رسائل ابن حزم الأندلسي عالم اتسعت علومه حتى غدت بحرا يتلاطم

*محمد الحمامصي

بين مستوى التنظير ومستوى التطبيق ناقشت الباحثة حنان سعادات عُودة في دراستها “رسائل ابن حزم دراسة في رسالتَي طوق الحمامة وفي مداواة النفوس أنموذجاً.. دراسة في نحو النص”، تنظيرات المؤسسين (الغرب) من جهة، وتنظيرات العرب من جهة ثانية، وتطبيقيا قدمت تطبيقاً كاملاً للتنظير الذي قدّمته في المستوى الأول، حيث قامت بتحليل رسائل ابن حزم الأندلسي تحليلاً أبرزَ معالم نحو النص، وأدواته فيه من أجل تكوين فكرة مجملة عن الآراء النظرية والتطبيقية البارزة التي حفلت بها مؤلفات ابن حزم في اللغة والنحو.

وقد أعلنت الباحثة سبب اختيارها لرسائل ابن حزم “كونها تنبع من أنَّ ابن حزم من العلماء الذين طبعوا بصمتهم على نتاجهم الأدبي، فقد اتسعت علومه لكل نواحي المعرفة في عصره وامتلأ حتى غدا بحراً زاخراً متلاطم الموج بعيد الغور، فإن التعامل مع علومه الكثيرة المتنوعة والشاملة يحتاج إلى دراسة متأنية واعية وصبر طويل وعمل دائب متواصل ولا سيما تلك الرسائل التي لم يعطها الدارسون والباحثون حقَّها من قبْل أو أنَّها دُرست دراسة عامة سريعة، فحاولتُ رصد السمات اللغوية الخاصة لأسلوب ابن حزم من خلال دراسة نصية لمجموعة مختارة من نصوصه تم اختيارها وفق معايير فكرية لغوية؛ لتشمل معظم نتاجه إلى حدّ مناسب لأغراض هذه الدراسة وبناءً على ذلك تم استخلاص السمات الخاصة لكتابة ابن حزم على المستوى اللغوي والمضموني والفني”.

وأضافت “وقع اختياري على رسالتين لابن حزم، أمَّا الرسالة الأولى فهي رسالة “طوق الحمامة في الألفة والأُلّاف” والطوق كتابُ أدبٍ فيه الشعر والنثر والقصص الواقعية. كتب ابن حزم هذه الرسالة في مقتبل عمره، فقد حاول ابن حزم في هذه الرسالة أن يحلل ويعلل ويفسِّر ظاهرة الحب بطريقة علمية تستند إلى العلم والعقل. لم تكن فيه إطالة ولا ميل إلى الاستطراد، ولا اتجاه من الكاتب لجعل مادته مادة للتسلية والمتعة، بل لغرض دراسة ظاهرة الحب دراسة واقعية تجريبية تعتمد الحقائق بقدر ما تبتعد عن الخرافة والوهم”.

وقالت حنان سعادات “إن ابن حزم جعل رسالة الطوق في تسعة وعشرين باباً ما عدا المقدمة، إذ خصَّها بالباب الأول، وجعل البابين الأخيرين فيها لقبح المعصية وفضل التعفف. وقد اخترتُ مقدمة رسالة طوق الحمامة مع الرسالة الأولى لأحلّل عناصر التماسك النصّي فيها. وأمَّا الرسالة الثانية التي اخترتها للتطبيق عليها فهي رسالة ‘في مداواة النفوس، وإصلاح الأخلاق الذميمة’ فهذه الرسالة خلاصة تجربته، فقد كتب ابن حزم هذه الرسالة في فترة متأخرة من حياته؛ لذلك أودعها حكمته، فكانت على شكل عباراتٍ مكثَّفة، معانيها غزيرة بعبارات قصيرة وألفاظ قليلة. كما جمعتْ رسالته ‘مداواة النفوس” خلاصةَ تجارب ابن حزم الذاتية الغنيَّة التي استمدَّها من فلسفة أرسطو وأفلاطون وبخاصَّة في إعادته الفضائل إلى أربعة أصول هي العدل والعقل والسخاء والشجاعة، إضافةً إلى ثقافته الواسعة وعلمه الواسع بالقرآن والسنَّة”.

ولفتت في دراستها الصادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون إلى أنها ركزت على التماسك للوصول إلى نصِّية النص؛ أي كيف تتآزر الكلمات والجُمل مشكّلةً بذلك نصاً متماسكاً منسجماً، والتماسك النّصي يكون قائماً على علاقات اتساق بين الوسائل اللغوية التي تصل بين العناصر المكونة للنص وعلى علاقات انسجام تشمل العلاقات المعنوية الظاهرة والمخفيَّة والمعطيات المشكِّلة لإطار تلقي النص.

ورأت الباحثة أن الدّراسات اللّغوية شهدت في العقدين الأخيرَين مِن القرن الماضي تطوّرات على قدْر كبير مِن الأهمية رافقتها دعوة العلماء إلى ضرورة إعادة الصلة فيما بين اللغة والدراسة الأدبية بعد قطيعة كبيرة جداً كانت نتيجتها عدم القيام ببحوث مشتركة بين المجالين الأدبي واللّغوي. ولقد كان أهم مظهر من مظاهر التطور هو مولد نظرية “نحو النص” التي تمكَّن أعلامُها من إعادة الصلة فيما بين اللغة وواحدٍ من أعظم تجلّياتها وهو النص. حيث أن “النص” يشكّل مفهوماً مركزياً في الدراسات اللسانية المعاصرة، وجاءت هذه الدراسات بمسميات عدة مثل علم النص أو لسانيات النص أو لسانيات الخطاب، أو نحو النص..

وكلها تتفق حول ضرورة مجاوزة “الجملة” في التحليل البلاغي إلى فضاء أرحب وأوسع، بل وأخصب -في محاورة العمل الفني- هو “الفضاء النصي”، ويُعدّ الاتجاه إلى تحليل النص فتحاً جديداً في تاريخ اللسانيات الحديثة؛ فقد شهدتْ الدراسات اللّغوية في العقدين الأخيرين من القرن الماضي تطورات هائلة مسَّت مختلَف مستويات التحليل اللسانية، وخرجتْ على بعض أعراف علم اللغة -التي كانت ترى الجملة أكبر وحدة لغوية، وأقصى ما يحاط به في البحث اللغوي- متجاوزة بذلك حدود الجملة إلى فضاء لُغوي أوسع هو فضاء النص؛ إذ عُدّ النص هو الصورة الكاملة والأخيرة المتماسكة التي يتم عن طريقها التواصل بين أفراد المجموعة اللغوية. وكان الهدف من ذلك أن تصاغ نظريَّة نصِّية عامَّة تشكِّل أساساً لوصف الأشكال النصّية المتباينة وعلاقاتها المتبادلة، تنظر إلى النص بشكل كلَّي فلا تقف عند بنائه التركيبي إلَّا بقدر ما يؤثّر هذا الركن البنائي في حركة النص الكلّية.

وخلصت الباحثة إلى عدد من النتائج أبرزها:

التحليل النصي لـ”رسالة ابن حزم “طوق الحمامة” أظهر أنّها تتمتع بتماسك قويّ بين أجزائها بفضل توافر جملة من أدوات التماسك النحوية المؤدية لوظيفة الرّبط والاتساق، إذ بلغ مجموع أدوات التماسك النحوية الواردة في نص الرسالة 1074 أداةً وكانت الإحالة الضميرية القبلية هي الأعلى من بين أدوات التماسك النحوية؛ إذ بلغ مجموعها 547 إحالة، وبنسبة 50 بالمئة، وهي نسبة عالية قاربت النصف.

كما أظهر التحليل النصي أن هذه الرسالة تتمتع أيضاً بتماسك قويّ بين أجزائها بفضل توافر جملة من أدوات التماسك المعجمي، إذ بلغ مجموع أدوات التماسك المعجمي 1200 أداة وكان عنصر التكرير هو الأعلى في نسبة الاستخدام، فقد زاد عنصر التكرير عن نصف مجموع أدوات التماسك الاتساقية المعجمية مجتمعة إذ بلغ عدد استخدام عنصر التكرير 797 مرة وبنسبة 66 بالمئة من مجموع أدوات التماسك المعجمي، وهذه نسبة عالية جداً مقارنةً بغيرها من الأدوات، وفي هذه النسبة العالية دلالة على أهمية التكرير في التماسك النصّي على المستوى المعجمي.

التحليل النصّي لرسالة ابن حزم الأندلسي “في مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق الذميمة” أكد أنّها تتمتع بتماسك قويّ بين أجزائها بفضل توافر جملة من أدوات التماسك النحوية المؤدية لوظيفة الرّبط والاتساق، فقد بلغ مجموع أدوات التماسك النحوية الواردة في نص الرسالة 772 أداةً، وكانت الإحالة الضميرية القبلية هي الأعلى من بين أدوات التماسك النحوية؛ إذ بلغ مجموعها 431 إحالة، وبنسبة 56 بالمئة، وهي نسبة عالية تجاوزت النصف.

كما أثبت التحليل النصي لرسالة “في مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق الذميمة” وفرة كبيرة في نسبة استخدام أدوات التماسك المعجمي، وكان هذا سبباً في جعل الرسالة سالفة الذكر نصاًّ متماسكاً فلا نكاد نجد مفردة في نص الرسالة إلا ونجد لها علاقة معجمية بلفظة أخرى من ألفاظ الرسالة، وقد احتلّ عنصر التكرير المرتبة الأولى من أدوات التماسك المعجمي، فقد زاد عنصر التكرير عن نصف مجموع أدوات التماسك الاتساقية المعجمية مجتمعة إذ بلغ عدد استخدام عنصر التكرير 407 مرة، وبنسبة 53 بالمئة من مجموع أدوات التماسك المعجمي، وهذه نسبة عالية جداً مقارنةً بغيرها من الأدوات، وهكذا يتّضح من خلال تحليل رسالتَي ابن حزم الأندلسي “طوق الحمامة في الألفة والألاف” و”في مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق الذميمة” أنّ هناك وفرة كبيرة في نسبة استخدام أدوات التماسك النحوي والمعجمي، وتحقق الانسجام والترابط على المستوى الدلالي والتداولي في كلتا الرسالتين وكان هذا سبباً في جعل هذه الرسائل نصوصاً متماسكة منسجمة. ومن الممكن تعميم هذه النتائج على معظم رسائل ابن حزم الأندلسي.
___
*العرب

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *