نقطة الحدود

خاص- ثقافات

*محمود شقير

تتسلى المرأة بمجلّة مصوّرة، يرنو إليها بين الحين والآخر، تلاحظ المرأة ذلك، تقلّب صفحات مجلتها كأنما هي لا تعبأ بنظراته، غير أنها تسمع كل كلمة تدور بينه وبين سائق السيارة.

       منذ خمس سنوات لم يسافر خارج البلاد، ففي ذلك اليوم البعيد من أيام إحدى سنوات القحط أعادوه من المطار، لم يسأل عن السبب، غير أنهم طلبوا منه أن يراجعهم في الأمر، فأوضحوا له السبب، فلم يشأ أن يناقشهم فيه، واستعاض عن السفر إلى الخارج بالغوص في أعماق البلاد في تلك الأيام المقيتة من سنوات القحط: زار كل المدن وكل القرى، تعرّف على حياة الناس في الحقول والمراعي والمصانع والورش، رأى النساء وهن يحلبن ضروع الماعز الضامرة في الأمسيات الغامضة أمام بيوت القش والطين والتنك الصدىء، راقب أطفال الفلاحين الحفاة وهم يكبرون مع الجوع وغبار الطرقات التي تفوح منها روائح مياه عكرة، تدلقها من فوق السطوح أو من الشبابيك فتيات خجولات لهن خدود مثل تفاح فج، تزوج فتاة منهن بعد أن راقبها شهوراً وهي تطلّ على الطريق من خلف نافذة عتيقة، ثم لم تلبث أن ماتت بعد أن أعياها مرض غامض، فقرر بعد خمس سنوات من التطواف الداخلي، وتجرع المرارات والأحزان أن يغادر البلاد في رحلة طويلة إلى الخارج، لعله ينسى أحزانه التي أجّجتها في خاطره سنوات القحط القاسية الشرسة.

       حين أنهى مواله الطويل، ران صمت على ركاب السيارة. السائق يجفف العرق عن جبينه، والسيارة تمعن في التوجه نحو نقطة الحدود، والسهول المترامية على جانبي الشارع تجثم في استكانة تحت لفح الشمس. أغلقت المرأة مجلتها، حركتها أمام وجهها عدة مرات، فلم تشعر إلا بتيار من الهواء الساخن، أرخت المجلة فوق ساقيها، ورنت بعيداً عبر السهول. مدّ يده نحو المرأة، استأذنها أن تعيره المجلة، ابتسمت وهي تقدمها له، ابتسم وثبّت عينيه في عينيها لحظات، تصفح المجلة على عجل وهو يفكر بكلمات مناسبة يبدأ بها الحديث معها.

       فوجىء بالسائق يطلب من الركاب أن يهيئوا جوازات السفر، ارتبك، وتمنى في أعماقه أن تمرّ الرحلة على خير، تأمل خديها المتوردين، قال وهو يعيد المجلة إليها:

  • بعد نقطة الحدود، سيكون لدينا وقت للحديث.

رمقته بنظرة خاطفة وقالت بلهجة توحي بالحياد:

  • هل أنت متأكد من ذلك؟

أدرك من سؤالها أنها وعت كل كلمة قالها للسائق أثناء الرحلة، تأملها في مودة ثم هبط إلى مكاتب الحدود، أما هي فقد أخذ السائق جواز سفرها وطلب منها البقاء في السيارة توفيراً عليها واحتراماً لها.

حدّقت في أصناف الخلق من حولها، فلم تطق البقاء في السيارة وسط ضجيج الشاحنات وزعيق السائقين ونداءات الباعة، غادرت السيارة وتمشّت في الظل، والعرق الكثيف يبقع تحت إبطيها، قالت لنفسها: لو أنني أخرت سفري إلى المساء لتجنبت كل هذا الحر، ثم تذكرت الرجل الذي لم يسافر منذ خمس سنوات، فاستشعرت شيئاً من الراحة الخفية وهي تستعيد نظراته المليئة بالتوقعات.

عادت إلى السيارة حينما رأت السائق يعود ومن خلفه بقية الركاب ما عدا ذلك الرجل، همّت أن تسأل السائق عنه، غير أنها لم تشأ أن تبدي تسرعاً ملحوظاَ، أدار السائق محرك السيارة، فهمت المرأة كل شيء، انطلقت السيارة مسرعة، تلفتت المرأة إلى الخلف، رأته يغادر نقطة الحدود عائداً إلى الداخل، لفّها أسى غامر، ظلّ السائق صامتاً طوال الطريق. نزّ عرق لزج بلل  صدر المرأة وفخذيها، ثم فكرت في اكتئاب:

     ليتني لم أٍسافر هذا اليوم على الإطلاق.

____________

*روائي وقاص فلسطيني.
من مجموعته “صمت النوافذ”/قصص قصيرة جداً/ منشورات الأهالي/ دمشق/ 1991

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *