خاص- ثقافات
حامد عبدالحسين حميدي – ناقد عراقي
تعدّ الرواية نوعاً هاماً في تجسيد المجتمع بكل حيثياته، إذ أنها ترصد كل شاردة وواردة، تدخل في سرديات حياتنا المكتظة بالهوس والجنون والهدوء دون استئذان، تبصر في خبايانا المستترة، لتبرزها ضمن تداعيات مجتمعية، والروائي الناجح هو من يحوّلها إلى منطقة جذب للقارئ، كونها مشغلا وورشة للكشف عن كل الايجابيات والسلبيات التي تحدث ، والرومانسية هي أحد أنواع الرواية التي نجد فيها الحب والعشق المثالي، والتي تبني علاقات اجتماعية بين الرجل والمرأة، فتثير العواطف والهواجس والأخيلة، وتشظيات الوجع والحزن والسعادة والفرح ..
( أنثى برائحة المطر ) (1) رواية لـ حيدر جواد المحمداوي (2)، مثلت أحداثاً حملت طابع العنونة بكل حرفية، وهو يجسّ ذاكرة أنثاه التي كان لها الدور الفاعل في تنشيط وتنامي الأحداث السردية، هذه الأنثى التي تركت رائحتها في زمن هكذا أراده القدر، أن يؤسس لمنطقة تشابك، تتوالد منه تفرعات لم تخضع إلا لفرضية الوقوع في شباك الغرام السردي، بطل الرواية تمثلت بشخصية ( سجاد ) الذي يحمل وزرها في توثيق ما لاقاه من تناقضات حياتية، فهو لم يحظ إلا بنزر قليل من السعادة بعدها تغيب تلك المناخات الضاجّة، فالعشق يقع تحت منظور طبقي : الطبقة البرجوازية ( تمثلت بمحبوبته مرام ) والطبقة الفقيرة ( التي جسدها هو )، هذه العقدة المتشابكة، والتي لم تنته إلا بفراق وانقطاع تامّ : ( ..، هي رواية تكتب بلا زمن مقيد الامل المفتقد منذ الولادة ازدواجية الشعور، حين اتكلم معها تتوقف الازمنة لدى ضجيج ضحكاتها يسرقني من واقع مرير هي تعويذة الحب الذي تفوح منه اشتهاء، .. ) ص 12 .
ما وقع بـ ( سجاد ) كان نسخة مطابقة لـصديقه ( سعيد ) وهي إشارة واضحة أن الأحداث حياتيا تتكرر باختلاف المسميات والأزمنة والأماكن، لذا نراه ينوّه إلى هذا : (، سعيد الذي جعلني أتوجس من القدر خشيت من أن يفعل بي أن يموت حبي أو يحكم عليه بالإعدام رميا بالقوانين الوضعية أو الأعراف، ما فعله مع سعيد لم يكن سهلا على مسامعي عندما سمعت ما حدث ) ص 16 .
وكأن الروائي ( المحمداوي ) يحاول أن يؤكد النسخ اليومي للأحداث الواقعة، فالتسلسل الروائي منتظم ونمطي يسير بشكل تراتبي وحسب ذاكرة لم تحمل سوى مكابدات أيقظت ذلك الصمت، ثم يسلط الروائي الضوء على ( سعيد ) ليمنح القارئ متعة تتبع هذه الشخصية، التي اصبحت الشخصية المركبة ( سجاد ) صورة منعكسة لها، ( سعيد ) يعيش في جوّ تسوده العلاقات السلمية بين المذاهب والطوائف على اختلاف مسمياتها، شخصية ملتزمة دينياً يمارس طقوسه العبادية بانتظام، يساعد والدته كونها مريضة وتعاني من الضغط والربو فهي غير قادرة على الاعمال المنزلية، مع اخوته ( احمد ومشعل )، ملاحظة والده من تغيرات في وجه سعيد كانت مدعاة قلق لديه، بسبب ما يتعرض له من ضغط نفسي وإحباط ازاء عدم لقائه بمحبوبته، وإذا بها تحلّ مع اهلها ضيوفاً عليهم، يتحايل ( سعيد ) : ( وهنا لمعت في ذهني فكرة جهنمية، سأذهب إلى والدتي وأقول لها بان جدي جاءني في المنام وكان يشتهي طبقا من ( الشيخ محشي ) فالأمهات يصدقن مطالب الاموات في الحلم . ) ص 29 .
كل ذا .. لجعل الفتاة ان تطبخ له ما يرغب بأن يأكل من يدي أنثى احبها ، هذه العلاقة استمرت لأربع سنوات، علّ الامل يكون سقفاً لهما، تتسارع الاحداث، وبعد عزوف أخيه الأكبر احمد من الزواج، تطرح عليه فكرة الزواج من والدته، موافقة الفتاة وأمها مكتملة عدا الاب، الذي نسف كل الأحلام، حينما اخبرته أمه بـ :
( – نعم يا ولدي والدها لم يوافق أخبرنا أنها ( محجوزة ) لابن عمها . ) ص 33 . هنا إشارة واضحة من لدن ( المحمداوي ) إلى قيود وأغلال العادات والتقاليد الصارمة التي تعصف بكل معالم الجمال أحيانا لتحيله إلى ركام ورماد، فالمجتمعات التي تمارس مثل هذه الضغوط، هي مجتمعات مغلقة لا تستطيع ان تنفلت من دوامة العُرف الاجتماعي / العشائري . تتطور الاحداث لنضع انفسنا امام ( العقدة ) الدرامية والمتمثلة ما وراء خيبة وهستيرية ( سعيد ) وعزمه على قتل ( ابن عمها ) :
( لم يتمكن من جمع حروفه بكلمة واحدة، لم اكترث ولم أسمع ما قاله أطلقت عليه ستة اطلاقات استقرت ثلاثة منها في رأسه والأخريات توجهن إلى قلبه فهوى من فوره وأخذته الدماء وتداخل صوت الاطلاقات مع صوت الأغنية، … ) ص 36 .
ليفرّ هارباً لما اقترفت يداه، بعدها يتوصل الطرفان إلى الهدنة أو ما يعرف بالعرف العشائري ( العطوة )، ليسلم ( سعيد ) نفسه إلى القضاء، ليحكم بـ ( خمسة عشر عاما )، قضى اربعا منها، ثم يخرج بقرار ( العفو العام )، ليتفاجأ بزواج فتاته من رجل ثري كويتي الجنسية أحد أصدقاء والدها، لينتهي حلمه في دهاليز الظلمة.
ثم يبدأ الروائي بالولوج في سرد مكابدات ( سجاد ) وبما لاقاه من معاناة، وعلى الرغم مما حملته هذه الرواية من حبّ وأحلام وتخيلات، إلا ان الروائي اصرّ إلا أن يضع في ثناياها جملة من الامور التي فرضت عليه نفسها لاعتبارات واقعية :
-
( لا مكان لفكرة الاطمئنان والسلام فضجيج الموت يحوم على رؤوسنا جميعا .. ) ص 44. اذا / الموت والدمار والخراب مفردات يومية تطالعنا، لأسباب طائفية أو قومية أو المولاة والتبعية، ومظاهر التسلح، والوصول إلى قناعة اصابة الفكر العراقي بفايروس الدماء .
-
اهتمام الروائي التعريف بمدارس الفن، ولاسيما الفن التجريدي والتكعيبي، وذكر بعض اشهر الفنانين التشكيلين امثال ( بابلو بيكاسو ) و ( ماليفتش ) و( نيتشه ) : ( لم أكن رساما ولا فنانا تشكيليا لكنني اعجبت بهذا الفن، وأصبح شغفي نتيجة لما سمعت وقرأت ورأيت لدى صديقي ميثاق … ) ص 49 .
-
معاناة الانسان العراقي، ولاسيما المتقاعدون الذي بات راتبهم التقاعدي لا يسدّ احتياجاتهم للظروف المعيشية وغلائها : ( … لتبدأ رحلة الثرثرة المملة من تلك السيدة الممتلئة الجسم بدأت السيدة بالحديث عن الرتب التقاعدي الذي لا يسد احتياجات عائلة صغيرة …. ) ص 62 .
-
تغليب القوانين القبلية والعشائرية ومحاولة إلباسها المظهر الديني من قبل بعض النفعيين، والتي حرمت الانسان من التعيش مع الاخرين بسلام .
-
ميل الكاتب إلى عرض مبادئ الشيوعية والتعريف بها، من خلال لقائه مع فتاة جامعية تدعى ( حنان ) : ( ..، التقيتها خارج الجامعة كانت تحمل بيدها كتاباً عنوناه ( المادية والمذهب النقدي التجريبي ) للمؤلف لينين، لم امتلك أي معلومة على شخصية المؤلف حتى اني لا اعرف ماذا يحتوي هذا الكتاب لذا سألتها عن المؤلف والكتاب لتخبرني بان صاحب الكتاب رجل شيوعي، … ) ص 148. لذا نجد حوارية دارت بينهما جسدت الذهاب إلى : (
– هذا يعني انك شيوعية
– نعم – قالتها وعيناها مليئة بالفخر
– سمعت يا عزيزتي ذات يوم من شخص يكبرني يقول :
– أن الشيوعية مبدأهم الانسانية والتساوي لكن لا اعرف أ هو صادق بما يقول لا أعلم فأنا لم التق بشيوعي واحد في حياتي … ) ص 148 .
-
الاعتزاز بالموروث والتراث، لأنه اصلنا وحضارتنا وماضينا ومستقبلنا .
-
التعايش السلمي مع المسيحيين، كونهم مكون اساس في المجتمع العراقي، على الرغم مما تعرضوا له من معاناة حقيقية على أرض الواقع .