ذاكرة “الأمواج”العراقية: قراءة في السيرة الذاتية – العراقية للدكتور عبد الله إبراهيم

*لطفية الدليمي

 

    بدءاً لا بدّ لي من الاعتراف أنني عاشقة مدمنة لأدب السيرة الذاتية وكلّ م ايمتّ له بصلة ( مذكّرات ، يوميات ، سِيَر ، رسائل متبادلة ،،، الخ ) ، وأؤمن أن هذا الصنف من الأدب يمكن أن تكون له مفاعيل ثورية في الإرتقاء بالذائقة الحضارية للأفراد والبلدان معاً  بماينطوي عليه من جرعة الصراحة الكاشفة والبوح الملهِم الذي يضع الإصبع على الجرح بلا مواربة أو تلفيقات أو تعميات قد تتطلبها تقنيات الكتابة في الأنواع الأدبية الأخرى ؛ لذا لم يعد غريباً أن أدب السيرة الذاتية قد بلغ مبلغاً عظيماً – لدى الغربيين بخاصة – وجاوز في مرتقياته تخوماً بعيدة حتى غدت بعض السير الذاتية الغربية مرجعيات كلاسيكية في التطوّر الذاتي للفرد ، والأمثلة في هذا كثيرة وبيّنة ، ولم تكن بيئتنا العربية ببعيدة عن هذا المسار في خطّه العام لكنها إفتقدت حسّ المساءلة الذاتية الكاشفة والجريئة واقتصرت في أغلبها على التدوينات البروتوكولية والبوح الميلودرامي ، أما البعض الآخر فجاء أقرب إلى المدوّنات الوثائقية التي طغى فيها ( العام ) على ( الخاص ) حتى استحال قريباً من التواريخ المدرسية .

                    ( أمواج ) الدكتور عبد الله إبراهيم :

                 اشتباك خلّاق بين ( الخاص ) و ( العام )

 

     تعكس قائمة المحتويات طبيعة الكتاب ومزاج الكاتب ، وقد راقت لي عناوين ومفردات المحتويات الكاشفة عن جوهر السيرة  وجعلتني أردّد مع نفسي العبارة ذاتها التي قالها عالم الرياضيات ( يعقوب بيرنوللي ) وهو يتفحّص عمل كلّ من ( لايبنتز ) و ( نيوتن ) في ميدان التفاضل والتكامل : يُعرَفُ الأسد من مخالبه !! ، وشعرتُ بما شعرت به عندما قرأت كتاب الدكتور عبد الله الموسوم ( السردية العربية الحديثة ) بجزأيه : ذلك الكتاب المُبدع الذي أعدّه إنعطافة خلاقة في السردية العربية نأت بها عن المواضعات المتكلسة السابقة وفتحت أمامها آفاقاً حداثية غير مسبوقة .

    في هذا الكتاب الممتع  وجدتُني أمام مدوّنة سيرية ذاتية تعمّد كاتبها أن يسميها ( سيرة عراقية ) في إشارة دقيقة إلى أنّ مصائر الأشخاص في بعض البلدان إنما هي مصائر محكومة بأمزجة وسلطات وتصاريف وأقدار فُرضت على الناس فرضاً لايستطيعون له دفعاً أو تعديلاً مهما تعاظمت قدراتهم الشخصية ، وهكذا صارت مصائر العراقيين محكومة بمقادير العراق في سياق علاقة جبرية وثقى ؛ و يمكن النظر أيضاً لإشتباك ( العراق ) مع ( العراقيين ) من وجهة نظر إيجابية نتلمس عبرها كلّ النزعات الخيّرة وخلاصات التأريخ العراقيّ الضارب في أصالته منعكسة في حياة أخيار العراقيين وأفاضلهم وأكثرهم رغبة واندفاعاً في الإرتقاء بأحوال العراق ، وقد كان الدكتور عبد الله واحداً من هؤلاء الذين أرادوا خيراً بالعراق فجاءت سيرته الذاتية حاوية لجوانب من سيرة العراق وبخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين .

 

                 الموجات الإحدى عشرة : إطلالة سريعة

 

   تتراءى لنا بين ظلال عناوين فصول السيرة رحلة  إنسانية وثقافية فريدة بتحولاتها وتموجاتها مدّاً وانحساراً ؛ فلكلّ موجة عنوان يختزل لنا مرحلة من تجربة الحياة : الموجة الاولى ( بيضة الريح ) تتقصى الجذور وتكشف عما كان وعما صار إليه من لم يكن يعرف مايريد ، وفي الموجة الثانية ( هل كان الأمر خداع بصر ؟ ) ثمة تنازع من أجل البقاء وأوهام فائضة تطفو على الموجة الثالثة حيث  يقاسي المؤلف هول العقوبات العسكرية المشينة في خدمة الضبّاط الإحتياط ، ثم يتقبلها على مضض لامتحان رجولة جرى إذلالها ، وفي الموجة الرابعة يحيل العنوان ( كالقدر نغلي لكننا لانطفح ) إلى فوران الرغبات واعادة اكتشاف الذات تحت تأثير المتغيرات المتلاحقة ، وتتوالى الموجات ( نبي الخيول ) و( تيس بغداد ) و( هل من أمر يستحق أن نموت من أجله ؟ ) ، ثم موجة ( خارطة الليل ) والموجة التاسعة بعنوانها المفارق ( حمار البراري وعاهرة سومر) لتعقبها موجة ( نزل البرابرة ) وتختم السيرة بموجة ( عصر الغُشَماء) وهو فصل خلاصات مكثفة للفرد والبلاد .

 

                      سيرة ذاتية مكتوبة بذائقة روائية

 

  قرأت هذه السيرة المكتنزة في وقائعها وحجمها ( قرابة الستمائة صفحة ) في ثلاثة أيام ، ولما كنت عزمت منذ سنوات بعيدة أن لاأقرأ أكثر من مائة صفحة يومياً تحت كل الظروف فهذا يعني أن قراءتي قد كسرت هذا العُرف ، وهو أمر لم يحصل معي إلا عند قراءة بعض الروايات العظيمة ؛ وعلى هذا بوسعي القول : أنني وجدتُ نكهة روائية  ممتعة في هذه السيرة ، وليس هذا على الدكتور عبد الله بغريب ؛ فهو كاتب قصة قصيرة ، وله مجموعة قصصية منشورة ، وأراه قادراً على ركوب المركب الروائي بعد أن خبر بحر السرديات الهائج ، ولست أشاطره الرأي في عدم رغبته بالكتابة الروائية بسبب يبوسة يفترضها في  كتابته وهي بعض مظاهر العقلنة والصرامة التي تتطلبها الكتابة التحليلية التي تنقاد – بالضرورة – للمقيّدات الأكاديمية المتطلبة.

                       سيرة ذاتية مشتبكة الإشتغالات

 

   تنطوي السيرة الذاتية المميزة على خصيصة متفردة تتقدّم على كلّ الخصائص الأخرى ، وهي الإشتباك العضويّ بين ( الخاص ) و ( العام ) في سياق يجعل من السيرة الذاتية مدوّنة مركبة الإشتغالات : سايكولوجية وتأريخية ومجتمعية ، وأرى أنّ هذه السيرة قد إمتلكت هذه الخصيصة وتفرّدت في سرد جوانبها المركّبة .

                      سايكولوجيا الجماعة الصغيرة

 

   تبدأ السيرة الذاتية بمكاشفات سايكولوجية لبعض جوانب حياة الجماعات الصغيرة التي تعيش بعيداً عن الحواضر المدينية الكبيرة : طفل صغير ينشأ وسط عائلة محكومة بتقاليد حياة الفِلاحة و الأب الذي يعزف عن إبداء أية نوازع رقيقة تجاه زوجته وأولاده بحكم خشونة الحياة ومتطلباتها المعيشية الضاغطة ، ويؤكد الدكتور عبد الله ومنذ الصفحات الأولى للسيرة أنه ربما توارث شيئاً من هذا الجمود العاطفي تجاه عائلته عن أبيه على الرغم من المزايا الإيثارية التي إختصّ بها الدكتور عبد الله عائلة أبيه ( بحكم كونه الإبن البكر لها ) ثم عائلته الشخصية لاحقاً ، ويسهب الدكتور في عرض الكثير من ملامح السوسيولوجيا الحاكمة للعلاقات في هذه الجماعات الصغيرة والتي تتخذ فيها الأمّ منزلة مركزية ضابطة لإيقاع معيشة العائلة ،   ويروي الدكتور عبدالله المأساة المرضية التي حلّت بوالدته  وتطوّرت  لتستحيل سرطاناً فموياً قاتلاً ، وقد عرّكت هذه المأساة  الفتى فأصبح مسؤولاً عن أمه العليلة فيصحبها إلى الأطباء في كركوك ثمّ الى المستشفى الجمهوري  ببغداد العاصمة .

   يعترف الدكتور عبد الله ، ومنذ وقت مبكّر ، بالتأثير الذي لعبته الأنثى الصغيرة ( المرأة لاحقاً ) في حياته ، وقد ركّز كثيراً على هذا الجانب عندما أشار غير مرّة إلى ثلاثية ( القراءة – الكتابة – المرأة ) باعتبارها الترياق الشافي للجدب الروحي الذي كان يحيق به في بعض أطوار حياته ، ونلمح في كتابة الدكتور عن المرأة نوعاً من الصوفية الإيروتيكية التي تسعى لتوظيف إندفاعات جسدية محسوبة  في بلوغ مرتقيات الطهرانية الروحية الكفيلة بغسل أدران الحياة عن الروح ومدّها بالعزيمة للمضيّ في تحقيق الأهداف المرسومة بجرأة وثبات .

          طالب القانون الذي صار مثابة في الدراسات السردية  

 

   غريبة ومدهشة هي تصاريف الأقدار حقاً تلك التي نقرأ عنها في سيرة الدكتور عبد الله !! فبعد أن كان متفوقاً طيلة سنوات دراسته قبل الجامعية نراه يتخرّج من الدراسة الثانوية عام 1977 وينأى بنفسه عن الدراسة في كلية التربية بجامعة الموصل ( الجامعة الوحيدة الأقرب إلى كركوك حينها ) لأسباب سياسية ، ويفضّل دراسة القانون بجامعة بغداد البعيدة ، ثمّ تتطوّر الأمور فيجد نفسه على متن طائرة أخذته إلى مصر لدراسة القانون في جامعة ( عين شمس ) على نفقته الخاصة ، ثم يترك الدراسة هناك ويعود للعراق ويضطرّ اضطراراً للدراسة في قسم اللغة الإنكليزية بكلية التربية  في جامعة الموصل !! ثمّ ينقل مع بضع عشرات آخرين من زملائه لجامعة البصرة ، ثمّ   ينتقل من دراسة الإنكليزية إلى العربية وسط سلسلة من الوقائع التي لاتخلو من غرائبية فريدة .

   الحقّ أنّ هذه السيرة الذاتية تمدّنا بدليل ساطع – بين دلائل كثيرة مماثلة – على خطل السياسة التعليمية في بلداننا ، والعشوائية وعدم تقدير الكفاءات ، وشيوع حالة البيروقراطية المؤسساتية الي تجعل من الجامعات محض دوائر وظيفية لاتختلف في شيء عن دوائر الدولة ، وسوف نشهد حالة مماثلة لهذا الجمود الجامعي لاحقاً عندما يشرح الدكتور عبد الله الظروف التي أحاطت بكتابته لرسالة الدكتوراه في حقل ( السرديات العربية ) عندما إنبرى الكثيرون من القيّمين على اللغة العربية لكسر همّته عندما طالبوه بجعل عنوانها ( السرد العربي ) بدل ( السردية العربية ) ، ثمّ مطالبته لاحقاً بحذف فصل كامل منها بذريعة متهافتة ، في محاولة منهم للرجوع إلى المنهجيات القديمة في تناول التراث السردي العربي ، ويسهب الدكتور عبد الله في هذه التفاصيل وأمثالها والتي أراها كاشفة عن الحال البائس الذي يسود مؤسساتنا الجامعية .

