العنصرية حتى في الكتابة

*صقر أبو فخر

في بلاد الإنكليز يطلقون عبارة “المؤلف الشبح” على الكاتب الحقيقي لأي نص يظهر باسم كاتب غيره. وفي فرنسا ثمة مصطلح “زنوج الثقافة” الذي يشير إلى قيام أحد “الكُتّاب” باستئجار كاتب ناشئ يكون على الأرجح من المهاجرين، ويسخره لكتابة المقالات لقاء أجر معلوم. لكن تلك المقالات لا تظهر باسم كاتبها، بل باسم الكاتب المقاول. وهذا الضرب من السلوك يُعد إهانة فظة للكتابة باعتبارها مهنة راقية، ويدل على مبلغ الانحطاط الذي بلغه سماسرة الصحافة والكتابة في أيامنا الراهنة، مع أن هذه الظاهرة ليست حديثة على الإطلاق، بل تعود إلى مرحلة سابقة تمتد إلى نحو مئة سنة حين صارت الكتابة الصحافية ذات شأن، وتمنح صاحبها مكانة رفيعة. وفي العادة، حين تثور الشكوك في مَن يكون الكاتب الحقيقي لنص محدد، خصوصاً إذا أصاب شهرة ما، فإن النقاد سرعان ما يتوفرون على الدراسة والمقارنة والتحليل في محاولة لاكتشاف الكاتب الأصلي. وحتى اليوم ما زال الدارسون ومؤرخو الأدب يتجادلون في شأن شكسبير ومسرحياته، ويقدمون استنتاجات صادمة في هوية الكاتب الحقيقي لتلك المسرحيات.

في بلادنا العربية تتفاقم باطراد ظاهرة “زنوج الثقافة” أو “مساكين الثقافة” (في ما لو رغبنا في عدم استعمال كلمة “زنوج” لدلالتها العنصرية)، وهي تنتشر اليوم، أكثر ما تنتشر، في عالم الترجمة، وفي ميدان الصحافة، وفي ما يُعرف بِـ “الورشة العلمية”. ففي “الورشة العلمية” يعمد أحد المقاولين (وهو على الراجح أستاذ جامعي لا يكتفي بوضع دال نقطة أمام اسمه فحسب، بل ألف نقطة دال نقطة) إلى تنسيق عمل مجموعة من الباحثين المساعدين أو المتمرنين (وهم في الأغلب من طلابه)، ويكلفهم جمع المعلومات، ثم يكلف آخرين صوغ تلك المعلومات في أوراق بحثية، ثم يتولى تجميع ذلك كله وإصداره في كتاب لا يظهر على غلافه إلا اسم الأستاذ المقاول وحده. وفي بعض الحالات يتلطف هذا “الأكاديمي” بالإشارة، إلى أسماء هؤلاء “الزنوج” أو “المساكين” الذين أعانوه على صعاب ذلك البحث المهم، وإلى زوجته التي تحملته في أثناء الكتابة، أو أمه التي علمته “الصدق والاستقامة”.

إن هذه الحال المهينة شائعة أيضاً في حقل الترجمة، وهي صارت، لكثرتها وشيوعها، لا تثير الاستهجان، بل باتت من الأمور المألوفة، فيأتي “مترجم” من عيار أحمد رائف من مصر الذي ترجم وراجع كما يزعم كتاب باتريك سيل: “أبو نضال: بندقية للإيجار” أو من عيار “الدكتور عدنان الوشيحي”، وهو من مصر أيضاً، الذي ادعى أنه ترجم كتاب “منذر الكسار: أمير المخدرات” لمانفريد موستان، بمجموعة من المتخرجين حديثاً في أقسام اللغة الإنكليزية، ويوزع على أفراد المجموعة فصول الكتاب المطلوب ترجمته. وبعد أن يُنجز كل تلميذ أو تلموذ حصته، يعمد “المترجم” المقاول إلى جمع الفصول وإخراجها على الناس في كتاب باسم المقاول لا باسم المترجمين البؤساء. واليوم صار “غوغل” متاحاً جداً ليضع في أيدي هؤلاء المترجمين الكذابين ترجمات ضحلة، والتي لا تحتاج إلا إلى مراجعة سريعة لنص غوغل، وتبديل بعض الكلمات وربط الفقرات بعضها ببعض.

العبودية المكتومة

اشتُهرت كثيراً قصة “جميلة بو حريد” للروائي المصري يوسف السباعي. وشرع يوسف شاهين في سنة 1958 في تحويلها إلى فيلم سينمائي بعنوان “جميلة” كانت البطولة فيه معقودة للممثلة ماجدة، ولم تسمح الرقابة المصرية بعرضه في أقنية التلفزيون المصري إلا في سنة 1998، أي بعد أربعين عاماً على إنتاجه. ولكن ما لم يتم إشهاره على الناس حينذاك هو أن الكاتب الحقيقي لهذه القصة، أو الرواية، هو محمد جلال الذي آثر الصمت لأسباب مجهولة، ولعلها مادية على الأرجح. وعلى هذا الغرار اتهم أحمد أمين في مقالة له نشرها في أحد أعداد مجلة “الهلال” سنة 1948 الكاتب علي مبارك بأن كتابه “الخطط التوفيقية” ليس له بل لكاتب آخر هو عبد الله فكري. وبرهن ذلك بأن “الخطط التوفيقية” ظهرت عندما كان علي مبارك منهمكاً في أعماله الوزارية، وكان يشغل مهمات تسعة وزراء في الحكومة آنذاك، والكتاب، في أي حال، كان يفتقد إلى الإبداع افتقاداً ظاهراً، والمادة العلمية فيه مأخوذة، في مجملها، من الملفات الحكومية ومن “الخطط المقريزية”، أما الإضافات فليست ذات قيمة على الإطلاق.

لسوء حظ أحمد أمين فقد نال نصيبه من التهمة نفسها في ما بعد، عندما ذكر زكي نجيب محمود في كتابه “قصة عقل” انه اتفق مع أحمد أمين على تأليف كتب فلسفية لتنشر متسلسلة في مجلة “الثقافة” التي يرئسها أحمد أمين نفسه. وبالفعل قام زكي نجيب محمود بتأليف كتابين هما: “قصة الفلسفة اليونانية” و”قصة الفلسفة الحديثة”. وفوجئ زكي نجيب محمود، عند صدور الكتابين، بأن اسم أحمد أمين موجود على الغلافين إلى جانب اسمه، مع أن أحمد أمين لم يفعل شيئاً إلا كتابة المقدمة. وإلى ذلك اتهم عبد الرحمن بدوي في مذكراته الموسومة بعنوان: “سيرة حياتي” (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000) أحمد أمين “بانتحال أعمال الآخرين خصوصاً الناشئة المتطلعون إلى الشهرة”. وقال إن أحمد أمين “حاول أن يصنع معي هذا الصنيع لما قدمت إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر – وكان هو رئيسها – أصول كتابي “التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية” في أواخر سنة 1939، فلم تفلح محاولته هذه وصددته منذ اللحظة الأولى (…)، فكيف أُبرر وجود اسمه إلى جانب اسمي على كتابي هذا”؟.

في هذا الحقل من الاتهامات نشرت صحيفة “القاهرة” المصرية في 9 و16/5/2000 مقالتين بقلم علاء عريبي، ورد فيهما أن سكرتير أحمد أمين كتب بنفسه عدداً من المؤلفات المنسوبة إليه. وبما أن هذا السكرتير ظل مجهول الاسم، فالتهمة تبدو هنا أقرب إلى الشائعة.

أمثلة واقعية

نشر الكاتب المصري عباس خضر كتاباً بعنوان “خطى مشيناها”. وكانت فصول هذا الكتاب ظهرت في مجلة “الثقافة” المصرية طول العامين 1976  و1977، ثم صدرت، لاحقاً، في كتاب مستقل أصدرته سلسلة “إقرأ”. وفي هذا الكتاب يكشف عباس خضر أن شوقي أمين العالم، وهو عضو في المجمع اللغوي المصري وشقيق الكاتب اليساري محمود أمين العالم، كان يؤلف بعض كتب محمود تيمور، وهو المؤلف الحقيقي لكتاب “ألفاظ الحضارة” الذي ظهر باسم محمود تيمور، وأنه هو نفسه، أي عباس خضر، كتب المادة التاريخية لمسرحية “إبن جلّا” التي نُشرت باسم محمود تيمور وحده. ولم يكتفِ عباس خضر بذلك، بل أشار إلى أن الدكتور سعيد عبده كتب بعض المسرحيات الشعرية لأحمد شوقي، وإلى أن الشاعر أحمد مخيمر هو الكاتب الحقيقي لمسرحيات الشاعر عزيز أباظة. والمعروف أن عباس خضر كان صديقاً لشوقي أمين العالم وزميلاً له في الدراسة والفقر. وشوقي أمين العالم هذا كان أديباً مجدداً ومتمكناً من العربية ومن الأساليب اللغوية الرشيقة، وهو درس في الأزهر لكنه طُرد منه بعد أن ألَّف جمعية أدبية أثارت غضب الأزهر، ففقد بذلك إمكان حصوله على المؤهلات العليا، واضطر إلى الالتحاق بوظيفة صغيرة في المجمع اللغوي في القاهرة، وكان ينشر بعض المقالات هنا وهناك لحاجته الماسّة إلى الأموال، ولا سيما بعد وفاة والده وتحمل مسؤولية الإنفاق على أخوته. وفي هذه الأحوال بدأ يعمل مع محمود تيمور الأرستقراطي الثري في تصحيح مؤلفاته. لكن العمل تطور إلى أكثر من التصحيح، بل إلى تأليف فصول تامة، أو كتب كاملة على الأرجح.

