خاص-ثقافات
رضا نازه*
وقف الرجُل إزاء الحمار الجاثم تحت حِمْلٍ ثقيل. كان ساكنا هادئا لا يلهث رغم الحر، وكان جُثوُّهُ المُعْوَج يدل على أن الحُمولة أقعدته كَرْها ودون إمهال، ولن يفلت من جَلدة أو جَلدتين كي يستوي قائما عند عودة سيده. لا مفر من لسعةِ سوط تستفزه لمكابدة القيام ..
مشفقًا، اقترب العابرُ من الدابة فأدارت رأسَها تِجَاهه. كتلةً ضخمة من وبرٍ زادَها العرقُ والغبارُ دُكنةً. كانت تحملق من خلال جفون تشَمَّعَت عليها دموعُ حزنٍ حيواني مكظوم. التقت عينا الحمار والإنسان فأشاح الحمارُ ببصره كالخجول، ولبث يتأمل الواقفَ أمامَه. إنه كائنٌ عمودي مثل مالكه، فهل يُرجى منه خير؟
أطلَّ الرجل في الخُرْجِ الذي غطى جِذعَ الدابة فإذا هو مشحونٌ ملحا، وما أدراك ما الملح. عاد يتأمل حجم رأس الدابة الوديعة. تخيلها متوحشةً غيرَ ذلولٍ.. تكفي عضة واحدة مِن فكيها تقضم شريانا وعلى صاحبها السلام. أشفق من حالها الملتبس؛ كانت ضعيفة رغم قوتها ومهينة في أوج حاجة الإنسان إليها حاجةَ السيد إلى العبد. هل يملك لها غيرَ الحوقلة؟
نظر في الجوار لعل مالكَها يظهر ليحاول شيئا. لا أحد. ثم مص بشفتيه الفراغَ حسرةً وقرر الانصراف. استدار ومشى بضعَ خطواتٍ فالتقط سمعُه صدى صوتٍ مبحوح. التفت. لا أحد، بينما الحمارُ المسكين على حالته الأولى. استعاذ من الشيطان الرجيم ومن خِداع السمع ثم استدار يُتِمُّ سيره فإذا نفسُ الصوت يتردد. التفت ليجد الحمارَ يُحرك رأسه الضخمة توكيدا.. “نعم أنا!”
تمالك نفسَه إذ تذكر فورا كلام نملةَ سليمان وحوار الهدهد وحيوانات ابنِ المقفع وكليلة ودمنة. بالإمكان! بالإمكان! ثم اقترب في بقيةٍ مِن تردد، فإذا بالحمار يردد محفوظاتٍ قديمة من غيابات الذاكرة:
أنا ما جنيتُ ولستُ ** أذكر أن لي عملا قبيحا
قد كنت يوما جائعا ** والليلُ يوشكُ أن يَلـُوحا
فوجَدْتُ عُشبا ذابلا ** في بعض ساحته طريحا
أطربت الأبيات صاحبَنا، ذكرتْه بقصة الحيوانات المرضى بالطاعون والحمار المسكين الذي لبس تهمة نشر الوباء في غابةٍ كان هو أضعفَ حيواناتها. ثم سكت الحمار قليلا.. ريثما يكتمل انغماس الرجل في الأسطورة ثم قال:
– هل أخبرُكَ مَن الفنان صاحب الأبيات؟
– الفنان؟ ما دخل الفن هنا؟
– الفنان هو حمار الوحش يا سيدي.. تأكد بنفسك من القاموس .. والفنان صاحب الأبيات كان جدي .. قُتل بريئا، ولولا فرارُ جَدَّتي بحملها لانقرضت سلالتنا، ثم إن أبي قرر الدخول في كنف فصيلتكم كما ترى.. وهذا ما جناه علي وأنا ما جنيت على أحد..
ضحك الرجل تعجبا من ثقافة الحمار وتعجب أكثر من كونه صادف حفيد الحمار المظلوم بعد تصرم الصبا بعقود. ما لبث أن خاطبه الحمار مغتنما انشراحه:
– أطربتْك مأساة جدي المظلوم أليس كذلك.. شرُّ البلية ما أضحك.. وكما ترى فجدي ليس المظلومَ الوحيد (ثم قال الحمار بنبرة دائن) أنت الآن مدينٌ لي بضحكتك.. لولاي لمضيتَ واجما كأنك قاصدٌ خيمةَ عزاء..
ضحك الرجل من جديد كالغِر ولولا أن الزقاق كان فارغاً لبَدَا مجنونا يُحَدِّثُ نفسَه ويُضاحِكُها، ولم يكن قد أهَلَّ زمانُ الهواتف الجوالة ومشروعيةُ حديث الإنسان مع نفسه.
متحمسا قال الحمار:
– هل لي عندك طلب وقد بدا لي من هالتك البنفسجية أنك رجل مؤمن مُرهف؟
– هالة بنفسجية؟
– نعم ليست كباقي الهالات.. أغلب هالات الناس اليوم حمراء..لقد صرتُ أنهق من مرورهم أكثر من مرور الشياطين، وصار يضحكني تعوذهم حين أنهق، يظنون أنْ قدْ أرعبتني رؤية شيطان وأنا ما أرعبني سوى مرورهم هم وهالتُهم الدامية ..
ضحك الرجل حتى اغرورقت عيناه ثم قال بنبرة حانية:
– تفضل صديقي ما طلبك.. كيف أساعدك..
– أرجوك هل يمكنك أن تنتظر عودة جَعْظَرِي؟
– من جَعْظَرِي؟
– إنه صاحبي.. اسمٌ على مُسمَّى.. انتظر حتى يعود وحاول إقناعه بأن يخفف عني أو يغير البضاعة.. أضناني الملح طولَ اليوم مقابلَ ماء وتبن..
تردَّدَ الرجل قليلا، فكم قد رأى من حمار توقف قلبُه وخر صريعا تحت الأثقال. إن كانوا كلهم مثل هذا الحمار فهي كارثة ثقافية. ثم قال بنبرة مواساة ورجاء:
– بالطبع صديقي.. على الرحب والسعة ولكن.. لماذا لا تسأله ذلك بنفسك؟
قاطعَه الحِمار:
– لا تفضحني يا سيدي.. لو عرف أني ناطق لهلكتُ فورا ..
– كيف؟
– آه تبا لجعظري .. أنا من يعرف حجم هالته الحمراء .. سيذيقني ضِعْفَ العقوبة، سيقتلني لأني أخفيتُ سري .. أتخيل السياط تهوي على جلدي وهو يسحبني من أذُنَي الطويلتين ويصرخ: “حماري وتخدعني.. ” وأنا لم أخدعه سيدي .. إنما هي حرية عدم التعبير مارستُها لعدم جدوى التعبير.. وما جدواه إن كان سيستفيد مرة أخرى من دوني؟
– كيف سيستفيد؟
– يا سيدي سيفرض علي حمل الملح والنداء على الملح ومفاوضة الزبناء على الملح ومراوغة صاحب المكوس.. وسيتفرغ هو لتسلم النقود وراء ظهري..