                           أثر النقطة الانفرادية

 

   ثمة في العلوم المعاصرة مفهوم شاع مؤخراً وبات معلماً مميزاً لها – ذاك هو النقطة الإنفرادية Singularity Point ، وتعني في معناها العام مستوى تكون فيه خواص المستويات السابقة له مختلفة نوعياً وعلى نحوٍ صارخ عن المستويات اللاحقة ، وأرى أن هذا التوصيف العلميّ يصدق بأجلى مظاهره على الدكتور عبد الله ؛ إذ نراه يصنع نقطته الإنفرادية عندما بلغ السنة الثانية من دراسته الجامعية حينما يعتزم أن يكون أستاذاً جامعياً ، فأخذ نفسه بالعزم والشدّة وراح يختطّ لنفسه طريقاً متفرّداً ووضع لنفسه منهاجاً صارماً من القراءات الحديثة ، واندفع يطلب المصادر الحديثة من مكتبة الجامعة المركزية وكذلك من مكتبة المعهد الثقافي البريطاني ، وحصل – لحسن حظّه وبشائر سعده – أن جولاته القرائية العزوم تلك جادت له ببعض النساء اللواتي قطّرن العذوبة والنشوة في حياته ودفعنه لمواصلة سعيه الجاد في إطار مثلثه الأقنومي المشتهى ( القراءة – الكتابة – المرأة ) .

          من السايكولوجيا الفردية إلى السايكولوجيا الجمعية

 

   تأخذ السيرة الذاتية إبتداء من الموجة الثالثة ( ضمن موجاتها الإحدى عشرة ) بالإنعطاف من السايكولوجيا الفردية نحو ترسّم معالم سايكولوجيا الجماعة الكبيرة ، وليس هذا بغريب إذا ماعلمنا أنّ هذا الفصل يحكي عن تجربة الدكتور عبد الله في الحياة العسكرية عندما صار ضابطاً مجنداً في الجيش إبان الحرب العراقية – الإيرانية ، والحرب – كما هو معروف – تجربة شديدة القسوة أينما كانت وبصرف النظر عن طبيعة المجتمعات ومدى تجذّر التقاليد الليبرالية فيها ، وهنا لنا أن نتصوّر كم ستكون قاسية في بيئة محكومة بنظام حديدي شمولي صارم ، وقد جاءت الحرب لتفاقم هذه القسوة التي يبدع الدكتور عبد الله في رسم ملامحها على حياة المجنّدين الإحتياط في الجيش العراقيّ .

   كان في عداد الصدف الجميلة أن يقضي الدكتور عبد الله خدمته كضابط مجنّد في كلية القوة الجوية والدفاع الجوي بعيداً عن الخطوط الأمامية للجبهة ؛ لكن مع هذا تطلّب الأمر أن يمضي بعض الوقت في الجبهات الأمامية طبقاً لنظام المعايشة ، ونقرأ في ثنايا السيرة الكثير من المواقف الصعبة والشاقة عن ظروف الحرب ومكابداتها المدمّرة للروح حيث تترك متطلبات الإنصياع للأوامر العسكرية لبعض أكثر الناس تأزماً جروحها العميقة في الروح البشرية التي تميل للوداعة والمسالمة .

   لا يخفي الدكتور عبد الله تأثير تلك التجربة في حياته ، والكيفية التي جعلته يتشبّث بأداء الواجبات بأدقّ تفاصيلها تجنباً لأي إحتكاك غير مرغوب فيه ؛ غير أنّ ذلك التأثير طبع حياته لسنوات عديدة لاحقة وتطلّب الكثير من الجهد والمشقة لإعادة ضبط إيقاع الحياة مع متطلبات الهدف المرسوم لحياته وبدفعٍ من شهوة الحياة التي جادت بها القراءة والنساء .

        عاشق السرديات الذي كاد أن ينتهي موظفاً دبلوماسياً

 

   نقرأ في السيرة الذاتية جانباً من جوانب المأساة الأكاديمية العراقية المفتقدة للتقاليد الرصينة وحيث تفرض متطلبات العيش قيودها على البحّاثة والدارسين من جهة ، وحيث يعيش المرء تحت طائلة الخوف من أن يكون ضحية للقوانين الصارمة ( وبخاصة القوانين العسكرية ) فيضطرّ حينئذ لسلوك مسالك تبدو للمراقب من بعيد وكأنها إنقطاع فجائي عبثي في مسيرة المرء !! ، وهذا ماحصل للدكتور عبد الله عندما أضطرّ لطلب التعيين في وزارة الخارجية العراقية طلباً للقمة العيش من جهة ، وابتعاداً عن الإنخراط في المؤسسة العسكرية ثانية بعد أن ظهر قبوله في قوائم الدراسات العليا ، وسيضطرّ لاحقاً لطلب الإستقالة من هذه الوزارة للمضيّ في دراسته العليا .

   إنّ التفاصيل التي نقرأ عنها هنا تكشف جانباً مسكوتاً عنه من هزالة التخصيصات المالية التي تُفرَد للتعليم العالي بالمقارنة مع التخصيصات الضخمة التي تذهب لمرافق أخرى قد تكون غير منتجة ، وتلك واحدة من أكثر جوانب سوء التخطيط والإدارة في بلدان العالم الثالث .

           المشروع السرديّ : البداية والآفاق ورفقاء الرؤية

 

   تكاد أن تكون إحدى أكثر جوانب السيرة إمتاعاً ( على المستوى المفاهيميّ الثقافي ) تلك الخاصة بنشوء جماعة كركوك ، وكذلك جماعة المشروع النقدي الجديد التي ضمّت المؤلف والثلاثيّ ( سعيد الغانمي ، عوّاد علي ، محمد صابر عبيد ) ، والتي تبنّت توظيف المشاريع الثقافية البازغة حديثاً في المشروع السرديّ على الرغم من تنوّع مشارب أعضاء هذه الجماعة واختلاف دوافعهم للكتابة ، وقد أجاد المؤلف وأبدع في محاكمة المعوقات التي تعترض سبيل مثل هذه التجمعات الثقافية وبخاصة إذا ماكانوا ذوي انشغالات ثقافية متباينة ، وأرى أن مشهد مساءلة الآراء والإنجازات الذي حصلت وقائعه في أحد فنادق السليمانية ( خلال إحدى الفعاليات الثقافية ) بين الأعضاء الأربعة واحد من أكثر المشاهد إمتاعاً ويكشف عن الخلل المستعصي لإقامة أي شكل من أشكال التجمعات الثقافية ( على شاكلة حلقة فينا أو فرانكفورت مثلاً ) لأسباب كثيرة يمكن دراستها في مبحث مطوّل .

   لايكتفي الدكتور عبد الله بالإشارة إلى أعضاء جماعته السردية ؛ بل ثمة حشود من الأسماء الثقافية المهمة في تأريخ الثقافة العراقية ، وقد كان الدكتور موفقاً غاية التوفيق عندما أشار إلى حالة التباغض والتكاره والمغالبة على المغانم التي تسود الأوساط الثقافية العراقية والتي أراها حالة غير متناشزة مع مجمل نمط العلاقات السائدة في التشكلات المؤسساتية التي تعدّ ذيولاً طفيلية تعتاش على أعطيات الحكومة وتسود في أوساطها – وبخاصة بين أعضاء مجالسها التنفيذية – نوازع التغالب والإثرة والتدافع الشره لحصد المنافع الشخصية .