لم يسلم قاسم أمين صاحب كتاب “تحرير المرأة” من التهمة نفسها. فروّج كثيرون أن بعض فصول هذا الكتاب الذي صدر في سنة 1898 وأثار زوبعة هائلة من السجال آنذاك، كتبها الإمام محمد عبده الذي اختار أن يتخفّى خلف اسم قاسم أمين لموقعه الديني ومكانته بين العلماء. ولعل ذيوع صيت هذه الكتب وشهرتها، ثم السجالات التي أطلقتها، فضلاً عن الفاعلية الفكرية والأدبية والسياسية التي رافقتها، أغرى النقاد في ترويج مثل هذه الشائعات التي ربما تكون صحيحة في بعض الأحيان. ولعلنا نتذكر جميعاً كيف أن صحيفة “الخبر” الجزائرية أقحمت اسم نزار قباني ثم اسم سعدي يوسف كمؤلِّفين مفتَرَضَين أو محتَمَلَين لرواية “ذاكرة الجسد” للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي. وما كان لهذا الإقحام أن يشيع وأن يتجاوب القُراء مع غريزة التآمر المعهودة لولا الانتشار الباهر لهذه الرواية في جميع أنحاء العالم العربي.

في سنة 2000 صدرت رواية عراقية بعنوان “زبيبة والملك”، وحمل غلاف هذه الرواية عبارة ساذجة هي “رواية لكاتبها”. ومع أن أي رواية هي لكاتبها بالتأكيد، إلا أن كثيرين حاروا في مَن يكون المؤلف الحقيقي لها. وراج الكلام على أن صاحب الرواية هو الرئيس العراقي صدام حسين نفسه الذي لم تنفِ أوساطه أو وسائله الإعلامية هذا الكلام. وغامر البعض بالقول إن صدام حسين هو صاحب الفكرة الأصلية، أما الكاتب الفعلي الذي قام بصوغها في شكلها الأخير فهو الروائي المصري جمال الغيطاني. وتبين أن هذا الاتهام لا أساس له من الصحة، وأن الكاتب الحقيقي هو العراقي سامي محمد الذي قيل إنه مات مسموماً بعد أن فرغ من كتابة الرواية.

* * *

في تسعينيات القرن المنصرم كانت مدينة بيروت تتناقل أخبار “شاعرة” لبنانية كان صديقها، وهو كاتب متواضع جداً، يكتب لها نصوصًا رديئة وينشرها في إحدى الصحف. ومع ذلك أصابت تلك “الشاعرة” بعض الحضور الثقافي جراء المداومة وتكرار ظهور اسمها في الصحافة. ويعرف كثيرون من شعراء بيروت قصة ذلك الشاعر السوري وكيف امتصته صحافية لبنانية متشاعرة تعمل في إحدى المجلات الفنية، وغوّرت فيه إمكاناته الشعرية، حتى أن ذلك الشاعر كتب لها مجموعة من القصائد في رثاء والدتها، ثم جُمعت تلك القصائد في ديوان فاز بإحدى الجوائز. والغريب أن أولئك الشعراء المساكين ما برحوا يلزمون الصمت حيال تلك “الزَنْوَجَة” حتى بعد أن هجروا بيروت وهاجروا إلى ديار العالم الواسعة. فإذا كان من المنطقي أن يصمت هؤلاء في زمن الفاقة والضرورة، فمن غير المنطقي بتاتاً أن يستمر صمت هؤلاء بعدما تصرمت سنوات أعمارهم، وصار من الضروري أن يبادروا إلى زحزحة القيد عن معاصمهم؛ ففي البوح فضائل كثيرة منها التفريج عن الأسى، وفضح العبودية الثقافية المهينة، وتصحيح الزيف الخلقي، وإيلام لمقاولي الكلمات، وتقويم للأدب وللتاريخ الأدبي معاً، وإعادة الحق إلى أصحابه.
_______
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *