خاص- ثقافات
*زيد الشهيد
ما من شك ، وليس تجاوزاً القول أن عصرنا ونحن ندخل مبتدآت القرن الواحد والعشرين هو عصر الارتباك الحضاري بحساب التجمع البشري على جغرافية الأرض ، مثلما هو عصر القلق لما يجري من تغيير نمط حياتي وتسارع مذهل ومهول في أسلوبية الحياة . فقد مهدَت ثورة الاتصالات وسائل اختراق حياة الأمم ، واندفعت تسبر أغوار عيشها اليومي ومشاعرها الآنية ما جعل كل شيء في عري تام : سوسيولوجياًً وسياساً واقتصادياً وفكرياً وكشف أنماط الحياة التي تعيشها الأمم هذه ؛ مُظهِرةً المتقارَب بين بعضها والمتفاوَت بين بعضٍ آخر .
فبعد أن شرع الإنسان في مبتدأ وجوده على الأرض باستخدام الإشارة لغةً للتحدث مثلما هي كتابة للتعبير عن آرائه حيث الكتابة برأي سوسير تعني تقديم اللغة المنطوقة في شكل بصري ، انتقل غب ازدياد الوعي وتراكم التساؤلات والاستفهامات ( عن المحيط والجدوى من الوجود ، مَن صنعه ، ومَن يسيره ؟ ) إلى إنتاج وسائل متعددة للتواصل . وكلما مرّت حقبةً ارتفع لديه مستوى الوعي . ومع هذا الوعي تنمو محصلة القلق والارتباك والخشية من عدم إدراك المآل .. لا ، بل صار هذا المآل سرّاً مبهماً سرمدياً ، وأدرك الإنسان أنه مهما أدرك وتوصل فإنه لم يصل سوى إلى محطة بسيطة ومجهولة من محطات المطلق الذي ليس له انتهاء ولا إدراك .
ويشير محمد سناجلة رئيس اتحاد أدباء الانترنيت في مقالة له بعنوان ( العصر الرقمي والرواية ) إلى عصرنا المأزوم المرتبك ، المُهاجَم بكل ما ولدته العولمة وخلقته ورمته في طريق سير البشرية بقوله : ” إنّ لحظات التّحوّل في التاريخ البشريّ هي لحظات ارتباك وحيرة للغالبيّة الكبرى من البشر، وهي لحظات ارتباك لأنها لحظات تفصل بين زمنين وطريقتين مختلفتين للحياة ، وهي لحظات قد تبدو مشوّهة أيضاً، وذلك لما يعتريها من غموض وحيرة وضبابيّة في الرؤية، إنها تشبه تماما تلك الحالة التي يتحوّل فيها الإنسان من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب . ” وبهذا يشير إلى صعوبة وتعقيدات تقبّل المتغيرات ومواجهة التحولات . وهي حالة لا تبدو مرضية مستعصية غير قابلة على الحل والتجاوز ، ذلك أن الإنسان كأي مخلوق يدب على الأرض لا بدَّ أن يقف لمواجهة الظروف غير المألوفة : يقرأها ويدرسها ويتحاور معها ومن ثمة يتعامل معها للخروج بنتائج ترسم له مساراً جديداً لزمنه القادم حتى وهو يلج مساورة القلق من الدخيل الغريب الجديد .
فبعد أن كان الهاتف ( التلفون ) ” شيئاً مزعجاً ويشعر الناس بالضيق من وجوده ” داخل البيوت كدخيل آلي في وجودهم على حد قول ( بيل غيتس ) رغم كون هذا الجهاز يشكل عاملاً حضارياً متطوراً يقرّب الإنسان مع أخيه الإنسان ويشكل وسيلة يسيرة للتحاور رغم بعد المسافات انتفت من خلالها انتقال الإنسان من مكان إلى آخر من أجل ملاقاة مَن يرغب . ومع مرور الأيام تآلف هذا الإنسان المتضايق مع الوسيلة الحضرية الدخيلة واستحالت بالنسبة إليه أداة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها .. وبعد أن كانت المكتبة تحوي رفوفاً تضمُّ كتباً ومجلدات ، وأن على الراغب في الاستعارة والقراءة أن يمر بعدة مراحل من اجل الحصول على الكتاب ابتداءاً من البحث عنه في الفهرسة التي تحتويها الجوارير ومن ثم كتابتها على ورقة يجب أن تحوي اسم المؤلف وعنوان الكتاب ورقم تخزينه في المكتبة ومن ثم تسليمه للموظف المسؤول الذي سيغيب لبعض الوقت ليجلبه إليك وعليك في هذه الحالة الجلوس في بهو القراءة المُعدة لهذا الغرض أو طلب استعارته للقراءة الخارجية . نقول بعد كل هذه المحاولات المتتالية صار من السهولة الحصول على الكتاب وأنت في بيتك لا تتجشم عناء الذهاب إلى المكتبة والبحث ؛ وفي هذا توفير للجهد والوقت . وإذا كان عليك الذهاب هذا اليوم إلى المكتبة لن تجد الرفوف المليئة بالكتب فقط ( تلك التي تعيدك إلى صورة المكتبة التقليدية ) بل صرنا نرى المكتبات الحديثة المواكبة لمسار التطور الحضاري والثورة المعلوماتية تضم أيضاً قاعات لاستخدام الكومبيوتر وتفعيل شبكة الانترنيت وتوفير جهاز ” متصفح كتاب ” حيث الدخول على الكتب وتصفحها ورقةً فورقة ، وعلى المجلات والجرائد لمعرفة الأخبار السريعة الحدوث والخاطفة الانتقال بأسلوب ( on line ) او متابعتها صفحة فصفحة بعناوينها وصورها وأخبارها كما وردت مطبوعة بحروفها وكلماتها يوم أن صدرت وصارت بيد القراء باستخدام شفرة ( p d f ) وإذا أردت انتفاء كل ذلك فبمقدورك عبر القرص المدمج قراءة عشرات الكتب بشكل معلومات مضغوطة تلغي لديك حمل هذه الكتب التي قد يتجاوز وزنها عدد من الكيلوغرامات بينما لا يكلفك القرص المدمج سوى فراغاً لا يذكر في جيبك .
القراءة .. ألفباء التحضر
تُقر المعطيات الموضوعية أنَّ الفرد المتعلم يعني أنه هوية مُعلَنة للمجتمع المتحضر . ويمكن قياس تقدم أي مجتمع بنسبة عدد متعلميه . وعندما نشير إلى التعليم فإننا نشير ضمن إطار هذه المفردة إلى الثقافة التي تشكل هوية قومية ، والمعرفة التي تشير إلى تواصل إنساني . والتعلّم كمحصلة إجمالية تقع بالدرجة الأولى على عاتق المؤسسة التربوية التي تختزل للفرد طرق التعلم وتختصر له طريق الوصول إلى آفاق المعرفة . ومن هذه المؤسسة يستطيع المتعلم اكتساب سلوك القراءة الصحيحة والتعلم العلمي سيما ونحن نعيش زمن صراع الحضارات ولهاثها العلمي المحموم حيث المؤسسات التربوية على وجه الخصوص تزرع في نفوس أبنائها ضرورة نهل العلم والأخذ به من أجل بناء صرح علمي ينال حظوة الآخرين ويزرع فيهم النظرة الاعجابية والادهاشية . ومن يراجع ميزانيات الدول التي تقدمت وبلغت أوج تقدمها العلمي والمعرفي سيكتشف أن نسبة كبيرة جداً ومتميزة قد رُصدت لميدان التربية والتعليم بمراحله المتفاوتة ومناحيه المتنوعة وانتقلت تلك الدول في طرق تدريسها وإعطاء المعلومة لأبنائها من التلقين وأسلوب المحاضرات إلى طور الورش والتفاعل الجماعي الإنتاجي الذي ينمي في دواخل الفرد روع الإبداع والابتكار والإنتاج ، ومُهِدت له كل متطلبات الارتقاء به نحو مصافي الخلق الفاعل . واليوم حيث تتطلع عيون دول العالم المتأخرة عن ركب الحضارة إلى منابت التكنولوجيا الغربية لا بد لهذه الدول من السعي لإدراك محطات التكنولوجيا والعمل على أن تكون بموازاتها اعتماداً على أبناء يقرأون ويجدّون وفق نظم تعليمية علمية وموضوعية .فـالدول المتقدمة كما ترى السيدة أماني محمد في بحث لها يحمل عنوان – المنهج المدرسي والعولمة – لم تقطع شوطا بعيدا في طريق التقدم إلا من خلال أبنائها الذين استطاعوا أن يضيفوا إلي المعرفة تراكمات جيل بعد جيل ، وهم أيضا الذين صنعوا التكنولوجيا وأدخلوا عليها كل ما ظهر من تطوير . ” كما يشير أحدهم وهي محصلة ديمومية اعتمدها الإنسان منذ بدء الخليقة يوم كتب على البردي والحجر والعظام لحفظ موروثة مروراً باختراعه الورق وانتقاله إلى الطباعة ثم النشر ووصوله أخيراً إلى الثورة المعلوماتية حيث دفق المعلومات وتهافت الإنجازات وظهور الكتاب الالكتروني الذي يعتمد قراءة خاصة صار يطلق عليها ( القراءة فوق النصية ) وهي التي تتجاوز في مضمونها القراءة التقليدية أو القراءة المسطَّحة كما يُقال عنها حديثاً التي تقع على النقيض من القراءة فوق النصية . والقراءة الأخيرة هذه التي تعتمد اليوم الجلوس أمام الشاشة الزرقاء لا تقتصر على قراءة النص الذي أمامك بل تنقلك إلى أبعاد مختلفة لها مصادر وصفحات عبر أبواب جديدة تفتحها بنفسك وقد هيأتها لك تقنية العرض . وهذه الأبواب لا تقتصر على مفردات مكتوبة فحسب بل قد تصاحبها الصور التوضيحية والتخطيطات وحتى الموسيقى التي تشكل مصدر من المصادر التي تعزز موضوع القراءة . وتوفير تقني كهذا يعجز الكتاب التقليدي عن توفيره ، وتصبح القراءة المسطحة قراءة أحادية البعد . وقد تفتح القراءة فوق النصية نافذة للقراء في المشاركة بإغناء النص المطروح بالمعلومات التي يمتلكها هؤلاء القراء أو بالتعليق وإبداء الآراء ما يخلق عملية تفاعلية لا تجدها في القراءة المسطحة أي وأنت في مواجهة الكتاب المطبوع بين يديك .. إننا كثيراً ما يلفت انتباهنا ونحن ندخل على موضوع منشور الكترونياً تلك التعليقات والمداخلات التي يساهم بها القراء فنجد فيها المعلومة المهمة المضافة والتعليق الجاد المؤثر فنطري في دواخلنا على هذا الإنجاز الخارق والثورة المعرفية المهمة .
إشكالات القراءة الالكترونية :
يكمن العديد من الإشكالات في طبيعة القراءة الالكترونية يتمثل بعضها في عدم الشعور بلذاذة القراءة من على الشاشة ، أو عدم التهيؤ الكافي لفهم وتقبل فحوى الموضوع المنشور الكترونياً ذلك أن الكثير من القراء ما زالوا لا يستعذبون القراءة وجهاً لوجه مع الشاشة فيعمدون إلى طبع الموضوع على الورق ومن ثم قراءته القراءة التقليدية . وهذه ليست معضلة ولا تشكل نكوصاً ، وهي لست من محبطات وجود القراءة بقدر ما هي مسألة وقت ؛ إذ القارىء اعتاد القراءة الورقية طوال سني حياته السابقة ومن غير الممكن الانتقالة المفاجئة والسريعة إلى القراءة الالكترونية . وهذا يعني أن القارىء يحتاج إلى دربة وعملية تدريجية تجعلانه يألف طريقة القراءة الجديد ويعتاد عليها . وحتماً ستغدو القراءة الالكترونية يسيرة عليه ؛ لا بل ستغدو القراءة الورقية بعد حين متعبة له ومُرهقة . وربما سنجد أجيالاً قادمة تنظر إلى الكتاب على أنه تراث كان أجدادهم يتسخدمونه وسيلة مثلى للقراءة ، ويومها سيتأسون علينا كوننا كنا نرهق أنفسنا في طباعة الأفكار على ورقٍ يستدعي منا تجميعه وتصفيفه وجعله بين دفتي غلاف ، ويكبرون علينا أننا جمعنا جبالاً هائلة من هذه الكتب وأعطيناها أماكن كبيرة داخل قاعات وعلى رفوف لا حدَّ لها ، بل سيقهقهون دهشةً عندما يجدون أن الكثير منّا انَّما كان يتباهى بامتلاكه مكتبة بيتية يجمع فيها كتباً فيجعلها جزءاً متمماً من إكسسوارات البيت وبهرجته التي تثير الزائر وتترك لديه انطباعاً بانَّ صاحبَ هذه الكتب مثقفٌ ومتعلمٌ يتميز عن غيره باقتنائه هذه الكتب التي ستغدو جميعاً بمحتوى ثلاث أو أربع رقائق معدنية في حاوية لا تتعدى علبة احتواء ” السيكار ” يضعها هو على طاولة أو يركنها فوق رفٍّ صغير .
خلاصة القول أننا مقبلون على تغيير حياتي دراماتيكي ليس على مستوى القراءة كإحدى الممارسات اليومية التي على الإنسان أن يؤدّيها بل على المستوى الشمولي للحياة علينا تقبله شئنا أم أبينا . تغيير سيطيح بكثير من الثوابت لدينا أو تلك التي نعدّها ثوابت خالقاً طريقاً جديداً للحياة يجب سلوكه والتعامل مع تأثيثاته والخوض في غمار شيئياته كحقيقة واقعة لابدّ منها . هذا إذا أردنا أن نكون معاصرين نتقبل الآتي بموضوعية العارف أن لا شيء يبقى ثابتاً وحصيناً ، وأنَّ التغيير محصّلة وجودية ديالكتيكية بعيدة عن الستاتيك آيلة إلى نفي النفي كقانون يُقره العلم وتفرضه الحقائق .