                       الحرب : ذاكرة الأوجاع العراقية  

   لايمكن لأية سيرة ذاتية عراقية – كما أحسب – أن تتغافل عن الحروب التي خاضها العراق وأثخنت جسده أوجاعاً مزمنة مثلما تركت ندوبها في أرواح مواطنيه ، وقد أفاض الدكتور عبد الله في جزء كبير من سيرته الذاتية في رسم معالم هذه الحروب وتداعياتها الخطيرة في الحياة العراقية ، ونلمح نوعاً من التأكيد على التفاصيل الوقائعية لتلك الحروب وعلى نحوٍ بدت فيه السيرة وكأنها ذاكرة وثائقية لآثار تلك الحروب ، وتلك خطوة مفهومة من جانب الدكتور عبد الله سعى من ورائها التأكيد على أن تلك الحروب باتت معلماً أساسياً في الذاكرة العراقية ، وأنّ مقادير حظوظ العراقيين ترتّبت بفعل مقادير تلك الحروب وآثارها المدمرة .

                           سيرة المنفى العراقي

 

   صار المنفى بالنسبة للعراقيّ – وبخاصة للإنتلجنسيا العراقية – سمة رئيسية في عقد التسعينيات من القرن العشرين والسنوات اللاحقة له كذلك ، وقد نال الدكتور عبد الله جرعته الكبيرة من سنوات النفي الطوعي ؛ فبعد أن عمل أستاذاً للسرد في الجامعة المستنصرية غادر صوب عمان بحثاً عن فرصة عمل أفضل تسدّ شيئاً من الرتق الإقتصادي الفظيع الذي طال العراقيين إبان سنوات الحصار الجائرة ، ثمّ ينتهي المطاف به أستاذاً في إحدى الجامعات الليبية على تخوم الحدود الليبية – التونسية قريباً من موجات البحر المتوسطي الذي أتاح له بعض التفرّغ لإنجاز مؤلفاته السردية المهمّة برغم كلّ المستويات المتواضعة في البيئة الجامعية التي لم تكن لتتفق مع تطلعاته الكبيرة ، وقد حصل بعدها أن سعى للتدريس في جامعة إماراتية ؛ غير أنّ المقادير حملته لجامعة قطر ، وهناك بدأت فصول جديدة من مسيرته السردية الخلاقة التي تتوّجت بنشر ( موسوعة السرد العربيّ ) غير المسبوقة في حقل الدراسات الثقافية العربية .

                        العراق المتخيّل في المنفى

 

   يختصر الدكتور عبد الله في سيرته رؤيته المتخيّلة لعراقه البعيد في مقطع عظيم الدلالة ينطوي على توصيف دقيق لإعادة الهيكلة  السايكولوجية القلقة والضرورية معاً التي تتطلّب كبح النوازع النوستالجية الطبيعية وتطويعها للحفاظ على رؤية متخيلة لعراق محفوظ في المخيال الفردي بعيداً عن صور الرثاثة التي سادت في عراق مابعد العقد السبعينيّ من القرن العشرين . يكتب الدكتور عبد الله في هذا الصدد :

   غيَّرت العزلة نظام حياتي في بلاد الرمال ، فانقطعت عن كل شيء تقريبًا إلا القراءة والكتابة، وبعض الأسفار، فضلاً عن المحاضرات القليلة التي كُلِّفت بها، وبدأ يضمحلُّ الإيقاع الساخط لحياتي العراقية ، وبه استبدلت ذكريات عن أشخاص ، وأحداث، وأمكنة ؛ لكن الحال المتعفِّنة في العراق صدَّتني عن الحنين إليه. عكفت بقوة لا تنقصها البراعة على إعادة تشكيل ذاتي غريبًا في مجتمع لم يحسم أمر قبوله لي، فكأنني بذلك حقَّقت ما كنت أصبو إليه ، وهو أن أتحلَّل من روابط ورثتها من الماضي، ومع ذلك اتَّخذتْ علاقتي بالعراق شكلاً أكثر شفافية، وتدافعت سلسلة متداخلة من الذكريات إلى نفسي أخذت تزيح إلى الوراء تشدُّدي الممزوج بنقمة لاتخفى على الأوضاع السائدة فيه ؛ فتجلَّى لي محضنًا دافئًا لمسار حياتي في مظهرها الجميل ، ورُحت أُؤثث في مخيلتي لعراق مفعم بالبهجة يطابق صورته القديمة في خاطري ؛ فلم أعد ، في ضوء هذا الترتيب الجديد، أحس بالانفصال عنه ، لكنني آثرت ، بيقظة لا تكلُّ، مراقبة عواطفي كيلا أتَّصل به مجدَّدًا وهو رهين الأمر الذي دفعني إلى مغادرته ، حتى لو بقيت بعيدًا عنه إلى الأبد . ( صفحة 493 من السيرة )

 

 

                                عراق مابعد 2003 :

                   إنتهى عصر الحمقى وبدأ عصر الغُشَماء

 

   يخصّص الدكتور عبد الله الموجة الأخيرة في سيرته الذاتية للكتابة عن حال عراق مابعد 2003 ، وهو مايوصف بالعراق الأمريكيّ في الأدبيات التي تتناول ستراتيجيات النفوذ والهيمنة الدولية ، وقد أسهب الدكتور في وصف المؤثرات الفاعلة في هذا العصر الذي خلع عليه وصف ” عصر الغشماء ” : الغشماء في كلّ المستويات وعلى شتى الأصعدة . كتب الدكتور عبد الله في سيرته :

   رأيت أن العراقيين القادمين من الخارج ، وأولئك المقيمين في الداخل ، غير مؤهَّلين لتمثيل تجربة ليبرالية ديمقراطية حقيقية لأسباب عملية؛ فأهل الخارج مشبعون بأفكار: الثأر، والتشرُّد ، والاضطهاد ، والمنافي، ومعرفتهم بطُرز الحياة الديمقراطية معرفة ذهنية لا سلوكية ، وكانوا طارئين في بلاد كثيرة ، لكنهم لم يندمجوا في أهلها، وقد عامَتْ خواطر الاستئصال والعقاب في مؤتمراتهم كلِّها، وما نفذ التسامح إلى نفوسهم، وإلى ذلك فإنّ اقتباس نماذج  جاهزة للحكم محفوف بالخطر، فالعراق بحاجة إلى تطوير أنموذج ينبثق من صلب التنوُّعات الموجودة في البلاد مستفيدًا من تجارب الآخرين. وبالإجمال، فهم يشعرون بأن العراق مكان لممارسة سياسة الثأر والانتفاع وليس وطنًا يتشاركون فيه مع الآخرين ……….. أما أهل الداخل فحُرموا من التدرُّب على مفاهيم الحرية ، والاختلاف، والشراكة، وصيغوا في المدارس والجامعات ، وفي التنظيمات الحزبية ، وفي ظل إعلام مغلق، وحكم استبدادي مطلق ، على الخوف والطاعة، ومهما كان الحكم قاسيًا في المستقبل على ماأقوله ، فهم غير قادرين عشيَّة الاحتلال وفي أثنائه ، على اختيار حصيف لمستقبل العراق ……… ( صفحة 561 – 562 من السيرة ) .

 

   ينتهي الدكتور عبد الله إلى التعبير عن خشيته من الهوة السحيقة التي سينتهي إليها عراق الغشماء لامحالة ؛ فيواصل الكتابة ليقول :

   بدأت أخشى من انحسار الروح الدنيوية ، وتعذَّر عليَّ الإيمان بخدع مزورة، وظل هذا الاستشعار ملازمًا لي ؛ فكلَّما تقدَّم الزمن إنحسرت مباهج الدنيا، فكأنَّ سحر القرون الوسطى يبسط يوتوبيا جديدة ، وصار وعد الآخرة أشد حضوراً في حياة الناس من إيقاع الدنيا، وحينما خيَّم الاستبداد السياسي والدِّيني نُذِرَت الجموع للأساطير ……… ( صفحة 568 من السيرة )

 

  

                           خلاصة الحكمة المعتّقة

                     الوعي : جدلية التجاوز المستديم

 

   جاءت هذه السيرة مصداقاً للتجاوز المستديم للأفكار والقناعات والطروحات ، وقد عبّر الدكتور عبد الله عن هذه الحقيقة أفضل تعبير عندما كتب في سيرته الذاتية العبارات الكاشفة التالية التي تذكّرنا بكتابات الرائين الخلّص الذين دأبوا على السعي نحو الرؤية الخلاصية الفردية بعد إنغلاق الخلاص الجماعيّ :

    جعلتني رضَّة الحرب أفكِّر بالعراق في ضوء مختلف، وتبيَّن لي أنني لم أزل مشوشًا ؛ فلا يستقيم أمر الوعي بالرغبة والادِّعاء ؛إنما بالتجارب والملامسات المباشرة.  وكلَّما حاولت أن أطوِّر وعيًا في قضية أجدني خاملاً  في أخرى. ولعلي أدرك الآن بأن اكتساب الوعي كاملاً أمر مستحيل ؛ فالمرء تلتبس لديه أحاسيس متداخلة من الماضي والحاضر، ومن العلاقات والمصالح، ومن التأملات والمخاوف، وهو بحاجة لإعادة تعريف وعيه المتواصل بالظواهر التي تحيط به .  يترقَّب الآخرون مسارًا متصاعدًا للوعي بكل شيء، لكن مساراته ملتوية، ومتداخلة، وبطيئة، ويصعب التنبؤ بالنهايات التي ستنتهي إليها، وهي كالأمواج المتلاطمة، تتدافع حينًا، وتتتابع حينًا آخر، فتنحسر موجة لتظهر أخرى . ( صفحة 432 من السيرة )

 

   ثمة موضع آخر من السيرة نقرأ فيه مايدعم الفكرة السابقة ويستزيد عليها ، وهي أقرب إلى خلاصة رؤيوية تتصادى مع متطلبات الرؤية الإنسانية العولمية ، وقد أجاد الدكتور عبد الله أيّما إجادة في الإشارة إليها في سيرته ووجد فيها حلاً لمعضلة وجودية ملحّة ، فكتب قائلاً :

   وقد حلَّ لي راهب سكسوني يُدعى فيكتور، عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، تلك المعضلة ؛ إذ قال : لعل من أهم مصادر الفضيلة ، لدى الإنسان ذي العقل السليم ، أن يتدرَّب منذ البداية ، ثم خطوة إثر خطوة بعد ذلك ، على تغيير نظرته إلى الأشياء الطارئة ، لكي يتخطَّاها؛ فالإنسان الذي يؤمن أن بلاده أثيرة إنما هو غرٌّ طريُّ العود ، أما الذي يرى في وطنه الأرضَ كلها فقد بلغ مشارف القوة ؛  لكنّ المرء لا يبلغ الكمال إن لم يجد أن العالم بأجمعه غريب عنه ؛ فالغضُّ هو الذي يركِّز حبه على بقعة من العالم ، والقوي هو الذي يغزو بحبِّه العالم ، أما الكامل فهو الإنسان الذي أطفأ جذوة حبه إلى الأبد . ( صفحة 494 من السيرة )

 

 

_______

العنوان : أمواج : سيرة عراقية

المؤلّف : الدكتور عبد الله إبراهيم

دار النشر : دار جامعة حمد بن خليفة للنشر بالإشتراك مع

                بلوومزبيري للنشر ، لندن

سنة النشر : 2017

عدد الصفحات : 575
_________

*المدى

 

 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *