طائر الخريف

خاص- ثقافات

*ميساء البشيتي

نجا أيلول من براثن الخريف وتغامز الفصول ومناورات الشمس والمطر وتهامس النساء على الشرفات وسخط الشعراء على أرصفة المقاهي والطرقات! حط بسلام ورحل بسلام مخلفًا في الأفق غيمًا وارف الظلال.
لا أقرأ الصحف ولا أتابع نشرات الأخبار، لا أريد أن أعرف ماذا نبت في حدائق الجوار: الياسمين أم الصبار؟ لم تعد تستهويني أخبار الآخرين؛ فسمائي ملبدة، وشمسي غائمة، وقمري محتجب خلف الظلال، والغيوم القادمة من كل الاتجاهات مثقلة بالحزن، مكفهرة الملامح، يسيل من أردانها الغضب، وتتراشق النظرات الحادة وسط الضباب.
أنا لا أبرر عدم انتظاري لك على قارعة الطريق، وأنني لم أقطع بخطواتي شوارع الانتظار ككل خريف، ولم أقلِّب مفكرة الأيام وأمزق أوراقها حتى تأتيني أسرع من كل عام، ولكنني يا أيلول حلَّ بيَّ ما حلَّ بهذه الديار من وبال؛ فلم نعد ننتظر سنابل الصيف أو نغتسل بالمطر أو نرتعد من سماء الخريف أو نبتهج لاخضرار الربيع! فكيف سأخبر قومي بأنني لا أزال على عشقي لأيلول؟ وأنني أراه خلسة في فنجان الصباح، وأكتبه قصيدة بألف عنوان، وأنه إن كان هو بخير فلا يهمني ماذا يعصف بالديار من خراب!
وحدك من يعلم أنني في هذه الديار غريبة عن قومي؛ فأنا خريفية الملامح والأطوار وهم من دعاة الربيع، من أنصار الشمس المتواطئة، والمطر الممنهج، وكل أنواع التطرف في  النظرات والمعتقدات. وأنا لا أنفك أحاول أن أقنع غيمة شاردة بالعبور ولو سهوًا فوق حقولي، وأغري الشمس وهي في لحظة تثاؤب بالمرور خلسة عن العيون، ولكنهم متفقون بأنني غريبة في الولاء والانتماء لأيلول مثقل بالسواد!
وها أنت رحلت يا أيلول: زاهٍ كبنفسجة، حالم كفراشة، سخيُّ كغيمة، دافئ كخبز التنور، شهيٌّ بهيُّ، نقيُّ، تحمل في قلبك ألف رسالة حب، لكن قومي لك كارهون! فتمهل يا طائر الخريف، وخذ مني وعدًا: بأنني كنت ولا أزال لأيلول، ودع قومي في غيِّهم يعمهون.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *