فروغ فرخزاد.. حياةٌ مشبّعة بالشعرِ والسينما والزمن

*بندر عبد الحميد

فجأة، رحلت الشاعرة والمخرجة السينمائية الإيرانية الفذّة فروغ فرخزاد، وكان موتها عن ثلاث وثلاثين سنة في – 14 – 2 – 1967 – في حادث سيارة، خسارة فادحة للشعر والسينما في إيران والعالم، كانت فروغ، في نشاطها الإبداعي العاصف، شاعرة وسينمائية ورسامة وممثلة، أصدرت خمس مجموعات شعرية تحمل صفة الحداثة والتجديد، والأصالة الخيّامية، وشاركت في نقل الشعر الإيراني من أطلال القصيدة الكلاسيكية إلى الفضاء المفتوح، وتحريره من استبداد الذكورية والملالي المتخلفين، حينما أضافت إليه الرؤية الأنثوية الثاقبة، وقادت الجيل الجديد من الشعراء بخطى واثقة، في فضاءات مفتوحة، وواجهت النقد المتزمت لشعرها وسلوكها بصلابة نادرة، وكانت حياتها اليومية مشبعة بالشعر والسينما والفنون والحب، وأخيراً صدرت أعمالها الشعرية الكاملة عن دار المدى بترجمة مريم العطار.

يقول مايكل هيلمان، أستاذ اللغة الفارسية في جامعة أوستن، في كتابه “امرأة وحيدة – فروغ فرخزاد وأشعارها”:
“من بين تلك الحفنة من أهم الشعراء الإيرانيين المعاصرين كان لفروغ فرخزاد موقع ثابت بينهم وبين المجموعة الكبرى من شخصيات العصر الأدبي في شكل عام، في الواقع، كانت لديها مكانة خاصة ومعنى خاص بين معاصريها، ليس فقط لأنها كانت المرأة الإيرانية المعروفة الوحيدة على الساحة الأدبية، لكن بسبب الحدة الفريدة نوعاً ما في دمجها حياتها في فنها، وهي تشير إلى ذلك في بداية مهنتها قائلة: إذا تابعت الشعر والفن، فهذا ليس من باب الهواية أو التسلية، فأنا أعتبر الشعر والفن حياتي كلها” .
كانت فروغ على عجلة من أمرها دائماً، ولديها احساس عالٍ بالزمن، كأنها تحدس بأن حياتها قصيرة، كانت تقود السيارة بسرعة، عند عودتها من موقع التصوير السينمائي، حين جرى لها الحادث الذي أودى بحياتها:
أشعر أن الزمن قد مضى
أحس أن “اللحظة”
هي حصتي من أوراق التاريخ.
تزوجت فروغ وهي في السادسة عشرة، وكان زواجها المبكر خلاصاً لها من القيود الصارمة التي يفرضها في البيت أبوها الجنرال محمد باقر فرخزاد، وأنجبت ولداً، ولكن رغبتها الحادة في التفرغ للإبداع دفعتها إلى الطلاق والاستقلال عن زوجها، كما تخلت عن ابنها «كاميار» ليعيش في بيت أبيه، وكتبت عنه قصائد جميلة.
نشرت فروغ في حياتها أربع مجموعات شعرية هي: الأسيرة، عصيان، الجدار، ميلاد آخر، أما مجموعتها الخامسة فصدرت بعد وفاتها بعنوان «لنؤمن ببداية فصل البرد»، وتركت إرثاً غنياً منوعاً من المقالات واللوحات المرسومة والرسائل والمشروعات السينمائية الناجزة أو غير المنتهية، وهي في كل ما عاشت وما كتبت كانت مختلفة عمن حولها، كما تقول في قصيدة “الوهم الأخضر”:
كيف أخذتني روح الصحراء
وأبعدني فجر القمر عن إيمان القطيع؟.
فروغ فرخزاد
ويأتي اختلاف فروغ من كونها شاعرة تحب الحياة، وتشعر بمسؤوليتها كمبدعة في تطوير وإغناء هذه الحياة، وفك القيود القديمة التي تحاصر المرأة، كما أنها تقف ضد الحروب المجانية التي تدمر حياة الناس وتعيدها إلى الوراء:
حديقتنا وحيدة كل النهار
ومن خلف الباب أسمع دوي
الحطام والانفجارات
كان جيراننا يزرعون
القنابل والرشاشات في حدائقهم
بدلاً من الأزهار.
إن حب الحياة لا ينفصل عن حب الفن، وحب الطبيعة وما فيها من جمال الأحياء والنباتات.عشقت فروغ فرخزاد السينما كتابة وإخراجاً وتمثيلاً وتصويراً وإنتاجاً، وأنجزت عدداً من الأفلام القصيرة، وتعاونت مع صديقها إبراهيم كلستان، في إنجاز أفلامه، في ستوديو كلستان، وكان من أفلامها «حريق» و «المياه والحر» الذي يتقصّى طقوس الحب على الطريقة الإيرانية، بينما صوّرت فيلمها الشهير «المنزل المظلم» عن مرضى الجذام في تبريز، فكان هذا الفيلم بداية انتقال السينما الإيرانية من الميلودراما الشرقية إلى الواقعية السحرية، ونال هذا الفيلم جائزتي مهرجاني لايبزيغ وأوبرهاوزن عام 1962، وهما أهم مهرجانات الأفلام التسجيلية والقصيرة في ألمانيا والعالم.وفي عام 1965 أنتجت منظمة اليونسكو فيلماً عنها، كشاعرة وفنانة، في نصف ساعة، وفي هذا العام قدم عنها المخرج الإيطالي برناردو بيرتولوتشي فيلماً، في ربع ساعة، كما وافقت على عروض لترجمة أشعارها إلى لغات اوروبية عدة.
سافرت فروغ ثلاث مرات إلى أوروبا في الأعوام 55، 59، 1966، وكان هدفها الأول الاطلاع على كل ما هو جديد في صناعة السينما، في ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، وفي زيارتها الأخيرة حضرت الندوة الشهيرة في مهرجان بيسارو، للمفكرين والكتاب السينمائيين التي شارك فيها كبار المفكرين ومنهم بازوليني، كريستيان ميتز، إمبرتو ايكو، جيل ديلوز، غالفانو ديلا فولب، جان لوك غودار.
ولولا الإبداعات التي أضافتها فروغ فرخزاد إلى السينما الإيرانية لما رأينا كل هذا التميّز في أفلام عباس كيارستمي ومحسن مخملباف… ولما رأينا هذا الحضور البارز للمخرجات الإيرانيات مثل تهمينة ميلاني وسميرة مخملباف، وبخشان بني اعتماد، وأسماء معروفة أخرى، تفتحت كلها مبهورة بإبداعات فروغ فرخزاد في الشعر والسينما واقتحام الحواجز.يقول المفكر الإيراني حميد دباشي في كتابه «السينما الإيرانية – ماضياً، حاضراً، مستقبلاً» الذي صدر عن دار فيرسو، في لندن ونيويورك عام 2001: أهي مصادفة سعيدة، أم خلطة مدروسة، أن يكون الفيلم الرائع الذي دشن السينما الإيرانية الجديدة، صنعته شاعرة، هي شاعرة زمانها في الواقع؟ إن فيلم فرخزاد «المنزل المظلم – 1962 – يسبق ويتجاوز كل ما حدث في عصرها، فهذا الفيلم الوثائقي عن مجموعة من المجذومين يروي بكل رشاقة إحدى أجمل معالجات هذا الداء المخيف، لماذا الجذام؟
تكشف فرخزاد في أقل من عشرين دقيقة الروح الشاعرية الكامنة في تلك الأجساد التالفة، وهي تفعل ذلك بأسلوب قلّ نظيره، في أناقته وطلاوته، وسوف يمرّ وقت طويل قبل أن تحظى السينما الإيرانية بامرأة أخرى تدير دفة مخيلة الرؤيا، غير أن فرخزاد مهدت الطريق بفيلمها «المنزل المظلم” .

_________
*المدى

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *