خاص- ثقافات
*عمر عبد الرحمن نمر
مقدمة ذاتية:
الكتابة على الكتابة كتابة أخرى، وعادة ما يكتنف النص الموازي مِساحة من الموضوعية، ومساحات من وجهات نظر عائمة…
المجموعة القصصية:
ياسمين؛ هي رواية واحدة، وإن بدت مجموعة قصصية بأربعة عناوين، في أربعة سياقات حياتية، لها منبع واحد، ومنطلق واحد أيضاً.
في هذه العجالة، لا أريد أن أتطرق إلى النص الفوقي، أو أتمركز حول صفحة الغلاف، وعلى تلك الصبية الفلسطينية الجميلة، بثوبها الفلسطيني الجميل، وقد أطَرَتها وحامت حولها طيور بيضاء، كأنها تحرسها…
في الصفحة الأولى تقرّ الكاتبة ” إسراء عبوشي” بـأنها عاشت مع الشخصيات، وأفسحت لها المجال للبوح،
وأنا أقرّ بعد محاكمتي هذه النصوص، أن الكاتبة اجترحت السارد العليم، المطلع على الشخصيات وممارساتها، وتشكلاتها… فهذا السارد عرف إمكانات سامر (في تفرق شملنا) ورؤية ( وئام)، وعلائق أبي عمر الاجتماعية( في المعزوفة الأخيرة)، نعم استطاعت الكاتبة توظيف هذا السارد، بقوة سردية هائلة، وبنغمة تتصاعد حيناً وتهبط حينا آخر، لقد صورت إنتاجات هذا السارد الحدث الروائي بتشققاته كلها، وجعلت النص يبدو مشهداً سينمائياً أمام ناظرينا، حتى أيقنت يا إسراء عبوشي أنك لست وحدك من يعيش مع الشخصيات، ويفسح لها البوح، بل نحن أيضا نعيش معها ونسمعها، نتحرك بحركتها، ونسكن بسكونها…
ومن المدهش حقا أن يكون ذاك السارد العليم ذكراً، يستخدم ضمير المتكلم( أنا )، وهنا تتجلى قدرة الكاتبة في اعتماد هذا السارد الذكر، والذي يبدو متفاعلاً موضوعياً غير منحاز، كي يفك ّ شيفرة ما، أو ينظم قاعدة ما، أو يبدع مصالحة ما:
تأمل عبارته، وهو يقرر”أما آن لحبهما أن يمجد بتاريخ الأحباب، وتضيء عليه أنوار النهار…”
عبارة تتجه نحو خلاصة، ويكاد السؤال الاستنكاري يقرب من التقرير…
نعم، ينطلق السارد في القصص الأربع من محيط درامي واحد، غني بأحداث تشي بالتحولات في مجال الشخصية، أو الممارسة، غني بالمرارة التي توجب العمل والتضحيات…
محيط يحيط به الاحتلال كالسوار في المعصم، بتجلياته البشعة، في القتل، والنفي، والتشريد، والاعتقال، والتعذيب… إلخ. ولعل ما يوحيه عنوان القصة الرابعة في المجموعة” قيود الياسمين” ما يمكن أن نطلق عليه (المغاير الموضوعي- إن صح التعبير) . وذلك لما يحيلنا إلى إيقاعات القيود الإحلالية الاحتلالية التي تسبب قلقاً مدقعاً للفسطيني، ابن الأرض، وتكتم على أنفاسه، بتقييده من حرية العمل والحركة والتنقل.
إذن، إنه الصراع مع الاحتلال، والنضال من أجل الخلاص…
وقد يسأل سائل: ولكن ما الجديد في المحتوى السردي( المضمون) في تناوله الصراع مع الاحتلال؟.
هناك جديد، فعلاوة على أن النصوص الروائية تسطر، وتوثق، وترصد معركتنا القاسية مع المحتل، فهي أيضا قدمت مشاهد جديدة من المعاناة، تجلت في مجموعة من الصراعات المتكاملة المركبة، فكان الصراع النفسي والاجتماعي، والسياسي والاقتصادي، حيث تشكل في معاناة المرأة، وسيرها نحو التحرر، وعاناة الرجل وسيره نحو التحرر، ومعاناة الوطن وسيره نحو الانعتاق والتحرر… صراع في امتلاك الحقوق، وقهر القهر، نعم إنها قضية كبيرة، وكلما كشف المتلفي عن صراع بين مفاصل العمل الروائي، بأن له ثانٍ، تلاه ثالثٌ، ما أشبه ذلك برأس البصل، تزيل قشرته الأولى لتصل إلى الثانية، تزيلها لتصل إلى الثالثة وهكذا…
ففي” تفرق شملنا”
سامر و مرام تجمعهما قرابة، وينظمهما حب أفلاطوني عاصف، ويفرقهما احتلال قسم شطري الوطن.. بواد لا ماء فيه، غير ذي زرع… وهنا يتمكن العمل الروائي من إبراز رؤى أفراد العائلتين: الوالدان، والإخوان، وكانت الرؤى تقترب…. ليكون الحل ثم تبتعد، لنرى حجم المعاناة، في مسألة (لم شمل) فلسطيني سافر زمنا، ولا يحق له العودة إلى مسقط رأسه.. وكانت رسالة: شذاذ الآفاق يأتون من آخر الدنيا، ليستوطنوا فلسطين… وسامر وابنة عمه مرام الفلسطينيان ( أبا عن جد) لا يجدان عشّا في وطنهما… مفارقة عجيبة … اقتضت معالجة أدبية فنية غير نمطية….
وفي المعزوفة الأخيرة:-
تنتظر سعاد زوجها الأسير، وهي تتجرع الحسرة واللوعة والوحدة… تنتظره سنوات وسنوات عجاف، ثم تتلظى باستشهاد ابنها إباء.
يخرج الأسير من معتقله، وقد تقدم بزوجته العمر، وهنا تكون الفاجعة ” تطلب الحماة من الكنة أن تقنع زوجها بالزواج من ثانية للحصول على ولد”…
ولكم سادتي، أن تتصوروا حجم المفارقة الصاعقة، فبعد المرارة والحرمان والفقد، التي عاشتها الزوجة، تزيد حماتها الطين بِلّة بل بِلات وبلاوي……. وتستجديها لإقناع زوجها للإتيان بضرة لها…
في أسطورة الحب: يصادر الأب قرار ابنه الأسير المحرر، حيث يعلن في حفل استقباله خطوبته لابنة عمه، ويضطر عمر ترك حبيبته (المنتظرة) مرغماً تحت وطأة كابوس التقاليد الاجتماعية، ويتزوج عمر من ابنة عمه، وتتزوج الصبية من آخر، ويعاني عمر في صمت، وتعاني الحبيبة.. ويفشل زواجها، وتطلق زوجها، وتمرض، ويزورها عمر برفقة زوجته، وهي تحتضر من مرض السرطان.
وفي قيود الياسمين: هناك صراع اجتماعي سياسي آخر، يتلخص في زواج البطل (أبي الفداء) من ياسمين ابنة العميل (محمود فاروق)، ليطرح البطل سؤالا: ما ذنب البنت إن كان أبوها عميلا؟. ويخاطب البطل زوجته ياسمين” كلنا يقيدنا شيء ما، والدتك قيدتها التقاليد، وأنت قيدك والدك، ووالده قيده… وأنا ماضٍ لا أعرف متى سيأتي قيدي ليحكم القبض على مصمي.
“ويتزوج المطارد أبو القدا، حيث يعقد قرانه في بيت مهجور لا يمكن أن تستدل عليه العفاريت الزرق”.
فلسطين هي البيئة النموذج للأحداث، ففيها كل المعطيات الاحتلالية التي تبرر ممارسات الشخصيات الروائية، فالزمن التاريخي للرواية يتطابق تماماً مع الزمن الروائي… ويقارب زمن كتابة النص، وإن لم يكن يطابقه أيضاً.. فلسطين التي حولها الممحتل إلى معتقل كبير، وتشريد ونفي، وتهويد…
عند تأمل عناوين القصص، نجد العنوان ” تفرق شملنا” يحمل دلالةً مباشرةً على المضمون، حيث تتحدث القصة عن لمّ شمل محبين. وجاء العنوان في ” المعزوفة الأخيرة” موحياً، حيث شكّل الألم الأول ( اعتقال الزوج ) لحناً حزيناً أوليّاً، تلاه استشهاد الولد، ليكون اللحن الثاني الحزين، ثم جاء كابوس التقليد الاجتماعي التقليدي ( رؤية الحماة) في تزويج ابنها المحرر؛ لتخليد اسمه بولد، وكان العزف الأخير. وهنا وصل عزف الخيبات والمرارات إلى النهاية.
