية عموماً، من الجهة الثانية. لكن الأمر ليس على ما تحاول الرواية إيهام قارئها به. ليس من تحقيق واقعي يجريه الكاتب، بل هو جزء من صنعة الوهم الدرامي نفسه. سهّلت البنية “المتمازجة” تركيب دراماتولوجيا تشمل ثلاث “روايات” سويّة، كي تنصهر في حبكة موحدة لرواية مفردة، بنهايات متشابكة تماماً.
______
*المدن