والعنوان” استنتاجي متشظٍّ في ( أسطورة الحب )، تلك الملحمة السيزيفية التي ضحت في تشكلاتها البطلة… ضحت بكل شيء دون طائل…
وجاء العنوان مباشراً في قيود الياسمين، حيث أعلن السارد عبارته “كلنا يقيدنا شيء ما…”
لقد انفتحت النصوص على جراحات الشعب الفلسطيني، بلغة بسيطة حيناً، تكثفت أحياناً لتصور عمق المأساة، كما تكاثفت في أحابين كثيرة وتوترت لتقترب من الصورة الشعرية:
جاء في “تفرق شملنا”:
أي حب هذا؟ .. وكأنه يولد على ذات غيمة، ثم يمطرنا.. ريح آتية ساقت زهرتين لأعالي الجبل، انغرستا في الأرض، ونبتنا من جديد، وملأتا الأفق بأريجهما، يولد الحب، وقبل ميلاده تحمله الحياة…
أي تعبير عن الحب الذي فاضت به أوراق النصوص… أجمل من هذا التعبير؟.
وفي أسطورة الحب:
كانت خلف المدى(وئام)، تناجي شعاع الشمس المنكسر، المتجه للتلاشي .. في الأصائل..
صور يتذوتها وعي القاريء، وتجعله جزءاً من النص …. ولم لا والنص انعكاس لصورته في ظل الاحتلال…؟ استراتيحية جاذبة تعمل على الغواية والتوريط….
ظهر في النصوص موتيفات الزمن بتجليياته الماضوية ” أنا أتذكر، أنا أستدعي” والحاضرة ” أنا أقص، أنا أروي، أنا أصف) والمستقبلية ” كيف سيكون ذلك؟”. وتناغمت هذه التجليات لتخدم الرسالة الأدبية والفنية للنص…
تأمل هذا التناوب بين ماضٍ قريبٍ، وحاضرٍ يمسك بزمام السرد، يقول أبو الفداء في قيود الياسمين:” وعندما يُغلَقُ باب الزنزانة، وتظلم الكائنات، أرى طيفها يحلق في سماء فكري، أضجر من حبسي الانفرادي. ذاك هو حاضر السارد.
وتأمل كيف تتكون ثنائية صدامية بين هذا االحاضر والماضي:” أمسكت ياسمين بيدي، وألبستني سواراً مطرزاً بحروف اسمينا وتاريخ زواجنا… طرزته بيديها، وقالت لي: أنت مقيد بسواري”… وربما توقف الزمن، وأضحى في لحظة (التصفير، الزمن يساوي صفراً، لا يتقدم في الرواية ولا يتأخر)، يأتي ذلك في لحظات التجلي والتأمل الشاعرية… ولحظات تصف الحالة الشعورية التي تعيشها الشخصية:
“أراني أرقص معكِ، على سفح الجبل البعيد، تطوق ذراعيّ خصركِ، وباليد الأخرى أمسك يديكِ، وأتركهما تتمرجان في الهواء…
كما نشهد الاسترجاع في حالة التداعيات الصوفية :
“في يافا حُرِمتُ حباً جرى بدمك، أنا اقتُلِعتُ من أرضي، فغدوت أعاني فقد حبي، وعشق عمري، ووصية والدي الأرض هي( أم علي) الإنسانة الوادعة التي كانت تأتي بإبريق ماء لأرتوي رحلت. حلقة صوفية عاشتها الشخصية تماهت فيها الأرض بالحبيبة، وكان التشرد والنفي، والفقدان الأبدي….
ويكشف الحوار حالات الشخوص القلقة، فكشف عن تردد عمر، وقلق سامر، وصلابة أبي سامر، وزفرات المحبين في الصفحات جميعها… وعادة ما عرض الحوار لقضية ما، حملت السلب والإيجاب في طياتها. وجاء الحوار في مستوى لغوي واحد ولأن شريحة الشخصيات تكاد تكون واحدة، هي الطبقة الوسطى في المجتمع، وغلب على الحوار المصالحة الإيجابية، إلا مع الاحتلال… وهذه الرؤية حملتها ألفاظ الرواية وعباراتها وصورها، وهي تدلل على إمكانات الشخصية في ممارساتها ضمن المعطيات الممكنة، وفي تحقيق الممكن المحتمل، في آفاق خلق بيئة جميلة، آمنة، تشكل الخلاص للأرواح القلقة.